الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل الدين عن الحكومة
- 3
- *
شهر رمضان ظرف زماني للدين، فكلّ حديث فيه عن الدين عبادة، والمساجد ظروف مكانية للعبادة، بينها وبين رمضان صلات وكّدها الله الذي كتب الصوم وجعله له، وشرّف المساجد فجعلها بيوته، وشرع لهما حُرُمات متشابهة، ومنها هجر اللغو، والتزام الصدق، وحبس الأنفاس على طاعة الله؛ فالمسلم في المسجد مواجه لربّه، واقف بين يديه، وفي رمضان مكبوت عن شهواته، مأخوذ بناصيته إلى الحق.
فالحديث عن المساجد من الدين، والتنديد بأعمال الظالمين لها والغاصبين لحقوقها من الدين، وانتقاد القائمين فيها من الدين أيضًا! فنحن- من رمضان والمساجد- في دائرة مغناطيسية من الدين، لا نفلت منها إلا لنقع فيها، وداعي الدين هو الذي يحرّك ألسنتنا إلى النطق، وأقلامنا إلى الكتابة، وعقولنا إلى التفكير في هذه المسألة؛ ونحن نعتقد أننا حين نكتب حرفًا، أو ننطق بكلمة، أو نرسل رأيًا في هذه القضية، ننطق بحق ونكتب حقًّا، ونرى حقًّا، ولو كرّرنا ذلك ألف مرة، وأننا حين نسكت- نسكت عن باطل لا يجوز إقراره ولا السكوت عليه- ونعتقد أن الأمة حين تسكت، أو تقصر، أو تتخاذل في هذه القضية، مجمعة على محرم، مأخوذة به عند الله، يوم يطالب كل ذي حق بحقّه ويطالب رب العباد بحق دينه، وويل لمن كان ربّه خصمه يوم القصاص.
ونعتقد أيضًا أن هذه الحكومة المسيحية مصرّة على باطل أبطلته الأديان والقوانين والمدنيات والعوائد، وأنها عجزت عن دينها المسيحي أن تحرّره من احتكار روما، وعن دين موسى أن تنتزعه من مجامع الأحبار، فجاءت إلى ديننا تتحكّم فيه، وتلصّ أوقافه وتسخر رجاله الضعفاء لمصالحها، وتجعل من معابده ميادين لاحتفالاتها بالنصر والكسر،
* نشرت في العدد 87 من جريدة «البصائر» ، 18 جويلية 1949.
ومن أئمته ألسنة تجهر بالدعاء لها، وما دعاء الظالمين إلا في ضلال.
نعتقد أن كل ما قرّرته هذه الحكومة المسيحية، وكل ما تقرره في شؤون ديننا باطل منقوض دينًا وعقلًا وقانونًا، حتى تسمية الأئمة والمؤذنين فهي باطلة وطلب هذه الوظائف من هذه الحكومة باطل، والرضى بها باطل، لأن شرط نصب الإمام أن يكون من حكومة مسلمة، أو من جماعة المسلمين، لا يختلف في هذا مسلمان، ولا يخالف فيه إلا "العاصمي" في قياسه لحكومة الجزائر على حكومة ابن سعود، وهو قياس لا يشبهه في الفساد إلا قياس مسيلمة على محمد في شهادة الإخلاص!!
وإن هذا القياس لدرجة في العلم لا تبلغ إلا بخذلان من الله، ودرجة في العمل لا تُرتقَى إلا بتوفيق من الحكومة.
…
ونحن قد قمنا في هذه القضية مقامات يحمدها الدين، وأبلينا في هذا الميدان بلاء الثابتين الصابرين، ما نكص لنا فيه بطل، ولا وهنت لنا فيه عزيمة، ولا تغيّر لنا فيه رأي، ولا التبس علينا من وجوه الرأي فيه مذهب.
ألححْنا في المطالبة بتحرير المساجد والأوقاف، وسقنا على ذلك من الحجج ما لا يدحض، وكشفنا عن المستور من مقاصد الحكومة، وقلنا لها (بالقلم واللسان): إن سكُوت مَنْ قبلنا لا يكون حجة علينا، وإن تخاذل من معنا لا يكون مسوغًا لبقاء هذا الوضع الجائر واستمراره، بل قلنا لها: إنها هي السبب الوحيد لهذا التخاذل، وهي التي صيّرت طوائف منّا مبطلة تخذل الحق وأهل الحق، وإن بقاء الوظائف الدينية في يدها هو أصل هذا البلاء، وإن هذا البلاء لا ينقطع حتى يُنزع حبل الدين من تلك اليد ويوضع في أيدي أهله. وقلنا لها: إن الواجب المعجل المحتّم، والعمل السديد المنظّم، هو إعلان رئيس الحكومة أمرين متلازمين؛ أولهما تنفيذ قانون الفصل الذي تضمنه الدستور الجزائري الأعرج، وثانيهما حياد الحكومة التام في تأسيس الجمعيات الدينية التي تنتخب المجلس الإسلامي الأعلى.
