الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشك في الإيجاب
…
نصف السلب *
قرأنا في خطب كثيرة من المسؤولين من رجال الحكومة الجزائرية - وخصوصًا في الأشهر الأخيرة- جملة تتردّد وتُعاد، حتى كادت تكون محورًا لتلك الخطب، أو لازمة لها كلوازم الحديث و "عكاكيزه"، من مثل:"صل على النبي" و"سيدي مرحوم الوالدين" في العربية الشرقية، أو مثل:« N'est-ce pas? Alors» (1) في الفرنسية.
هذه الجملة المردّدة هي "أن الجزائر فرنسية". وليس تاريخ ولادة هذه الجملة بالقديم، ولا هي من الجمل المألوفة لألسنة هؤلاء الخطباء، ولا لأسماع الجمهور الخاص الذي يسمعهم، وإنما هي بنت سنة أو سنتين على الأكثر.
ونحن نستغرب ترداد هذه الجملة المملولة في هذه الظروف، ونبحث عن العلة الداعية إليها، فلا يهدينا البحث إلا إلى شيء واحد، وهو الشك في منطوقها شكًّا خالط نفوس هؤلاء الخطباء في كون الجزائر فرنسية، أو ليست فرنسية، فهم يردّدون هذه الجملة اصطناعًا لليقين، وترويحًا على العاطفة، وترجيحًا للجانب الذي يهوونه؛ كما يُماري المماري في المعدوم فيقول: إنه موجود، وما درى هؤلاء أن ترديدهم لهذه الجملة في ظرف ذي خصائص وعوارض، يقذف الشك حتى في نفوس المستقيمين من سامعيهم، ويزرع الاحتمال في أذهانهم، لأن عدّها من بدوات اللسان، أو من تحصيل الحاصل الذي تصان عنه أقوال العقلاء، إنما يكون في أول سماع، أما إذا تكررت الجملة، ونبتت في موضعها من كل خطبة، وشهدت القرائن أنها مقصودة، فلا يكون الفهم المتبادر إلا ما ذكرنا من شك القائل، وتشكيك السامع.
* نشرت في العدد 111 من جريدة «البصائر» ، 13 مارس سنة 1950.
1) " N'est-ce pas? Alors" : جملة فرنسية معناها: أليس كذلك؟
وتصوّرْ- أنت- أن لشخص دارًا تعالم الناس أنها مملوكة له بوجه من وجوه الملك، ورأوه يتصرّف فيها، وينتفع بمرافقها، من غير شرك ولا نزاع، فهل يحسن منه- في غير المعارض المخصوصة- أن يُعلن للملإ، في غير مناسبة، أن الدار داره؟ وهل يجمل به أن يردّد في كل مجمع، هذه الجملة:"داري داري"؟ هل يفيد سامعيه شيئًا جديدًا يحسن السكوت عليه؟ وهل يحمل السامعون هذا التكرار منه محمل التوكيد اللفظي، وهم يعرفون أن التوكيد اللفظي يصحّ في كلام واحد متصل الجمل؛ أما هذه الجملة فهي تقع في كلام متعدد وفي أمكنة مختلفة، وفي أزمنة متباعدة.
الفهم الطبيعي المتبادر إلى أذهان جميع الناس، هو أن الرجل طرقه الشك في ملكه للدار، وطاف به شعورٌ بأنها مغصوبة، مثلًا
…
فهو يغطّي بهذه الجملة المردّدة غصبًا للدار يوشك أن يفتضح أمره، أو يدفع بها خصمًا في الدار يوشك أن يرفع دعواه، وكأنه بهذه الجملة يهيّئ الجو للسماع الفاشي
…
ليستشهد به يومًا ما
…
ولكنه مهما كرّر الجملة وردّدها لم يزد على تنبيه الناس إلى أن في الدار حقيقة أخرى من وراء الجملة، وأن في دعوى الملكية قادحًا شرعيًّا تخفيه الجملة، وأن في هذا الترداد تحويمًا على تلك الحقيقة، لا تحويلًا للأذهان عنها، وأن هذا (الرجل) غرس الشك من حيث أراد اقتلاعه.
…
كبرت كلمة تخرج من أفواه هؤلاء المستعمرين الجبّارين، محادة لله ولقدرته وخلقه، ومضادة لدينه وسنّته، وطمسًا لحقائق التاريخ والآداب وأصول الأجناس، وعنادًا للطبيعة والأوضاع الجغرافية ونكرانًا للفوارق الملموسة من الدم الجاري، والإرث الساري، والتقاليد المتسلسلة.
