الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى الزاهري *
كتبتَ - أيها الشيخ- كثيرًا من الباطل، وسنكتب قليلًا من الحق، ولكنّ قليلنا لا يقال له قليل، ولو كنتَ وحدك
…
تكتب بقلمك، وتقول بلسانك، وتعبّر عن فكرك،
لأوليناك جانب الإهمال، وسكتنا عنك طول العمر كما سكتنا عنك في ماضيك القريب، وفي ماضيك البعيد احتقارًا لشأنك، واستهانة بما أهان الله منك، وربّما عذرناك في مجانبتك للصدق بأنك لا تعرفه، وإنما يؤاخذ الإنسان بترك ما عرف، وربّما أثنينا عليك بالوفاء للصاحب الذي صاحبك منذ عققت التمائم، وهو الكذب، وباستقامتك على الجبلة التي جُبلت عليها، وهي الشر، وبالموهبة التي خُصصت بها، وهي البراعة في قلب الحقائق، وربّما رحمناك من هذه النار التي تصلاها، وهي نار الحقد. ومعذرة
…
فإن من الميسور أن نُطفئ النار ذات الوقود، وليس من الممكن أن نُطفئ الحقد من صدر الحقود. وهنيئًا لك هذا الذوق اللطيف في أخذك بأحد بيتي ابن الرومي في الحقد، وهي قوله:
وما الحقد إلا توأمُ الشكر في الفتى
…
وبعضُ السجايا ينتمين إلى بعض
وتركُك للبيت الثاني وهو قوله:
فحيث تَرى حقدًا على ذي إساءة
…
فثم تَرى شكرًا على أحسن القرض
فلم تقصر حقدك على من أساء إليك، ولم تشكُر من أقرضك القرض الحسن، واسترحت من حيث تعب الكرام.
وإذا فهمنا مذهب ابن الرومي كما فهمته، فكل هذه الخصال البارزة فيك فضائل، وآمنَّا وسلَّمنا وقلنا: سبحان المنعم الوهّاب.
* نشرت في العدد 61 من جريدة «البصائر» ، 27 ديسمبر سنة 1948.
ولكن شأننا اليوم مع هذا الشبح الذي تختفي وراءه حينًا، ويختفي وراءك حينًا آخر، فقد تشابهتما وتشاكل الأمر. وقد انعقد بينكما نوع غريب من الحلول، لم يُعرف في جاهلية ولا إسلام. فأنت تتكلم باسمه، ولستَ إياه. وهو يتكلم باسمك، وليس إياك. ليجد كل واحد منكما في صاحبه ملتحدًا يدفع عنه المسؤولية، ويحمل عنه التبعة احتيالًا ومكر السيئ، ثم تبوءان بالسلامة معًا.
إننا إن أخذنا بمذهب الفقهاء عاملناك بما قالوه في المتسبّب في الجريمة والمباشر لها. وإن أخذنا بمذهب الأدباء، عاملناك بما تُسلمه معنا، وهو أن قائل الشر هو الشاعر الإنسي، لا رئيّه الجنيّ. ولا والله لا نبرح هذه المرة حتى نهدم الصومعة على رأس الراهب. فإن بيت الله- في جلاله- لا يجير عاصيًا ولا فارًّا بخَرْبة، وما كانت صومعتكم بيت الله، ولا كان راهبكم أبا عزّة في قومه
…
أفتظن- يا شيخ- أنك استعذت من هذا الشبح بمعاذ؟ أم يظن هذا الشبح أنه تقلَّد من قلمك سيفًا من فولاذ؟ وما هو إلا سيف أبي حية، ولو سمّيته- كما سمّاه- لعاب المنية.
