الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل الدين عن الحكومة (14)
أهذه هي المرحلة الأخيرة من قضية:
فصل الحكومة عن الدين *
ــ
- 4 -
…
وكأني ببعض خواص العامة، وبعض عوام الطلبة، يستغربون هذا الحكم الحاسم ببطلان العبادات التي يأتمون فيها بهذا الصنف من الأئمة، أو يعدونه جرأة جرها التلاحي معهم أو مع كبيرهم، الذي زين لهم مقاومة الحق والاستمرار على الباطل.
وكأني بهم يستعظمون الحكم ببطلان عبادات المسلمين التي درجوا عليها أحقابًا وينكرون علينا أن نبطل ما أقره (الأوائل) وسكتوا عليه، وفيهم العلماء، وفيهم الفقهاء، أفكانوا كلهم على ضلال في هذه القضية؟ ونحن نتحقق هذا الاستغراب وهذا الاستعظام منهم لأنه من النزعات العامية المستولية على عقولنا، ومن تناولنا للأشياء الكبيرة بالأنظار القصيرة، وهذا أصل بلائنا في الدين، وشقائنا في الدنيا؛ ومرجع ذلك كله في هؤلاء تعوُّد المنكر حتى يصير معروفًا، والإلف له حتى تسكن إليه النفوس، وهذه هي علتنا فيما فشا بيننا من بدع ومنكرات وضلالات: يسكت عليها الأول فتصير عادة، وتستحكم فتصير سنة، وتتكاثر أنواعها فتغطي على الدين الصحيح، وعلى السنن المأثورة فيه، وعلى المناهج القويمة في شؤون الدنيا.
ويا طالما سمعنا هذه النغمات في مواقفنا الإصلاحية، فكلما شددنا الحملة على منكر لنزيله أو نزلزله، تعالت الصيحات بالاستعظام والاحتجاج بسكوت (الأوائل)؛ فنمضي على الحق، لا نلوي على أول ولا أخير، ثم لا تكون العاقبة إلا للحق وأهله.
فيا قوم
…
اعلموا- علمكم الله- أن سكوت الأوائل على المنكر لا يكون حجة على الله، وأن إقرار الأواخر له لا يكون حجة على دينه، بل لله الحجة البالغة على عباده، ولرسوله البينة القائمة على أمته؛ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وهل مما آتانا الرسول أن نعطي الدنية في ديننا، ونرضى باختيار المسيحيين لأئمتنا، ونصلي خلف من يطلب الإمامة
* نشرت في العدد 140 - 141 من «البصائر» ، 5 فيفري عام 1951.
منهم، ومن يدفع ثمنها طاعة لهم، ورجوعًا في الدين إليهم، وكيدًا لقومه وإعانة عليهم، وتمكينًا لنفوذهم وسلطانهم على الإسلام؛ أهذا هو الواقع أم أنتم لا تبصرون؟
إن سكوت علماء الأرض كلهم على الباطل في الدين لا يصيره حقًّا، وإن تواطؤهم جميعًا على منكر فيه لا يصيره معروفًا، وإننا لسنا من الكرامة على الله أن ينسخ أحكام دينه لأجلنا، أو ينسخ صواب دينه لأجل خطئنا فيه، وما ثَمَّ إلّا ما ختمت به الرسالة:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينًا فليس اليوم بدين، كما قال مالك- رضي الله عنه وقد بطلت عقائدنا يوم زغنا فيها عما جاء به القرآن، فكيف لا تبطل عباداتنا المسجدية يوم رضينا بتولية أئمتها من حكومة مسيحية، ويوم رضينا بتصرّف تلك الحكومة فيها، ويوم نظرنا إلى الظواهر، وعمينا عن الحقائق، ويوم غلبنا على الماديات فتبرعنا بالروحيات: غلبنا على الأوقاف، ولكننا تبرعنا بما عداها، بسكوتنا وتخاذلنا ومطامعنا؛ ولو أن أوائلكم (وفيهم العلماء وفيهم الفقهاء) تفطنوا للمكيدة لعلموا، يوم أخذت أوقافهم كرهًا، أنها ما أخذت إلّا لتجر معها المساجد، وأن المساجد لا تؤخذ إلّا لتجر معها الأئمة، وأن الأئمة لا يجلبون إلّا ليجروا معهم الأمة، ولو تفطنوا لذلك لأنفقوا على المساجد من أموالهم الخاصة، وتركوها حرّة منعزلة عن التدخل الحكومي حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ولكنهم جعلوا الدين تبعًا للدنيا، فضاع الدين والدنيا؛ وها أنتم أولاء ترون أن (الأوائل) هم الذين أبطلوا عبادتكم بسكوتهم عن كلمة الحق في وقتها، ولو لم يسكتوا لكفونا وإياكم مؤونة السؤال والجواب
…