لو أن البحر الأبيض جفّ والتأمت حافتاه، حتى أصبحت الجزائر ربضًا من أرباض مرسيليا، لما كان لهذه الكلمة موضع في العقل ما دامت تلك الفوارق قائمة، ولو أن الجزائريين كفروا بالواحد، وآمنوا بالثلاثة، لما كان لهذه الكلمة موقع في النفس ما دامت سنن الله في ملكه جارية، ولو أن حاكمًا حكم عليهم بقطع نسبهم من عدنان، وإلصاقه باللاتان، لم يكن حكمه إلا كحكم قاضي الجزائر في الصوم والإفطار، وحكم واليها في المولد النبوي، ما داموا يدينون بالإسلام، وينتمون إلى ذلك النسب السامي العريق في الأصالة والشرف، المحاط بالنبوّة والنور.
وهل الجزائر فرنسية؟
…
لا يا قوم لا. إن الله خلقها عربية مُسلمة، وستبقى عربية مسلمة إلى ما شاء الله، وإن الوراثة وسمتها بسمات خالدة، وصفات ثابتة، لا تفارقها حتى يفارق الشمس إشراقها.
ملكها الرومان قرونا فلم تنقلب رومانية، وبادوا ولم تبد، وبقيت ولم يبق منهم إلا آثار الظلم، ومعالم الطغيان، {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} .
وملكها الأتراك- وهم أبناء ملّتها وربائب دينها- فلم تنقلب تركية، سادوا فيها بالانتصار لها، ثم حادوا بالاغترار للزمن، ولكنهم شادوا فيها أبنية الحق من بيوت الله، فتناستْ أمرَهم، وحفظت ذكراهم.
وصبغها التاريخ الطويل بأصباغ مما تنفضه أدواره، فكان أثبتها على الزعازع، وأبقاها على وجه الدهر صبغان زاهيان، هما: العروبة والإسلام.
إن القوة- إذا لم يزنها العقل- ضعف، وإن العلم- إذا لم تحطه الحكمة- جهل، وإن الملك- إذا لم يحمه العدل- زائل، وإن سلاح الحق من الحرير، يفلّ سلاح الباطل من الحديد، وإن "السيادة"، ليست حسنى ولا زيادة، وإنما هي استعباد، يبغضه العباد وربّ العباد، ويا ويح الأقوياء من غضب الله، وغضب المستضعفين من عباده.
…
الاستعمار مذهب يعتنقه الأقوياء، فما لهم يتفاوتون هذا التفاوت البعيد في مظاهره؛ يتفاوتون في الشرّ، يقارفه أحدهم سافرًا ليس عليه نقاب، وداعرًا ليس عليه مسحة من حياء؛ ويجترحه أحدهم معصية في صورة قربان، وفاتكًا في مسوح رهبان، كذلك يتفاوتون في العوراء، ينطق بها أحدهم كاسمها عوراء شوهاء، تجرح وتؤلم، وينطق بها الآخر ملفوفة في معارض النصح، أو محفوفة بمظاهر الإرشاد، أو مبلولة الحواشي بماء كذب من الحكمة، ونحن
…
فما سمعنا قط أن الإنكليز مثلًا قالوا: إن الهند إنكليزية، فسبحان من قسّم الآداب، كما فرّق في الأنساب.
وهذه الكلمة الدعية المملولة، التي لم يؤيّدها الحق ببرهانه، ولم تضعها الحكمة في مكانها، كلمة مؤذنة باحتقارنا، جارحة لكرامتنا، طاعنة في شرفنا وديننا وتاريخنا، فهل يريد القوم منا- بعد أن باءوا بسوء الأدب- أن نبوء بالإغضاء عليها، والإقرار لها، والرضى بسبتها؟ هيهات هيهات لما يريدون. إننا- والله- لا نقبلها ولا نرضى بمهانتها، ولا نقرّها، ولا نقصر في دحضها بأدلة الحق، ولو أن الاستعمار شرعها زجلًا بالتسبيح في ناشئة الليل، وجعل كفاء سماعها جزاء الأبرار لكان في آذاننا وقر من سماعها، ولعددناها غثة مرذولة ممجوجة مملولة، ولهدينا بالفطرة إلى الطيب من القول: وهو أن الجزائر ليست فرنسية، ولن تكون فرنسية. كلمات قالها أوّلنا، ويقولها أخيرنا، ومات عليها سلفنا، وسيلقى الله عليها خلفنا.