إنك وذلك الشبح تعيشان في بقيّة من التقية. ولو كنتما صريحين لقلتما لنا ما هو الحق: أأنت مدير أم مُدار؟ وأنت المكتري أم صاحب الدار؟ ولبيَّنَ لنا ذلك الشبح منزلتك عنده: أأنت عبد مأمور، كما يقول بعض الناس؟ أم أنت عامل مأجور، كما يقول آخرون؟
…
إن أرذلَ الرجال، من يتطرف إليه مثلُ هذا الاحتمال؛ أما الحقيقة فهي أنكما شَرِيكَان في جريمة السب والكذب وقلب الحقائق: منك الألفاظ لمكانك في الكتابة، ومنهم المعاني لمنزلتهم في الأمية والتعجرف. أمّا تلك الأسماء، التي تُنعِل بها بعض كلماتك، فاغرُرْ بهما من لا يعرفك ولا يعرفها
…
إننا لم ننسَ يوم كنت تنسب مقالاتك في "الوفاق" إلى الأستاذ "بوشاقور" والأستاذ "بوشنتوف" والناس كلهم يعرفون من هما، وما هي دركتهما في الأمية. ولو صحّ فألك واشتق من الكاتب الواحد كُتّاب، كما اشتقّ من اللفظ ألفاظ، لامتلأت الجزائر بالأساتذة والكتّاب؛ ولكذبت الإحصاءات الرسمية في عدد الكاتبين والأميين بهذا القطر؛ ورحم الله أهل الحياء.
وأما قول أحد أسيادك في تصريح له بجريدة "الأسبوع": "إن جريدة الزاهري تناصر حركتنا" فهو سبّة لك ولحركته معًا. ولولا أن تقول- كعادتك- إن هذه وشاية بين متحابين، لشرحنا لك المنطوق من تلك الكلمة والمفهوم.
ونحن نتمنّى لكما دوام الألفة والمحبة، وندعو لكما بذلك؛ وإن كانت أمنية لمحال، ودعاءً في ضلال، فما عهدناك تصبر على طعام واحد، وما عهدنا أسيادك يسقون الشجرة بعد جَنْي الثمرة.
إن أسيادك- يا شيخ- بارعون في استغلال المواهب والكفاءات والاختصاصات. ولو كنت من أصحاب المبادئ الثابتة لما صحبوك ساعةً من نهار. ولكنهم يستغلّون- إلى حين- اختصاصك في السب والكذب والبهت. وتستغلّ أنت- إلى حين- جندَهم المسخّر لبيع "المغرب العربي"(وما أكثر باعة المغرب العربيّ فيهم)، ولعلّك أعجبك منهم أنهم قوم محظوظون في الزعامة، فطمعت أن تصبح زعيمًا بالمجاورة أو التوهّم كما قالوا في "جحر ضب خرب"، وفاتك أنّ شروط الزعامة عندهم أربعة، وأنت لا تملك منها إلا واحدة
…
...
قد كان يَسعُنا أيها الشيخ أن نعمر سنتنا بالأعمال، وتعمرون سنتكم بالأقوال، فإذا جاء رأس السنة وحلّ وقت الحصاد، قلنا: هذه أعمالنا، وقلتم: هذه أقوالنا، وعرضنا البضاعتين على الأمة لتنظر وتحكم أيتهما أزكى طعامًا، وأعظم عائدة، ثم قلنا لكم: سلام عليكم، وكل عام وأنتم سبّابون عيّابون كذّابون، ورجع كل منا إلى ما يُسر له، وكان يسعنا أن نبدأ من هذه السنة فنعفيكم من السنوات الماضية من تاريخكم التي هي سنوات مغسولة، لا نقطة فيها ولا حرف. وإذا وُضِعت الأعمال في كفة والأقوال في كفة، وهبط الثقيل وارتفع الخفيف، علّل الفارغون أنفسهم بأن ارتفاع الفارغ ارتفاع، وقد شهد الناس بأنه ارتفاع، وكفى. أهذا هو المنطق أيها القوم؟
كان يسعنا هذا، وكان مما ركب في طباعنا هذا، ولأجله سكتنا على تحرشكم المستمرّ سنوات، وفي استطاعتنا أن نسكتَ سنوات أخرى لو أنكم اقتصرتم على السب والكذب اللذين يهدمان صاحبهما قبل أن يهدم بهما الناس، ولكنكم أقمتم لنا الدلائل من أقوالكم وأعمالكم على أنكم تحاربون العلم والدين بسبّ العلماء، وتحاربون التعليم بإفساد المعلمين وأنكم تصدُرون في ذلك عن عمد وإصرار. وأن لكم خطةً مرسومة في الاستيلاء على جميع المشاريع بقصد إفسادها وتعطيلها لأنكم لا تحسنون تسييرها. كل ذلك ليخلو لكم وجه الأمة، وتحلو لكم أموالها، وإن هذه المقاصد منكم لم تبقَ خافيةً حتى على الصبيان.
