الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدين المظلوم *
كان الإسلام عزيز الجانب، منيع الحمى، يوم كان يدافع عن نفسه بروحانيته القوية، وحقائقه الواضحة، وعقائده الصافية، وأحكامه السمحة، وآدابه القويمة، وحكمه المتحكمة في العقول، وكان يُدافع عنه جند من أبنائه، عرضهم على ميزانه فرجحوا، واستعرضهم فنجحوا، وامتحن قلوبهم للتقوى فتكشفوا عن الطيب والطهر، وتلاقت العقائد الصريحة والقواعد الصحيحة على إنارة غسق الأرض بإشراق السماء، فظلّل الإسلام الكون بعدله وسماحته، وكان له في المشارق والمغارب مستقر ومستودع، وعلا بذلك على الأديان فجلّلها بالأمان، وأجارها من النسيان، وجاورها بالإحسان، فلما ضعف سلطانه على نفوس أبنائه ضعف سلطانهم على الأرض فاختلّ فتلاشى، ذلك يومَ أصبح قرآنه أغاني على الألسنة، لا أشفية للصدور، وأحاديثه أحاديث للتلهية والتغرير، لا معادن للأحكام والأخلاق، ويومَ قُفي على عقائده بالخرافات، ونسخت أحكامه بالعادات، وبدّلت آدابه بالتقاليد؛ فلما اطمأن المسلمون إلى هذا المهاد الذليل هانوا على الله وهانوا على أنفسهم فهانوا على الناس، فأصبحوا بهذه المنزلة لا يحمدون عليها ولا يُحسدون، وأصبح دينهم هدفًا لكل رام، ونهزة لكل عاد، وفريسة لكل مفترس.
دفع الإسلام أبناءه بتلك الروحانية العنيفة إلى ميادين الحياة، بعد أن عرّفهم بمعاني الحياة: دفع الأبطالَ إلى الفتح، وجعل الرفق رديفه، ودفعَ أولي الهمم إلى الملك، وجعل العدلَ حليفه، ودفعَ العلماء إلى التربية، وجعل الإصلاح غايتها، ودفع الأغنياء إلى بناء المآثر، وجعل عزةَ الأمّة نهايتها، فسدّ كل واحد ثغرة وأبقى فيها الآثار الخوالد: أبقى الأبطالُ تلك الفتوحات التي هي مفاتيح ملك الإسلام، وأبقى الخلفاء تلك السير التي هي
* نُشرت في العدد 122 من جريدة «البصائر» ، 5 جوان سنة 1950.
جمال الأيام، وأبقى العلماء تلك الأسفار الكريمة التي هي عطر التاريخ وأزهاره، وأبقى الأغنياء هذه المعاقلَ الباذخة التي هي بيوت الله.
…
والدين المظلوم في زماننا هو الإسلام في الجزائر: مظلوم من أهله، إذ لم يدافعوا عنه، ولم يأخذوا له بحقه من ظالمه، ومظلوم من هذه الحكومة ذات الألوان التي تحكم الجزائر بما تمليه القوّة، لا بما يُوحيه الحق والعدل، وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة، وأشنع غضاضة؛ ولا نتحدث عن الغابرين الذين فرطوا في جنب دينهم حتى أضاعوه من أيديهم فأضاعوا الرشد، ورضوا بالحجر، كمن أضاع بالسفه أرضه، وقنع بأن يبقى فيها أجيرًا؛ لا نتحدث عن هؤلاء الذين أضاعوا التراث، وتركونا نحاول انتزاعه من بين الأنياب والبراثن فهم أمّة خلت: إلى الله إيابها، وعليه حسابها.
ولكن نتحدث عن جمعية العلماء وعصرها وأهل عصرها، بعد ما تجلّت الحقائق، وزالت حجب الغفلة، ودنت الحقوق من طالبيها، وخالط حب الحرية العامة شغاف القلوب، وأصبحت أنشودة العصر، ونشيدة السود والحمر.
أما جمعية العلماء فلم تنم عن حق من حقوق الإسلام، ولم تفرط في قلامة ظفر منها، بل قامت بواجبات الدفاع عنه في ثلاثة ميادين في وقت واحد:
دافعت عنه في الميدان الخارجي بما ردّت من شُبه الطاعنين، وكفكفت من غلواء المبشّرين، وبما أقامت من حصون في وجوه الملحدين، وما منهم إلا من يريد أن يطفئ نوره ويقطع ظهوره.
