الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعليم العربي والحكومة *
- 2
-
لا معنى للشمول في القوانين، ما لم يصاحبه شمول في التطبيق والتنفيذ؛ وإذا كان واضع القانون ليس منا، ومنفذه ليس منا، فمن البلاء تطبيقه علينا.
ألا إن في الاستعمار لفحةً من جهنم، وإن في المستضعفين سمات من أهلها، أظهرُها أنهم لا يموتون ولا يحيون.
وكما أن جهنم تتقى بالأعمال الصالحة، وأساسها الإيمان، فإن الاستعمار يتقى بالأعمال الصالحة، وأساسها العلم، وإذا كان العدو الأكبر لجهنم، هو العمل الصالح، فإن العدو الأكبر للاستعمار هو التعليم.
يحرّم الاستعمار الفرنسي التعليم على مسلمي الجزائر، ويفرضه على أبنائه وفي وطنه، فاعجبْ لشيء واحد يحرَّم في وطن، ويُفرض في وطن؛ ومن عرف الاستعمار معرفتنا به لم يعجب ولم يندهش، خصوصًا في وطن كالجزائر، لغته العربية، ودينه الإسلام، وطنٌ أنهكه الاستعمار، فلم يبقِ منه لحمًا إلا تعرّقه، ولا عظمًا إلا هشمه، فانتزع خيراته الطبيعية من أيدي أهله، ثم تسلل إلى مكامن النفوس لينزع الإيمان من قلوبهم، بهذه الوسائل التي منها تسيير مساجدهم على هواه، وحرمانهم من تعلم دينهم ولغتهم، فلما رآهم هبّوا ودبّوا، وأيقن أنهم ربما أوضعوا وخبوا، رماهم بهذه القوانين التي بعضها يشلّ، وبعضها يغلّ، وجميعها يقتل.
…
نُشرت في العدد 66 من جريدة «البصائر» ، 7 فيفري سنة 1949.
قلنا للحكومة مرّات- في صدق وإخلاص-: إن هذه الأمّة رضيتْ لأبنائها سوء التغذية، ولكنها لا ترضى لهم- أبدًا- سوء التربية: وإنها صبرت مكرهة على أسباب الفقر، ولكنها لا تصبر- أبدًا- على موجبات الكفر.
وقلنا لها: إن هذه الأمّة أصبحت منك بمنزلة الهرّة التي دخل صاحبها النار بسببها، لأنه لم يطعمها، ولم يدعها تأكل من خشاشِ الأرض؛ فلا أنت علمت الدنيا، ولا أنت سمحت لنا بتعليم الدين.
وقلنا لها: إن هذه الأشياء الروحية التي تسمّى الدين والعقيدة والضمير، هي أشياء طبيعية، بل هي أجزاء من الوجود الإنساني، فمقاومها كمصادم الجبل الأشم، لا يبوءُ إلا بالزعزعة والضعضعة؛ أفتسمحين للإباحية بالإباحة، ولتحلل الأخلاق بالتحليل، حتى تراخت الأواصر، وانحلت العناصر، وفي ذلك البلاءُ العظيم، ثم تتشدّدين في الدين وتعليمه هذا التشدّد؟
وقلنا لها: إن تعطيل المدارس العربية بالأوامر الإدارية- لأن المعلم الذي يعلّم، أو الجمعية التي تدير، غير مرضيّ عنهما- يعد عقوبةً للأطفال الصغار الذين لم يرتكبوا ذنبًا، ولو أنها عقوبة لهم في أبدانهم لقلنا: جرح ويندمل، ولكنها عقوبة لهم في دينهم وشواعرهم وعقولهم. إننا نريدهم أَنَاسِيَ وأشياءَ نافعة لنفسها وللمجتمع، وأنت تريدينهم لصوصًا وحيوانات ضارّة وبلاءً على أنفسهم وعلى الأمّة.
وقلنا لها: إن هذه المدارس التي شيّدتها الأمّة لأبنائها بأموالها ولم ترزأ خزانتك فيها درهمًا ولا دينارًا، قد أصبحت تضاهي مدارسك سعةً ونظامًا وجمالًا واستكمالًا لشرائط الصحة، واسترحنا واسترحت. فلو كان الأمر بيننا جارًيا على المنطق، مبنيًّا على حسن النية، لكنت- إذا لم تنشطي- لم تخذُلي، وإذا لم تعيني، لم تعارضي، وإذا لم تعتبرينا أعوانك على تهذيب هذا الشعب، لم تعتبرينا أعداءً ومشوّشين على سياستك الاستعمارية، فما زالت الدول عاجزةً عن تعليم أممها وعن تهذيبها، وما زالت الجمعيات تعاونها في ذلك، وما زال الفريقان متآزرين على التهذيب العام، في عصر التهذيب العام. أفلا تنتج القضايا المنطقية في هذه القضية أنك مصممة بأعمالك على قتل التعليم وقتل العربية وقتل الإسلام؟
وقلنا لها: إننا قوم لا نفرّ من المسؤولية بل نتحملها مسرورين. ولا نعمل أعمالنا في ليل دامس، بل نعملها في وضح النهار، وإن لكل مدرسة من مدارسنا جمعيةً جاريةً في تكوينها على القوانين العامة، مسؤولة عن أعمالها، مستوفيةً للإجراءات الرسمية، وأول المواد في قوانينها الأساسية أنها جمعيات تعليم ديني عربي؛ فإذا كان في مدرستها معلم أو معلمون فهي "الضامنة" فيهم والمسؤولة عنهم. فمن العدل أن يكون الترخيص في تشكيل الجمعية ترخيصًا
لها في التعليم ما دامت هي المسؤولة عن المدرسة والمؤسسة لها. ومن الشطط، بل من الظلم، بل من التناقض، بل من المحال العادي، أن تطالب بعد ذلك بترخيصات شخصية لكل معلم.