إنكم أصبحتم كأصنام البابليين التي قال فيها إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} ، ولو كان إضلالًا في السياسة لهان الأمر ولكنكم جاوزتم إلى ميادين ليست من اختصاصكم، وتقحَّمتم في مسالك لا تحسنون السير فيها، وافتضحت نيّاتكم المبيتة فاحوجتمونا إلى هذا، وإنكم لتعلمون أن فتح هذا الباب لا يعود بالخير علينا ولا عليكم، ولا على الوطن الذي أكثرتم في التدجيل على الأمة باسمه. ومن لنا بالدليل على أنكم مخيَّرون لا مسيّرون؟
***
ويحك- يا شيخ- وويح أسيادك. أكلّ هذا الجهد الذي تبذلونه في حرب جمعية العلماء، معدود عندكم من خدمة الوطن؟ أكل هذا الاسم الواسع الذي انتحلتموه لجريدتكم لم يتّسع إلا للتحرّش بجمعية العلماء والتعريض بها وبرجالها؟
إن "المغرب العربي" محتاج إلى غير هذا، وإن كلَّ جزء من أجزائه في حاجة شديدة إلى جمعية كجمعية العلماء ورجال كرجالها، فإذا طوّعت لكم أنفسكم أن تكونوا سبةً على هذا الجزء من المغرب، فلا تكونوا سبةً على بقية الأجزاء، ونزِّلوا أنفسكم منزلة ذلك الذي كان يحلف بالقرآن وهو لا يحفظ إلا ربعه، فقال له قائل:"احلف بربعك"
…
أم تظنون أن سكّان المغربين، الأقصى والأدنى، يصدقونكم إذا قلتم: إن جمعية العلماء تخدم الاستعمار؟ أتظنونهم يتركون يقينهم لافترائكم؟ وهم يكادون يطيرون إعجابًا بأعمالها وحملاتها الصادقة على الاستعمار.
ويحك وويح أسيادك
…
فارقتم الحياء فراق الأبد، فتحالفتم مع الاستعمار على حرب جمعية العلماء، وركبتم كل عظيمة من المباهتة وقلب الحقائق وإلصاق كل نقيصة فيكم بنا، فهل أمنتم منا أن نجاريكم فنخلع الحياء شهرًا من السنة أو يومًا من الشهر أو ساعة من اليوم فنرميكم بأحجاركم؟
لقد كنتم تسبوننا بألسنتكم في المقاهي ومجالس السوء، وتلقّنون صبيانكم سبّنا، حتى أصبحت أفواههم مستنقعات
…
فلم يُقنعكم ذلك لأنه سبٌّ بالمجان، فارتقيتم إلى سبّنا بالكتابة لتّتخذوا منها سلعةً للبيع، ووسيلة لجمع المال. وتضيفوا إلى الهلال الأحمر هلالًا أسود
…
ومن الغريب المضحك أنكم تعتمدون في بيع السب على السب، فقد شهد العقلاء أن تسعة أعشار جريدتكم لا تُباع إلا بالسب والتخويف والتهديد وما يُشبه الإكراه، وأن العشر العاشر فقط يباع بالتغليط والتضليل (وعلى النيف)(1). إن هذه لحقيقة لا تستطيعون إنكارها وتكذيبها إلا بالعمل. ولو فعلتم وتركتم بيعها للرغبة والاختيار- كما تباع الجرائد- لأفلست في أسبوع، فجرّبوا إن كنتم منصفين.
أيها القوم: إن الوطن الذي تتوقّف خدمته على بيع السب والكذب لوطن مخذول سلفًا؛ وإن الحزب الذي يريد أن يكملَ بتنقيص غيره لحزب ناقص أبدًا، وإن السياسة التي تغذّى بمثل هذه المطاعم لسياسة ميتة
…
بالجوع.
…
1) وعلى النِّيفْ: النِّيف هو الأنف، أي حَمِيَّة.
أتذكر- يا شيخ- ماضيك الصحافي، وصحائفك الماضية التي تهاوت في مثل عمر الزهر، من "الجزائر"، إلى "البرق"، إلى "الوفاق"، وقد ماتت كلها بالهزال والتسمّم. ولو كانت مما ينفع الناس لمكثت في الأرض، فاحتفظ بما بقي من أعدادها، فسيحتاج الناس إلى ما فيها يوم ينكس الله طباعهم، ويطمس على بصائرهم، فيصبح السب والكذب عندهم من الفنون الجميلة، فيشيدون المعاهد العالية لتعلّمها، ويقتبسون النماذج الرفيعة من تلك الجرائد.
