الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمتنا عن الأئمة *
كتبنا في العدد 139 من «البصائر» كلمةً عن الأئمة الحكوميين، وبينا حكم الله- المبني على حكمته- فيهم، ثم شرحنا تلك الكلمة بكلمة ثانية في العدد 140، ثم وضّحناها بكلمة ثالثة في العدد 142، ثم سمعنا هيعةَ المغرب الأقصى فطرنا إليها خفافًا، ووافيناها مع الصبح سراعًا، وشغلنا عن واجب مهم بواجب أهمّ، ووصلنا جهادًا بجهاد، من غير أن نخرج عن دائرة الدفاع عن الدين، ومن غير أن نخسر واحدة من الحسنيين، وإذا كانت «البصائر» قد لقيتْ مصرعها في المغرب فتلك غاية الجهاد، وتلك عاقبة كنا نقدّرها، ولا نحذرها؛ وحسب هذا القلم شرفًا أن يطولَ بالحق قصرُه، وأن تحشرَ مع سيوف الفتح كِسَره، ولا نامت أعينُ الجبناء.
وها نحن أولاء نعود إلى الميدان الأول أوفرَ ما نكون نشاطًا، وأكثر ما نكون اغتباطًا، فقد كانت هذه الفترة كافيةً لاختمار تلك الكلمات عن الإمامة في الأذهان، ولتعرف المدى الذي وصلتْ إليه هذه الأمّة من تفهّم الحقائق الدينية العليا، فطالما شغلتهم الظواهر عن تلك الحقائق، وطالما ألهتهم القشور عن اللباب، وطالما غرّهم بالله ودينه الغرور، وطالما دسّ لهم الاستعمار السم في الدسم.
وانتهى إلينا من تسقط الأخبار، وقصّ الآثار، أن الأمّة كانت بعد تلك الكلمات أزواجًا ثلاثة: فأما الذين استنارت بصائرهم، وآمنوا بأن الدين لله، وأن بيوته لا يعمرها إلا من خشي الله، وأن تراث الإسلام لا يرثه إلا المسلمون فزادتهم تلك الكلمات إيمانًا بذلك واستبصارًا فيه وثباتًا عليه؛ وأما العوام المغرورون بالمداورة، والأتباع المجرورون بالمجاورة، فقد نقلهم صدى تلك الكلمات من رتبة اليقين بصحة الباطل، إلى رتبة
* نُشرت في العدد 153 من جريدة «البصائر» ، 30 أفريل سنة 1951.
الشك فيه، فهم يتساءلون، ثم تغلبهم العادة فيتساهلون، وأما الذين في قلوبهم مرض من الأئمة وأتباعهم، والمتشوفين إلى الوظائف من أشياعهم، فزادتهم مرضًا إلى مرضهم، وأصبحوا يخطبون بسبنا، والعاقل فيهم من يعرّض بذلك ولا يصرّح، وفزعوا إلى الفقه اللفظي، يقلّبون أوراقه ويستنجدونه ويستذرون منه بالكنف الذي لا يحمي، كأننا حين كتبنا تلك الكلمات كنا نجهل كلام الفقهاء في صفات الإمام وشرائط الإمامة وجوبًا وكمالًا، وكأننا كنّا غافلين عن أئمة صقلية والأندلس في فورات التغلّب، أو جاهلين بمعنى العبارة التي يردّدها المؤرّخون وهي "أن العدو أبقى لهم دينهم"، فإن معناها أنه أبقى لجماعة المسلمين التصرّف التام في دينهم، ومنه تولية الأئمة، وكأننا كنا بمنزلتهم في الجهل بأن الفقهاء إنما يذكرون الشروط الجزئية (الشخصية) وأما الكليات فتفهم من فعله صلى الله عليه وسلم وعمله، ومن مقاصد الشريعة العامة، ومن الحكم المنطوية في تلك المقاصد، ومن تلك الكليات أن الإسلام شرطٌ أولي في المولي (بالكسر) وفي المولّى (بالفتح) وأن الأول يكون أعلى قدرًا وأرفع منزلة في الإسلام من الثاني، ذلك أن المولّي للإمام هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نائبه وهو الخليفة، أو نائب الخليفة وهو الأمير، أو نائب الأمير، وهم جماعة المسلمين مجتمعين، وهؤلاء كلهم أعلى منزلة في الإسلام من الإمام، وما كانوا كذلك إلا بحكم الإسلام، فهل هؤلاء الأئمة مع من ولّاهم بهذه المنزلة؟ وهل يرضى منهم الإسلام أن يكونوا بهذه المنزلة؟
إن الإسلام لا يرضى للإمام الذي نصبه "شفيعًا" للمصلّين أن ينقلب فيصبح "متشفّعًا" لنيل الإمامة بمن لا يدين بالإسلام، بل بمن يهين الإسلام.
