الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل الدين عن الحكومة (10)
فصل الحكومة عن الدين *
ــ
- 3 -
ولعل رجال هذا المجلس- حين كانوا يخوضون في قضية (إصلاح القضاء الإسلامي) - كانوا يظنون أو يعتقدون أن القضاء في الإسلام ليس من الدين، وإنما هو تشريعات زمنية، يأخذ منها الزمان ويدع، وهم في هذا بين اثنتين: الجهل بقيمة الإسلام، أو التجاهل، والإسلام يراعي المصالح الزمنية ويبني أحكامه على تطوراتها، ويكل إلى علمائه الراسخين في فقه الكتاب والسنّة أن يُراعوا لكل وقت أحواله، وأن يقيموا الموازين على أساس جلب المصلحة ودرء المفسدة، وأن يضعوا بين أيدي قضاة الإسلام من القواعد ما يعصمهم من الخطإ في التنفيذ، ولكن هذا التسامح كله إنما هو في غير ما (يعمر القلب، ويعمر البيت)، في غير ما يعمر القلب من توحيد وعبادة ناشئة عن التوحيد، وفي غير ما يعمر البيت ويكوّن الأسرة، من النكاح وتوابعه ولوازمه من حقوق الزوجية والنفقات وأحكام الطلاق والعدّة والصدقات والحمل والإرضاع، فكل أولئك من صميم الدين، بيّن الكتاب أصولها وحِكَمَها وأحكامها، وشرحت السنة القولية والعملية فروعها ودقائقها، ولم يتركها الله سدى ولا وكلها إلى الآراء والأزمنة، لأن دينه دين الفطرة
…
ومن لي بأن يفهم الناس والعلماء منهم معنى هذه الكلمة الجليلة، كلمة الفطرة؟ إنها لا تفهم من القواميس، وإنما تفهم بتفهم أسرار كلام الله، وكلام محمد بن عبد الله.
إن أحكام النكاح وتوابعه تعدّ من مفاخر التشريع الإسلامي المستند على الوحي الإلهي، ولا يوجد دين من الأديان السماوية أو الوضعية- ولا أستثني- اعتنى بهذه الأحكام وفضل القول فيها وبنى أصولها على الفطرة وما تحتمل وما لا تحتمل، إلا دين الإسلام، وحكمة ذلك كله أن هذه الأبواب هي التي تُبنى عليها الأسرة التي هي نواة الأمّة، وإن صلاح الأمّة
* نُشرت في العدد 159 من جريدة «البصائر» ، 27 فيفري سنة 1950.
وفسادها، تابعان لصلاح الأسرة وفسادها، فعناية الإسلام بهذه الأبواب أكبر برهان على عنايته بإصلاح الأمّة وإسعادها.
ولو أن العالم النفسي من علماء العصر يدرُس التشريع الإسلامي في منابعه الأولى وبلغته الأصلية، ثم يقابل بينه وبين قواعد علم النفس لآمن بالله وبدينه الحق. إن الطبائع الفردية في البشر تختلف وتتباين، وعوارض الحب والبغض تتغيّر وتزول، فمن الخطإ في التشريع أن تُجعل أساسًا لحكم عام، أو قاعدة اجتماعية، فالخلطة الطائرة القصيرة، المصحوبة بنزوات الشباب، التي يجعلها الأوروبيون شرطًا في الزواج، ويزعمون أنها ضامنة لدوام العشرة وسعادة البيت، قلما تصدُق، لأنها لا تكشف عن الجواهر الأخلاقية الأصلية، مع ما يصحبها من الغش والتصنع، وكثيرًا ما نرى الزوجين منهم بعد نُصول الصبغ الكاذب، وانكشاف الحقائق الطبيعية، يرجعان إلى حالة من المعاكسة والخلاف هي العذاب بعينه، والإسلام لا يبني على هذه الاعتبارات الزائلة، وإنما يبني على اعتبارات عُليا، إن لم تُلائم هوى طاغيًا في الفرد فإنها تلائم مصلحة المجموع. وإن كل ما قلناه ونقوله في هذا الموضوع إنما هو حال الإسلام، لا حال المسلمين.