أتذكُر يوم ضاقت بك الحيل فعرضت همّتك وذمّتك وقلمك في المزاد العلني فكنّا أزهد المشترين فيك؟ كن شريفًا ولو لحظة من عمرك واعترف بهذه الحقيقة. ألم ننصحك نصيحة لو أحيا الله أبويك لما نصحاك بمثلها؟ ولكنها ضاعت كما تضيع المِنّة عند غير شاكر. ألم تفترص الفرصة حين خاطبناك في صندوق الحروف الذي تملكه لنطبع به «البصائر» ، بالبيع أو بالكراء، فأخذت منّا عشرة آلاف فرنك لتفكّ بها رهن الصندوق من الطابع الإسباني، وكنت عاجزًا عن فكّه بستة آلاف فرنك؟ فلما حصلت عليه اشتططت وشرطت قرض مائتي ألف فرنك في مقابلة كراء الحروف، فلما يئست منا عرضت نفسك على دكتوريْن لهما ماضٍ عريق في خيانة الوطن لتخدم ركابهما وتزكيهما في الخيانة، في مقابل قناطير من الورق منَّياك بها، فلما لمناك على ذلك قلت لنا بالحرف:"ما نكذبش عليكم، أنا نتبع مصلحتي المادية حيثما كانت" والجملة الأولى هي لازمتك المعروفة عند جميع الناس، وهي لازمة كل كذّاب، إذ لا يكثر من نفي الشيء إلا المتّصف به، ثم كنت متشوّفًا إلى خدمة مَن تُسمّيهم اليوم باللائكيين، ولو أعاروك التفاتة، أو أشاروا إليك بغمزة، لكنت اليوم من عبيدهم المطيعين، ولكانت اللائكية، في نظرك ملائكية، ثم عرّجت على الشيوعيين، ولهم معك ماضٍ معروف، فوجدتهم أيقاظًا، ذاكرين لذلك العهد، مثنين عليك بمثل ريح الجورب، ولوآنستَ في ذلك العهد من جانب الطرُقيّة نارًا، لقلت في غير تردّد: إني أجد على هذه النار هدى. ثم وقع بك الحظ على هؤلاء القوم أو وقع بهم عليك، وهم لم ينسوا ماضيك معهم، وإنما يتناسونه لأمر ستنجلي عنه الغيابة، يوم ينكفئ القدر بما فيه من صبابة. فهل فكّرت بعد هذه الأطوار أن تستقلّ بجريدة لا تناصر بها حركة ولا سكونًا، ولا تعتمد فيها على شخص ولا على حزب؟ وهيهات
…
إننا نقامرك - مع الأسف- بما شئت من المال الذي تتحلّب شفتاك شوقًا إليه، وتحسدنا على جمعه وتفريقه، وتتساءل في حيرة المشتاق: أين يذهب هذا المال؟ نقامرُك على أن تصدر جريدة ليس عليها إلا اسمك ووسمك، وليس لها اعتماد إلا على قيمتك الشخصية وسمعتك الاجتماعية، فإن راجت المائة الأولى من العدد الأول قمنا لك بالشرط وإن ثقل، وبؤت بفائدتين: المال ومعرفة أين ذهب بعض المال.
أيها الشيخ:
"إن البلاء موكل بالنطق"، وإن من قال كل ما يُحبّ، سمع بعض ما يكره. وإن من اشتغل بالناس، يوشك أن يشغله الناس عن نفسه. وإنك ستتجنّى وتتّهم وتتعنّت وتذهب في التأويل كل مذهب، ولكنَّك لا تأتي بشيء جديد، فكل ما تقوله غدًا قد قلته أمس مكررًا ومعادًا، وأنت امرؤ بادي المقاتل لخصومك، بادي الهنات لأصدقائك، ومن كان مثلك لم يَضر عدوًّا، ولم يسرّ صديقًا.
هذا بعض حقّك علينا أدّيناه معذورين، أما حقُّ أصحابك فسنؤدّيه معذورين ومشكورين.