على أن الشرائط التي يذكرها الفقهاء في الإمامِ كلها حجة على هؤلاء الأئمة بألفاظها ومعانيها وحقائقها ومراميها، وكلّها عناوين على معادن من قوّة النفس والروح والعقل، ورموز إلى مراتبَ عليا مما يتفاوت فيه الناس حتى تصحّ إمامة واحد منهم، ولا تصحّ إمامة الآخر.
فهم يشترطون الإسلام، وهم يعنون به نوعًا يناسب هذه المرتبة الشريفة، وهو بالضرورة أعلى مما يشترط في الشاهد أو المذكي أو راعي الغنم، وهم يشترطون الذكورة، وهم يعنون بها الرجولة، ومغزاها في لغة الدين وفي لغة التخاطب مغزًى بعيد، يرجع إلى كمال الإنسانية، وهم يشترطون الفحولة، وهي تكميل لصفة الرجولة وقوّة لها، وهم يشترطون الحرية، ومعناها الجامع يتألّف من مجموعة فضائل، من استقلال الفهم واستقلال العلم واستقلال الفكر واستقلال الإرادة، والخلو من أنواع الاسترقاق كلها، وإن منها لما هو شرّ من استرقاق البدن بدركات، وحسبك باسترقاق الروح نقصًا، وحسبك به قادحًا في الإيمان فضلًا عن الإمامة.
فهل توفّرتْ هذه الشروط الفقهية في هؤلاء الأئمة حتى تكون إمامتهم صحيحة؟ أم هم يحسبون أن دين الله ألفاظ مما يتعايش به الناس في البيع والشراء، أو مما يتحاسبون به من الأعداد المسرودة، تعد عشرةً فإذا هي عشرة؟
إن في الفقه فقهًا لا تصل إليه المدارك القاصرة، وهو لباب الدين، وروح القرآن، وعصارة سنة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهو تفسير أعماله وأقواله وأحواله ومآخذه ومتاركه؛ وهو الذي ورثه عنه أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين؛ وهو الذي يسعد المسلمون بفهمه وتطبيقه والعمل به؛ وهو الذي يجلب لهم عز الدنيا والآخرة، وهو الذي نريد أن نحييه في هذ الأمّة فتحيا به، ونصحّح به عقائدها، ونقوّم به فهومها، فتصحّ عباداتها وأعمالها، فإن العبادات هي أثر العقائد، كما أن الأعمال هي أثر الإرادات، وما يبنى منها على الصحيح يكون صحيحًا، وما يبنى على الفاسد فهو فاسد.
إن الإسلام إنما شرع العبادات لتكون شواهدَ وبيّنات على العقائد الإيمانية، ثم جعل المسجد بيته ليكون مظهرًا لتلك الشهادة، فكل ما يقع فيه من صلاة واجتماع لها، ومجالس مدارسة وخطب، فهو إعلان لتلك الشهادة، وكل ما يتصل به من محراب ومنبر ومئذنة وإمام فهو مؤدّ لتلك الشهادة، فيجب أن تتظاهر هذه الأشياء كلها على الحق، وأن يكون بناؤها على أساس الحق، حتى تكون شهادتها حقًّا على عقائد الحق.
وإن كل ما يؤدّيه المسجد- في حكمته الإسلامية- هو إقامة لدولة القرآن، وتشييد لمدرسة القرآن، ورفع لمنارة القرآن، وكل مختلف إلى المسجد مقيم لحقّه وحق الله فيه، فهو "خرّيج" مدرسة القرآن، و"خرّيجو" هذه المدرسة هم الذين قوّموا عوج الكون، وعدلوا ميل الزمان، وكانوا في هذه الدنيا نورًا ورحمة.