يا قوم
…
لئن كان الحكم ببطلان عبادات المسلمين كبيرة عندكم فأكبر منها عند الله وعند عباده المستبصرين في دينهم أن يتولى الإمام الإمامة من حكومة مسيحية، ولو كان ذلك إكراهًا لكان له وجه من التأويل، لكنها قضية لا يتصور فيها الإكراه بحال، وإن أكبر منها عند الله أن يتعمد المسلم طلب الإمامة من حكومة مسيحية، وحسبكم بالطلب وحده قادحًا في الدين، فكيف بالرضى بعد ذلك والاطمئنان، فكيف بالاستهانة بغضب الله في جنب غضب الحاكم المسيحي؟ فكيف لي ما وراء ذلك مما نسمعه ونشهده؟
…
إن إمامة الصلاة استخلاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن مكانتها من الدين هي مكانة الصلاة نفسها، فإذا هانت في نظركم إلى هذه الدرجة فقد أهنتم الدين، ومن أهان الدين فهو غير حقيق بالانتساب إليه؛ وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم كلما غاب عن المدينة استخلف من ينوب عنه في الصلاة، كما يستخلف- أو قبل أن يستخلف- من ينوب عنه في الحكم بين الناس، وكان إذا جهز سرية أو بعث بعثًا فأهمّ ما يوصي به قوله: وليصل بكم فلان؛ ولم
يشغله مرض الموت عن الاهتمام بإمام الصلاة، فاختار لها أبا بكر، وقال: مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس؛ ولم يَكِل هذه المسألة العظيمة للصحابة، وفيهم جبال العلم وأفذاذ التقوى والدين، ولم يثنه عن اختيار أبي بكر رأي عائشة وحفصة في اختيار عمر؛ وإن الصحابة- رضي الله عنهم كانوا يعتبرون إمامة الصلاة درجة فوق الخلافة العظمى، بدليل استدلالهم على استحقاق أبي بكر للخلافة بتقديم رسول الله إياه لإمامة الصلاة، وقال قائلهم: أفلا نرتضي لدنيانا من ارتضاه رسول الله لديننا؟
والحقيقة الجامعة في الإسلام أنه لا يولي الإمام إلّا من كان صالحًا- هو نفسه- للإمامة، مثل الخليفة أو نائبه، وقد كان الخلفاء يتولونها بأنفسهم، ولا يُنيبون عنهم فيها إلّا حيث تبعد الجماعات، فينزلون عن هذا الحق لجماعات المسلمين.
ومن أصول الإسلام ومناهج تربيته الحكيمة أن الإمامة لا تطلب، وأن أمير المسلمين، أو جماعة المسلمين هم الذين يختارون لها من يرتضون دينه وأمانته، وقد يُلزمونه بها إلزامًا، كما يلزمون بالقضاء، لأن أهل الخير والصلاح الذين مُلئت قلوبهم من خشية الله كانوا يتهيبونها ويرونها من العهود الثقيلة، وأين هؤلاء من أولئك؟ إن كثيرًا من هؤلاء لا يطلب الإمامة لذاتها، ولا لإقامة الشعيرة، ولا حرصًا على تعمير بيوت الله، وإنما يطلبها ويرتكب الموبقات في طلبها، لأجل المرتب الشهري، ولولا المرتب لما رأيتم أحدًا منهم يدخل المساجد، وافهموا وحدكم السر في تباعدهم عنا، وهروبهم منا، وممالأتهم للحكومة علينا، فكل ذلك من أجل المرتب
…
كل هذا ونحن لا نريد لهم قطع المرتب، وإنما نريد لهم تثبيته واستحقاقه بشرف على يد إخوانهم المسلمين، لا على يد حكومة مسيحية؛ ولو كان للإسلام سلطان على النفوس، لما أقدم واحد منهم على هذه العظيمة، ولما تابعه عليها أحد إن هو فعلها.
قال الأول: أذل الحرص أعناق الرجال.
ونحن نقول: أذل "الخبز" أعناق أشباه الرجال، فلو أن هذه الحكومة- على عُتوّها وإضمارها الشر للإسلام- رأت منا زهدًا في هذه الوظائف، وعزوفًا عنها، ورأت مع ذلك إجماعًا منا على كلمة الحق فيها، وتسليمًا من الخاملين للعاملين منا- لو أنها رأت ذلك منا لكان موقفها من القضية غير موقفها، ولكنها نثرت الحبّ، فتساقطت العصافير، وطرحت الأب، فتهافتت اليعافير، وسقط عليها العاصمي فوجدت (الضالة) في الضال، وفهمت (دلالة الالتزام) من الدال، وتعاقدت الرفقة على الصفقة.
…
لو كان من أقسام الإضافة في النحو ما هو بمعنى (على) لخلعنا على العاصمي لقب "حجة الإسلام".