ودافعتْ عنه في الميدان الخاص بالحكومة الجزائرية في قضية (فصل الدين عن الحكومة) فقد تناولتْ هذه القضية بالشرح والتحليل منذ عشرين سنة خلتْ، وتناولها هذا القلمُ بالبيان والتدليل من ثلاث سنوات، ولم تهن لها عزيمة ولا خارت لها قوّة في المطالبة، ولم يخدعها وعد، ولا ردّها وعيد عن تقبيح سلوك الحكومة وموقفها من هذه القضية، ولا رَمتها المطاولة بالملل، الذي يرمي العاملين بالفشل، بل ما زادتها المطاولة إلا مراسًا وإقدامًا، لعلمها بأن العاقبة للمتّقين، وأن الله مع الصابرين العاملين المثابرين، وقد مرّت عليها ثلاث سنوات متوالية وهي من القضية في عمل دائم وقول مستمر، وسيل من الكتابة منهمر، فلا هي سكتتْ، ولا الحكومة نطقتْ، ومن البلية خطاب من لا يجيب.
ودافعتْ عنه في الميدان الداخلي، بينها وبين قومها وأبناء ملّتها، حتى علم الجاهل واهتدى الضال، وفاء إلى الرشد الغوي؛ وسيعلم المتمادون على العناد أننا محضنا النصح،
والدين النصيحة، وأننا وفينا، والدين أمانة، وأن الذي أوجب علينا النصح، أوجب عليهم الانتصاح، وقد قمنا بالواجب، فهلّا قاموا به كما قمنا؟ وهلّا فاءوا إلى الحق ورجعوا إلى كلمة سواء بيننا وبينهم أن نتعاون على نصر ديننا، وإنقاذه من اليد الغاصبة! وسيعلمون جميعًا قيمة أعمالنا ونصائحنا يومَ ترفع الحكومة يدها عن معابدنا وشعائرنا وأوقافنا، وتسدل الستار عن هذه البوارق المعشية، من الوظائف والألقاب والنياشين، فيجد المسلم نفسه معتزًّا بالله، قويًّا بإيمانه، أهلًا لما أهله قومه، عامر الباطن بالشرف يلبس المملوكَ لا المستعار، ويومئذ يستيقنون أن هذه الحكومة كانت تغري بيننا العداوة والبغضاء لمصلحتها لا لمصلحتنا جميعًا، ولا لمصلحة فريق، وأنها تعد وتمني وما تعد إلا غرورًا.
ولو أن إخواننا أنصفوا الحق وأنصفونا لكان حظنا منهم الإعانة والتنشيط على هذا الجهد الذي نبذله، وهذا الجهاد الذي نقوم به، فإن لم يكن هذا فعدم الوقوف في صف الحكومة، وهو أضعف الإيمان.
ولو ذهبنا نصفي الحساب مع هؤلاء الإخوان لكانت الفذلكة هكذا:
لا ذنب لنا عندهم إلا كلمة الحق نقولها صريحة فتشرح وتجرح، مجلجلة فتصك وتصخ، موجّهة إلى المبادئ والمعاني، فيتصايح الأشخاص ويتظلمون؛ وما ذنبنا إذا كانت كلمة الحق هي كلمة الله لا كلمتنا ومن عند الله لا من عندنا؟ وما ذنبنا إذا كان الحكم الذي نحكمه هو حكم محمد بن عبد الله؟ بل ما ذنبنا إذا رضي بعض الأشخاص أن يكون تفسيرًا لتلك المبادئ ودريئة لوقاية الخصم؟!
أمن الحق أن يكون التصرف في ديننا بجميع أركانه موكولًا إلى غيرنا فنسكت عنه ثم نرتقي إلى أسفل فنعينه على ذلك؟ أمن البرّ بأمّتكم أن تسجّلوا عليها السفه والعجز حتى في أخصّ مميزاتها؟ أمن الشرف أن ترضوا لدينكم ولأمّتكم بهذه المهانة؟ أمن كرامة الموظف الديني أن يكون تابعًا لحكومة لائكية، ومسخرًا لشركاء متشاكسين؟ إن هذه- والله- هي الدنية، التي أباها عمر يوم الحديبية.
وتتم الفذلكة بأن لا ذنب لإخواننا عندنا إلا لشيء واحد، وهو هذا التهافت على مغريات الحكومة المباشرة وغير المباشرة، وهذا الانخداع بمكايدها الظاهرة والمضمرة، وهذا التسليم المطلق لها في أمور الدين.