أما أن هذا من الشطط الذي لا يطاق احتماله، فلأن المعلم قد ينفصل عن الجمعية في أيام، لأنه لم يرضها، أو لأنها لم ترضه، وقد يمرض أو يموت، فتضطر إلى معلم آخر، وقد يتكرر هذا المعنى في الشهر الواحد مرّات، وفي كل مرّة تتكرّر الإجراءات اللازمة للرخصة، وفي كل إجراء ما قدّمنا في المقال السابق من التعقيدات المقصودة.
وأما أنه ظلم، فلأن تلك العمليات تستلزم- طبعًا- تعطيل المدرسة، وتشريد الأطفال بناء على قاعدة "لا تفتح المدرسة حتى تحصل الرخصة".
وأما أنه تناقض، فلأن مؤدّاه أن الترخيص الأول في تكوين الجمعية عبث ولغو، ولا معنى له، ولا قيمة لتسجيله في الدفاتر الرسمية، ولا لاعتراف القانون بها، ولا لتعليق المسؤولية على أعمالها، لأن المسؤولية تتعلق بالأعمال، وعمل الجمعية إنما هو التعليم، واشتراط الرخصة الخاصة في المعلم تعطيل لها عن مباشرة هذا العمل الذي اعترف لها القانون به يوم اعترف بها.
وأما أنه من المحال العادي فلأن نظر الجمعية ونظر الحكومة في المعلم متباينان بل هما كالخطين المتوازيين في الهندسة، لا يلتقيان مهما امتدّا، فالجمعية تشترط في المعلم كفاءته العلمية والأخلاقية، أو تزكية جمعية العلماء له، ولا تشترط غير ذلك. والحكومة تشترط شهادة "الدوسي البوليسي"، ولا تشترط غير ذلك. وشتان ما بينهما عندنا في الجزائر، لاختلاف النظرين في أصل الميزان الذي يوزَن به المعلم، ولاختلافهما- إلى حدّ التضاد- في معنى المؤهلات والمواقع.
قلت لرجل من رجال الإدارة الحكومية الجزائرية، وهو يفاوضني في هذه القضية مفاوضة رسمية، وكنا يومئذ نتناقش ونبحث الأسباب التي توجب حرمان المعلم من إعطاء رخصة التعليم، فقلت له: يظهر لي أنه لا يمكن أن نتلاقى معكم في نقطة، ما دام مقياس الفضيلة عندنا وعندكم متفاوتًا إلى هذا الحدّ، فنحن نرى- مثلًا- أن السياسة ليست جريمة ولا ما هو أهونُ من الجريمة، وإنما هي حق طبيعي يمارسه كل عاقل، وتزيد عندنا بمعنى، وهو أنها لم تعدُ أن تكون أنةً يستريح إليها المظلوم
…
وأنتم ترونها- بالإضافة إلينا فقط- جريمة أية جريمة، وتعاقبون عليها بالسجن والنفي فضلًا عن الحرمان من رخصة التعليم
…
ونحن نرى أن الزنا والخمر وما أشبههما كبائر تسقط العدالة والشهادة، ولا نرتضي مرتكبها معلمًا لأبنائنا
…
وأنتم لا ترونها جرائم، ولا تعاقبون عليها. فللقاضي- مثلًا- أن يسكر
ويعربد ويفسق ويكفر، ولا حرج عليه لأنه حرّ
…
ولا نعتقد أن ميزان الفضيلة اختل عندكم إلى هذه الدرجة، ولكن شيطان الاستعمار يزيّن لكم كل ما تستقبحه الأديان، وتستهجنه العقول، إذا كان ذلك في المستعمرات. قلت له: وأنا أؤكّد لك أن كل ما زرعتموه في المستعمرات من خبائث ورذائل، وسقيتموه بماء الحرية لينمو ويترعرع، فتفسدوا به أهلها وتهلكوهم، ستجنون ثمراته المرّة في أبنائكم وفي وطنكم. فأنتم تسخرون الشيطان للإفساد من حيث يشعر، ولكنه يعود فيسخركم للفساد من حيث لا تشعرون
…
جرّنا إلى هذا كله حديث "الرخصة" فلها الويل: أهي رخصة تعليم، أم غصّةٌ وعذاب أليم؟