الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قضية فصل الدين
ومن فروع هذه القضية:
الحجّ *
ــ
سكتنا - متعمّدين- عن المهازل التي جرَتْ في حجّ هذه السنة، فلم نبادرها بالنقد جزئية، ولم نعالجها بالتجريح واحدة واحدة، مع أنها حقيقة بذلك، ومع علمنا بأن أصلها باطل، فهي باطلة: ولكننا سكتنا حتى ينتهي الشريط وتتمّ الرواية التي ابتدأت فصولها يوم أعلنت الشروط والأسعار والمواقيت إلى يوم سافرت السفينة في بحرين: بحر من الماء وبحر من الفوضى والاختلال.
سكتنا- مع مرارة السكوت- لا رضى بما تصنع الحكومة في شعيرة إسلامية محضة، ولا إقرارًا لعبثها بديننا، ولكننا سكتنا انتظارًا لانسدال الستار حتى تقوم الحجة وتنقطع المعاذير، فنضيف قضية الحج إلى قضايا المساجد والأوقاف والتعليم الديني، ونحمل الحملات الصادقة في سبيل تحريرها، فلتعلم هذه الحكومة السائرة على منهج لا يتبدّل في احتكار أمور ديننا أننا سائرون على منهج لا يتبدّل في المطالبة بحقّنا الديني الطبيعي، وفي التظلّم منها والتشنيع عليها، وأننا لها بالمرصاد.
كان المتفائلون يظنّون- وبعض الظن إثم- أن الحكومة تنفض يدها من مسألة الحج في هذه السنة. فإن لم تنفض يدها بالمرة صحّحتْ أخطاءها القديمة، وعدّلت آراءها السقيمة، ووسعت الدائرة وخفّفت الشروط، ولم تتمسّك إلا بما هو حق لا ينتقده أحد مثل التلقيح وتحديد العوض النقدي.
وكانوا يظنّون أنها اتعظت بأحداث الدهر وتقلباته، واستعادت بعض رشدها الذي فارقها يوم كانت (تحجج) في كل سنة بضعة من صنائعها على طيارة، ترسلهم دعاة ليسبحوا
* نشرت في العدد 11 من جريدة «البصائر» ، 20 أكتوبر سنة 1947.
بحمدها، ويوافوها بالأخبار والتقارير؛ تظهر لهم الثقة بهم، وهي تسيء الظن بجميعهم لأنهم مسلمون، تفعل ذلك كله لتقيم الدليل- في زعمها- على تسامحها في الدين واعتنائها بالإسلام والمسلمين؛ وما اهتمامها- والله- إلا بنفسها وسيادتها وباستعمارها. تُدعمه ولو بالأوهام، وتثبته ولو بالتلبيس والإيهام؛ وما ذلك النوع من "التحجيجِ" في نظر الإسلام والمسلمين إلا هزءٌ مكشوف، وسخرية مفضوحة، فهمها المسلمون شرقًا وغربًا، وأوسعوها انتقادًا وقدحًا، ووصفوها بأنها حبالة صيد للأغرار، ووسيلة كيد للإسلام.
خاب ظنّ الظانين وكذب فأل المتفائلين، ورأينا دار الحكومة الجزائرية كدار ابن لقمان باقية على حالها، ورأينا من غرائب التصرفات في حج هذه السنة أشياء جديدة مبتكرة لم يسبق لها مثيل، وعلمنا أن ذلك الطراز الذي نعرفه من حماة الاستعمار لا يهدأ لهم بال، ولا يطيب لهم منام إلا إذا أدخلوا أصابعهم في شعائرنا الدينية وأجروها كما يريدون لا كما نريد ويريد ديننا، فكأن السيادة على الأبدان والتحكم في الماديات لا تتم لذته عندهم ولا يرضي أهواءهم الطاغية إلا بفرض السيادة على الأرواح والتحكّم في ما بين العباد وبين خالقهم، وكفى بهذا محادة لله، وحربًا للدين من حيث هو دين، ويا ما أسخفَ تلك الجمل التقليدية التي تجري على ألسنة حكّام الاستعمار في خطبهم حينما يريدون التخدير والتضليل، وهي: ان فرنسا تحترم الإسلام.