وقلنا لها: إن ابتلاعها لأوقافنا الدينية والخيرية ظلم، والظلم لا يدوم، ولصوصية، واللصوصية لا تتأتى إلا في الغفلة أو النوم أو الظلام، فأما في الانتباه واليقظة والنور فافتراس تبرره القوة والعتو، وليسا من صبغة هذا الزمان.
وكأني بقائل يقول: ما لكم تُبدئون في هذه القضية وتعيدون؟ مع أن الفصل واقع في الأمر نفسه، واقع في بنود الدستور الجزائري
…
فقد قضى ذلك الدستور على جميع القرارات التي كانت تحدّد سلطة الحكومة على المساجد حينًا، وتمدّدها أحيانًا. ونحن نقول
لهذا القائل: لو كنت تعرف ما تقول عذرناك، ولو كنت تعرف ما نقول عذرتنا في الإبداء والإعادة. فقد بُلينا بحكومةٍ جُمع فيها كل ما تفرّق في غيرها
…
وقد بلوناها في جميع حالاتها وألوانها، فإذا هي هي، تُغطّي الشمس بالغربال، وتطاول العماليق بالتنبال، وترصد لكل كلمة من الحق كلمات من الباطل تنسخها أو تمسخها، ولكل صوت من الخير أصواتًا من الشر تشوشه أو تلغو فيه، ولكل صلاة إلى الله مُكاء وتصدية من الشيطان، ولكل داع إلى الجنة دعاة إلى أبواب جهنّم، ولكل مطالب بتحرير المساجد مطالبين بإبقائها في العبودية، وقد رصدت قبل ذلك لكل مطلق في قوانينها قيودًا وسلاسل وأغلالًا، فلا يطمع الطامع في فتح باب إلا أوجدت له قفلًا
…
وما الدستور الجزائري الأبتر إلا أحبولة من تلك الأحابيل، وما المجلس الجزائري إلا سليل للمسلول، فإذا كان الدستور قد جعل فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الجزائرية أحد بنوده، فقد أيّد حكومة الجزائر من المجلس الجزائري بأحد جنوده، وحكومة الجزائر لا تريد الفصل، ولن تريده، ولا ترضاه، ولا ترضى على من يرضاه؛ والدستور حكم بالفصل، ولكنه وكل تنفيذه إلى هذا المجلس الذي صنعته الحكومة بيدها، ونفخت فيه من روحها، ومعنى ذلك أن الدستور ترك للحكومة منفذًا تستطيع هي بأساليبها أن تجعل منه بابًا واسعًا، وقد فعلت
…
...
ونحن نعلم أن المسألة من أولها إلى آخرها سفسطة وتضليل، ولا ندري كيف يتأتى لهذا المجلس المصنوع، المحدود السلطة، المقصور على الماليات، أن ينفّذ قضية ليس المال إلا جانبًا من جوانبها الكثيرة، ومعظم الجوانب خارجة عن دائرة نفوذه. وهبْ أنه اتسع نظره للأوقاف الإسلامية، فماذا يصنع في الجوانب الأخرى؟ أيبقي ما كان على ما كان؟
وكنا نرجو أن يكون المجلس أكمل من الدستور، ينتخب أعضاؤه انتخابًا حرًّا، وتظهر فيه النيابة عن الأمة بمظهرها الحقيقي، ويكون النوّاب نوّابًا حقيقيين يؤثرون مصلحة الأمة على مصلحة الحكومة، ولو وقع ذلك لكانت جمعية العلماء أول المطمئنين إلى أعمال النوَّاب في مطالبها الدينية، كيفما كانت أعمالهم الأخرى.
وقد مرّت على هذا المجلس سنتان، وعرفنا من أعماله وبرامجه اليد التي توجّهه والريح التي تسيّره، والجهة التي يتّجه إليها، وصدق كل ما قلناه فيه، وأن عسى أن يهبط عليه الوحي في لحظة فيتناول مسألة فصل الدين الإسلامي بآراء مسيحية، وأفكار لائكية، وعقول بين ذلك
…
ثم ينتخب لدراسة الموضوع مقررين مسيحيين أو لائكيين أو ما شاء الهوى
…
ويا ضيعة الإسلام بين الأهواء!