الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكرى مبارك الميلي *
لا يظلّنا يوم 9 فبراير الغربي، حتى تتجدّد لنا من أخينا العزيز ذكريات، تمدّها حسرات، تتبعها زفرات، فنذكر مكانه في الميدان وقد خلا منه، ونفتقد نفوسنا فنجدها ما سلت عنه، ونعوذ بالتجلد فيخذل، وبالنسيان فلا ينجد، ونعود إلى خمس من السنين نسألها: أما فيك وفي أحداثك التي ابتدأت بعد موت مبارك بثلاثة أشهر ما يذهل فينسي، أو يشغل فيسلي؟ فتقول: لا
…
...
وسنو الخطوب، كسنيّ الخصوب، متشابهة الأواخر بالأوائل، تنتهي كما تبتدئ، وقد طلعت علينا تلك السنة السوداء بالداهية الدهياء، وهي موت مبارك، فانتزعت منا فارسًا من الميدان، أحوج ما كنا إلى رأيه وعلمه، وغنائه وكفاءته، ثم انتصفت علينا بالصيلم الصلعاء وهي حادثة 8 ماي، ثم انتهت وإخوان العهد كلهم في غيابات السجون والمعتقلات، ثم توالت الخطوب، وتواترت الفتن، وامتحن هذا الوطن بأشنع ما تمتحن به الأوطان: نقص في الرجال، ونقض للعهود، وضلال في الرأي، واختلاف فيه، وبقيت هذه الفئة القليلة مزوّدة بإيمانها بالله، متكثرة بأعمالها للعلم، تلقى الجفاء والتنكّر من القريب، فتعتصم بالصبر، وتلقى الكيد والتربّص من الغريب، فتتحصّن بالثبات؛ وهي على ذلك إلى أن يفتح الله بينها وبين قومها بالحق، ويحكم بينها وبين خصمها بالعدل، وهو خير الفاتحين، وأحكم الحاكمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
…
* نُشرت في العدد 109 من جريدة «البصائر» ، 27 فيفري سنة 1950.
ولكن هل أنصفنا أخانا مباركًا، وأنصفنا العلم معه إذا كان حظه منا بعد موته ذكريات تقام في كل عام، لا ذكرًا يتردّد في كل يوم، وكلمات عنه تقال فتذهب مع الريح أو تكتب فتدفن مع الأوراق؟ ذلك هو السؤال الذي كان يعتلج معناه في الصدور، وتختلج ألفاظه على الألسنة قبل أسبوعين، فقد كنت قبيل يوم الذكرى في جماعة من إخوان العهد، وأبناء الوفاء، نتذاكر في ذكرى هذه السنة، لأخينا مبارك، وما ينبغي أن نسلكه فيها من المسالك: آحتفالٌ يقام وخطب تلقى كالمعتاد؟ إن هذا تقليد مملول، أساء الناس تصريفه، وأساءوا التصرّف فيه، حتى أصبح لا يحرّك إحساسًا، ولا يثير عاطفة، ولا يهزّ شعورًا، ولا يأتي بخير، أصبح نوبة تعتاد، لا باعثًا يقتاد.
وتشعّب القول، فتشعّب الرأي حتى قال قائل حصيف: إن خير البر وأبقاه، وأحسن الذكر وأوقاه، ذلك الصنيع الجليل الذي أحيينا به ذكر عبد الحميد بن باديس، وإن المعهد لأبلغ من ألف خطبة تقال، وأسير من ألف مقالة تنشر، وأنفع للأمّة من ألف احتفال يقام، وأدلّ على الوفاء والاعتراف بالجميل لعبد الحميد بن باديس من ألف شاهد، فهلّا سلكنا في إحياء ذكر أخينا مبارك شِعبًا غير شعب الاحتفالات والمقالات؟ وهل عدلنا بأعمالنا وعظمائنا عن هذه المبتذلات؟
…
وكانت هذه الكلمات الحصيفة التي تنطوي على رأي، وتحتوي على حكمة، مغيرةً للحديث من مجرى إلى مجرى، فبردتْ الحمية للاحتفال والخطب والمقالات، ورحنا ندير القول في الذكر الدائم، لا في الذكرى العابرة
…
...
إن لأخينا مبارك الميلي على «البصائر» حقًّا، فقد تولّى إدارتها فأحسن الإدارة، إلى أن عطّلتها الحرب الأخيرة، وأجال قلمه البليغ في ميادينها، فما قصر عن شأو، ولا كبا دون غاية، وهي كانت ميدانًا لنشر كتابه (الشرك ومظاهره) فصولًا، وجمعه كتابًا، ولكن ماذا عسى أن تقوم به «البصائر» في وفاء هذا الدين الذي عليها لمبارك الميلي؟
…
إن مقالةً أو مقالات تنشرها عنه في السنة- وهي كل ما تستطيع- لا تخلص ذمة، ولا تفي بدين، وإنما تملك «البصائر» التوجيه والإعداد.
وإن لأخينا مبارك الميلي على جمعية العلماء حقوقًا، فقد كان مرجعها يوم تحلولك المشكلات، وتضلّ الآراء، فيشرق عليها بالرأي كأنه فلق الصبح، وقد كان معقلها يوم تشتبه المسالك، وتكاد الأقدام تزلّ، فيثبت على الحق كالجبل الراسي، وكان منها بحيث لا يجترئ عنها مجترئ، ولا يفتري عليها مفتري، إلا رمته منه بالسيف الذي لا تنبو مضاربه.
ويمينًا لولا ملازمة المرض الذي أودى به، وتأثيره في قوّته البدنية، وفي قوّته العقلية، لكان فلتةً في البطولة العلمية بهذا الوطن، كما كان آيةً في الذكاء ودقّة الفهم والجلد على البحث والاطلاع، وإنّ واجب جمعية العلماء في هذا النوع الطريف من إحياء ذكره ينحصر في ترويج الباقي من مؤلفاته المطبوعة، وإعادة طبعها طبعًا فنيًّا مصحّحًا، وإتمام تاريخه للجزائر.
وإن لأخينا مبارك الميلي على الأمّة الجزائرية حقوقًا بما علّم وكتب، وبما نصح وأرشد، وبما ردّ على الدين من عوادي المبتدعين، وبما وقف من مواقف في الإصلاح الديني والدنيوي. فمن وفائها له، ومن أدائها لبعض حقه، أن تنشط جمعية العلماءِ على إقامة معهد ثان بعاصمة الجزائر تطلق عليه اسم مبارك الميلي، وتحصي به ذكره، وتخدم به لغتها ودينها، وتخطو به في العلم خطوة للأمام.
هذه معان لما دار في ذلك المجلس، نعرض مقدّماته مسلمةً مقبولة، ونُلزم جمعية العلماء والأمّة بالتفكير في تحقيق النتائج.