إن حماة الاستعمار يعدون من الأركان القومية في دعايتهم ضد الشيوعية أنها لا تحترم الأديان، وأنها تحاربها، وأنها تنتهك حرماتها ومقدّساتها؛ وليت شعري ماذا أبقوا هم للشيوعية من حرب الأديان وانتهاك حرماتها ومقدّساتها بعد الذي رأينا، والذي شهدنا.
…
الحجّ في الإسلام ركن من أركانه التي بُنيَ عليها، يشاركها في الركنية والروح والمعنى العام للتعبّد، ويزيد عليها بمعانٍ اجتماعية حكيمة من السير في الأرض، والاطلاع على الأحوال، والاستزادة من العلم، والاختبار لأحوال الأمم، والاعتبار بها، والامتزاج بالأمم المشتركة في الدين، والتعارف بين الإخوة المتباعدين في المواطن: فهو مؤتمر اجتماعي للمسلمين، تحصن بالفرضية المحتّمة ليضمن له البقاء والاستمرار، واختار الله له من الأماكن تلك الصحراء الطاهرة بلعاب الشمس، المصهورة بحرارتها، المهيأة لرسالة التوحيد بدءًا وختامًا ليذكر المسلمين بالفطرة التي هي من خصائص دينهم.
والحجّ في نظر الاستعمار أداة مهيّأة لاستعباد الأمم الإسلامية التي أوقعها القدر في قبضته، يصرفهم بها في مصالحه، ويستخدمهم بسببها في أغراضه، ويسخّرهم بها كما تشاء
أهواؤه لا كما يشاء الإسلام وتقتضيه حكمته، ويجعل من وجوبه عليهم وسيلة لإخضاعهم وإذلالهم واستنزالهم على حُكمه، ويجعل من خشيته من اتصال المسلمين وتعارفهم مبررًا للتضييق عليهم.
نتحدَّث عن الاستعمار الفرنسي لأنه بأعيننا، ولأنه أخبث أنواع الاستعمار، إن لم يكن في جميع المعاملات ففي ما يتعلق بالدين الإسلامي على القطع والجزم، فقد رأينا رأي العين ما تتمتّع به الأمم الإسلامية من حرية واسعة مَرنة في دينها تحت الحكومات الاستعمارية ولا نستثني روسيا القيصرية.
يتحكّم الاستعمار الفرنسي في الحجّ ويجري عليه ألاعيبه حتى يخرج عن حقيقته الدينية التي هي معاملة بين المسلم وربّه إلى مساومة تجارية سياسية أحد طرفيها الدين والضمير، وإلى معاملة استبدادية بين حاكم مسيحي مستبدّ، بيده الباب ومفتاحه والرخصة والذهب والمركب وطرُق السفر في البر والبحر والجو، وبين مسلم مغلوب على أمره ليس له إلا إيمان في قلبه، وامتثال لأمر ربّه، ورجاء في أن يمحو بالحجّ ما تقدّم من ذنبه، وشوق يتجدّد كلما سمع قول الله:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وتذكيه أهلة تلك الأشهر، واستطاعة بدنية هي من نعمة الله عليه، واستطاعة مالية اختزلتها الأزمات فعوّرتْ عينها ولم تبقِ منها إلا أسماء ممنوعة من الصرف، وأخيلة لا يستقرّ عليها الطرف.
رأى الاستعمار أن شرط الاستطاعة الذي هو شرط ديني وطبيعي لكل شيء في الدنيا لا يكفي في التثقيل على المسلم، فأضاف إليه شروطًا من عنده تثقل الكواهل، وتجرح الضمائر، وتنافي الروح الديني، وتشوب الإخلاص القلبي، وتصير المستطيع غير مستطيع، وغير المستطيع مستطيعًا
…
وانظر ما تشترطه الحكومة في الحاج تتبيّن صدق ما قلناه وتعلم أننا غير متجنين عليها ولا مبالغين في نقدها، تقول الحكومة في أول شروطها ما نصه:
أولًا: البراءة من التهم والإجرامات المدنية والسياسية. يا للعجب! أيكون الإجرام المدني مانعًا من الحج؟! أيكون الإجرام السياسي مانعًا من الحج؟!