وإن المسجد لا يؤدّي وظيفته، ولا يكون مدرسةً للقرآن، إلا إذا شاده أهل القرآن، وعمروه على مناهج القرآن، وذادوا عنه كل عادية، وما جعل القرآن المساجد لله إلا لتكون منبعًا لهدايته، وما وصف الذين يعمرون مساجد الله بأنهم لا يخشون إلا الله، إلا ليقيم الحجة على ضعفاء الإيمان ويعزلهم عن هذه المرتبة.
وصدق الله، وصدق رسوله الذي وصف القرآن بأنه "لا تنقضي عجائبه". فوالله لكأنَّ هذه الجملة:{وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} من هذه الآية، بهذا الأسلوب، المفيد للحصر بأبلغ صيغه، نزلت اليوم، وهّاجةً بأنوار الرسالة، مطلولةً بأنداء الوحي، لتكون حجّتنا القاطعة على هذا النمط من عمار المساجد، الذين يخشوْن المخلوق، ولا يخشوْن الله، ولو كانت شرائط الإمامة- حتى التي يذكرها الفقهاء- متوفرةً فيهم، لما أسخطوا الله بإرضاء الاستعمار
…
وليكذبونا بموقف واحد أرضَوا به ربهم، وأسخطوا الحكومة
…
إنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا، ما دام أمر توليتهم في يديها.
إن هذه الظواهر الغرّارة التي أبقاها الاستعمار من الأسماء والصفات والهيئات، لا تحجب عنا الحقيقة، ولا تسكتنا عن كلمة الحق فيها، وهي أن تولية حكومة غير مسلمة لأئمة المسلمين، إفسادٌ للدين، وإبطالٌ للعبادات، لأنها نسخٌ لأحكام القرآن، وتعطيل لحكمته، وإطفاءٌ لروحانية الإسلام في نفوس طائفة أخذ عليها العهد أن تنشرَ هدايته، وتنطق باسمه، وتتقدّم الصفوف للدفاع عنه، وإن الرضى بهذه الحالة إقرار للإفساد، وإعانة عليه.
إن للاستعمار في إفساد العقائد والأديان طريقةً هو فيها نسيج وحده. يعمد إلى الأسماء فيبقيها ويثبتها، وإلى الظواهر فيسبغ عليها ألوانًا تجعلها قائمة الذات في رأي العين، جميلة الوضع في حكم الذوق، محتفظة بالمقوّمات السطحية في لمس اليد، ثم يعمد إلى الحقائق والمعاني بوسائل المنوّم والساحر فيمسخها ويغيّرها
…
هل رأيت الجوزة المؤوفة (1)؟
…
إن رأيتها رأيت ظاهرًا جميلًا، وقشرةً صلبة، ثم تكسرُها فتجد نخالة مما أسأر الدود، أو سوادًا مما فعل الماء المتسرّب، وهي- مع ذلك- جوزة تشترى، ويُدفع فيها الثمن، وتُقدّم تكرمةً للضيف
…
وذلك شأن الاستعمار في رجال الدين منا
…
أيها القوم، لسنا لكم خصومًا، وإنما نحن نصحاء، ولا خصم لنا في القضية إلا الاستعمار. إننا نريد تحريركم، وتصحيحَ بنائكم، وإرجاعكم إلى الله، وتقويةَ صلتكم بالأمّة التي تصلّي وراءكم، حتى تكونوا شفعاءها إلى الله، وإن نزاعنا مع الاستعمار في ميدان من صميم الدين، فلا تقفوا في طريقنا، ولا تكونوا عونا له علينا، وإننا لا نسكت حتى نؤدّيَ حق الله فيه، وفيكم إن أبيتم إلا ذلك
…
أنصفونا ولو مرّة واحدة، أيكون شفيعًا للمسلمين عند ربّهم من يصلّي (للبايليك)(2) ويقرأ الحزب (للبايليك) ويتردّد على أبواب الحكام
…
لغير حاجة؟
…