احذروا- يا قوم- أن يكتب لكم التاريخ سيئة تأكل جميع حسناتكم، وهي: أننا نريد تحرير الدين وأنكم تريدون بقاءه في العبودية
…
***
أما بعد، فإننا قدّمنا في الأسبوع الماضي إلى الوالي العام، وإلى رئيس المجلس الجزائري، وإلى جميع أعضائه، مذكرة بطلب تنجيز فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الجزائرية، وببيان رأينا في كيفية الفصل، لم نحدْ فيها عن آرائنا القديمة، ولم نزد إلا ما جدّ في القضية من حكم البرلمان الفرنسي في المادة السادسة والخمسين من القانون الأساسي للجزائر، وهو التصريح بأن الفصل مضمون، أسوة بالدينين المسيحي والموسوي، وأن النظر في التنفيذ موكول إلى المجلس الجزائري.
وقد نشرنا المذكرة في العالم وصحفه ليرى مُبصر ويسمع واع، وسئمت الأمّة القلقة من هذا التباطؤ المقصود من الحكومة، وقرأ المذكّرة من وصلت إليه، فعرضت علينا تأييدها لنا في طلب التنفيذ، فقلنا لها: إنك أبطأت عن الخير، كما أبطأت الحكومة في التنفيذ، فانهالت برقيات الاستنجاز على الوالي العام، وعلى رئيس المجلس، وعلى أعضائه من دوائر انتخابهم، حتى التجأ الرئيس إلى نوع من الكياسة، فأصدر بلاغًا أذاعه الراديو ونشرته الصحف، وحدّد فيه عرض القضية في الفترة الجامعة بين سنتي 1950 - 1951.
إننا لا نرى رأي الرئيس في أن القضية متشعبة متعصبة، بل نراها في غاية البساطة والسهولة، وما شعّبها وصعّبها وعقّدها إلا نظرُها بالمنظار الاستعماري، ومن نظرها بغير هذا المنظار، وتبيّن وجه الحق فيها، تسهّلت له ولانت وانحلت من تلقاء نفسها.
إن الدِّين- يا حضرة الرئيس- كالدَّيْن، قاعدته:"مطلُ الغني ظُلم"!
…
وهناك نقطة كانت تتعلّل بها الحكومة، وتعدّها من معاذيرها، وطالما سمعناها من المسؤولين من رجال الحكومة، وهي أننا مختلفون، وأنها إذا أرْضت طائفة منا أغضبت طائفة، وإرضاؤنا جميعًا من المحال.
أما نحن فقد آذناها مرارًا بأننا لا نريد أن نحتكر هذه القضية لأنفسنا، لا في المطالبة، ولا في الرأي، ولا في التصرف، وإنما نطالب بإرجاع حق المسلمين إلى المسلمين، وأما غيرنا فنعتقد أن الحكومة هي التي تحرّكهم للخلاف وتشير عليهم به، لا نقول هذا رجمًا بالغيب وتجنّيًا على الحكومة، بل لنا عليه شواهد حسّية في الجمعيات الدينية وغيرها.
ولقطع هذه التعلات والمعاذير، قدّمنا للحكومة اقتراحًا ملحقًا بالمذكّرة يتضمن جريدة بأسماء الأشخاص الذين يتألف منهم المجلس الإسلامي المؤقّت، يمثّلون طبقات الأمّة، ولم نراع فيها إلا الحظ الكافي من الثقافة العامة والشعور بالمسؤولية الدينية، وأنهم غير
مرتبطين بالحكومة بوظيفة دينية أو غير دينية، وفيهم العالم وشيخ الزاوبة والفلاح والتاجر والطبيب والمحامي.
هذا كله في المجلس المؤقّت الذي هو ذريعة إلى المجلس الأصيل المنتخب، على ما بيّناه في أصل المذكّرة، فإذا جاء الانتخاب، سدّ علينا وعلى غيرنا الباب، وبقيت الكلمة خالصة للأمّة.
وإننا نتحدّى الحكومة بأكثر من هذا، نتحدّاها بأننا إذا رأينا صدقها في الفصل، وإخلاصها في التنفيذ، ونفض يدها من كل ما يتعلّق بالقضية، وأقامت لنا الدليل على أن باطنها في ذلك كظاهرها، فإننا مستعدون لتسليم القضية إلى أي قادر على تسييرها من جماعات المسلمين، وللتنازل الخالص عن حظوظ جمعية العلماء في القضية.
فهل في التحدي أبلغ من هذا؟