…
نعتقد أن المثقفين من أعضاء المجلس المسلمين كانوا يعتقدون في القضية خلاف ما يعتقده زملاؤهم، كانوا يعتقدون أن هذه المسألة دينية، يجب الرجوعُ فيها إلى أهل العلم بالدين، ولكن صوت الحق في هذا المجلس تعلوه أصوات الباطل والجهل، فلا تدع قائل الحق يقول، ولا تسمعه إذا قال، لأن المجلس كان مأخوذًا بسحر الوحي ورهبته، فلم يُفق من غشيته حتى نزل الوحي الثاني بالمجلس، وقيل له: قف
…
فإن القضية ليست من خصائصك، وإنما هي من خصائص وزير العدل الإفرنسي في باريس.
ليت شعري
…
هل كان هذا مجهولًا يوم وُضعت القضية في جدول الأعمال؟
لا نعني أعضاء المجلس بهذا السؤال، فقد قرأنا في الأمثال أن الحائط قال للوتد لمَ تشقني؛ فقال له: سل من يدقني
…
...
وإذا كان أعضاء المجلس الجزائري يعتقدون ويقولون: إن القضاء ليس من الدين، فقد قالها قبلهم حاكم مسؤول منذ سبع سنوات، وكان هدفه في كلامه إثبات عدم "دينية" القضاء
ليمهّد للحكومة بقاء يدها مبسوطة عليه كالمسائل الإدارية، تبدّل وتغيّر و
…
وتلغى، فتناول هذه المسألة الدينية بمنطق استعماري، وفكر عنصري، ولم نستطع الردّ عليه إذ ذاك لعدم وجود صحيفة تنشر لنا، فاكتفينا بتوضيح المسألة في تقريرنا الذي قدّمناه للحكومة في رمضان 1363 ونص ما قلناه:
"القضاء بين المسلمين في أحوالهم الشخصية والمالية والجنائية جزء لا يتجزأ من دينهم، لأن الحكمَ بينهم فيها حكم من الله، ولأن أصولَ تلك الأحكام منصوصة في الكتاب والسنّة، وكل ما فيها فهو دين، ولأنهم ما خضعوا لتلك الأحكام إلا بصفة كونهم مسلمين.
والدولة الفرنسية نفسها تعترف بهذه الحقيقة اعترافًا صريحًا، فقد كانت إلى العهد القريب تعارض مطالبة الجزائريين بحقوقهم السياسية لتمسّكهم بالقانون الأساسي في الأحوال الشخصية. والحقيقة أن الحكومة الجزائرية منذ الاحتلال بَترت القضاء الإسلاميّ فانتزعت منه أحكام الجنايات والأحكام المالية، ولم تُبق له إلا أحكام النكاح والطلاق والمواريث، ولا ليتها أبقتها له حقيقة، ولكنها مع المطاولة احتكرت تعليمه واحتكرت وظائفه لمن يتخرجون على يدها وبتعاليمها، وجعلت نقض أحكامهم وتعقّبها بيد القضاة الفرنسيين، وأصبح القضاء الإسلامي حتى في هذا القدر الضئيل خاضعًا للقضاء الفرنسي وأصبح القضاةُ بحكم الضرورة لا يرجعون في أحكامهم إلى النصوص الفقهية، وإنما يرجعون إلى اللوائح التي يضعها وكلاء الحق العام الفرنسيون، وفي هذا من الإجحاف وظلم القضاء الإسلامي ما لا يرضى به المسلمون.
ولا ننسى أنها وقعت محاولات واستفتاءات في بعض الأحيان، يُراد منها إلغاء القضاء الإسلامي بالتدريج، وإرجاع مشمولاته إلى القضاء الفرنسي، إن المسلمين يشكون هذه الحال، ويشكون نتائجها السيّئة من الاضطراب والفوضى في المحاكمات، والضعف والجهل في القضاة، ويعلمون أن ذلك كله ناشئ من سوء التعليم القضائي وعن إهمال التربية الإسلامية الفاضلة التي هي الشرط الأساسي في القضاة، وعن استبداد القضاء الفرنسي على القضاء الإسلامي، وعن عدم شعور القضاة بمراقبة الأمّة لهم مراقبة دينية.
وجمعية العلماء والأمّة الإسلامية معها تطالب الحكومة الجزائرية بوضع حدّ لهذه الحالة الشاذة المضطربة".
ثم أجملنا رأينا في نقط الإصلاح اللازمة التي لا بدّ منها لمن يريد الإصلاح وله فيه قصد صالح ونية حسنة، ولو أن الحكومة أعارت مطالبنا الدينية التفاتًا من ذلك الحين، وقد مرّت بعده سبع سنوات، لأحسنت إلينا وإلى نفسها، ولخفّفتْ عنا وعن نفسها كثيرًا من هذه