وما هو الإجرام المدني؟ إنه السرقة وأكل أموال الناس بالباطل وشهادة الزور، إلخ. ولا نقول الزنا وشرب الخمر والقمار، لأن قوانين الاستعمار تبيحها وتعدها من الحلال الطيب، ولا تعاقب عليها ولا تعدها من "الإجرامات المدنية" مع أنها أمهات الرذائل وأصول الخبائث، وكيف يمنع هذا المجرم من الحجّ وتعاكس عقيدته بأن الحج يمحو خطاياه.
إن في الإسلام شيئًا لا يعرفه الاستعمار ولا يفقه له معنى لأنه لم يتصف به ولا مرة، وهذا الشيء هو "التوبة": فالمسلم إذا تاب من كبيرة يعتقد أن من كمال التوبة أن يُكثر من الطاعات ومنها الحج، وعلى هذا فالمذنبون هم أحق الناس بالحج.
ثم ما معنى الإجرام السياسي؟ إنه حبّ الوطن، والعمل على نفع أبنائه، وبغض الاستعمار، والعمل لمقاومته: فهذا هو الإجرام السياسي الذي تعتبره الحكومة الجزائرية مانعًا من أداء واجب ديني، ولا ندري لماذا لم تجعله مانعًا من أداء الصلاة والصيام؛ فإن كانت تعتبره في الحج خوفًا من تشهير الحاج السياسي بسياستها والتنديد بها بين المسلمين، فقد أخطأت التقدير، فإنّ مسلمي الشرق لا يحتاجون إلى من يندّد بسياسة فرنسا وظلمها ولا يحتاجون إلى من يكشف لهم عن مساوئ الاستعمار الفرنسي؛ فهم يعلمون من ذلك كله فوق ما نعلم. لأن من ذاقه منهم ذاق السمّ الزّعاف، ومن سمع عنه سمع ما يصمّ الآذان ويسيل العبرات.
إننا مع الاستعمار على طرفي نقيض في تفسير كلمة "الجرم"، فنحن نعد الخمر والزنا من أعظم الجرائم، وهو يعدّهما من المباحات ومن موارد الاستغلال الغزيرة، ولا يعدهما قادحين في سيرة ولا منصب، حتى في مناصبنا الدينية الشريفة كالقضاء والإمامة، ونحن نعد السياسة عملًا طبيعيًّا معقولًا ووسيلة من وسائل خدمة الوطني لوطنه ولبني جنسه، وهو يعدّه كذلك بالنسبة إلى الأوروبي السيّد، أما بالنسبة إلى المسلم فهي جرم يمنع صاحبه من الحج، وما زال هذا الخلاف بيننا وبين الاستعمار في معنى لفظة "الجرم" يتطلب حكمًا ولا يجده.
وزاد الحمأة امتدادًا ما صحب حجّ هذه السنة من فوضى في الإجراءات واختلاف بين الإدارات، فهذه تعطي وتلك تمنع، وهذه توسّع وتلك تضيّق، وهذه تنقض ما أبرمته تلك، والحاج المسكين بين هذه الإدارات المختلفة التي كأنها إمارات مستقلّة- كالكرة تتقاذفها اللجج، وتتلقفها الصوالجة؛ وكل كاتب في إدارة، وكل مكلف بعمل مما يتعلّق بالحجاج قلّ أو جلّ، فهو حاكم بأمره، يعد ويمني، أو يتوعّد ويتشدّد. والإجراءات تحبو من مكتب إلى مكتب، ومصالح الطالبين متعطلة، وأوقاتهم ضائعة، وآمالهم في الحج معلّقة بين الرجاء واليأس. حتى ظنّوا أن ليست هنا حكومة مسيطرة ولا نظام متّبع، ولا قانون نافذ؛ ونقول مؤكّدين: إن كثيرين منهم لم يستيقنوا، إلى ساعة السفر، أنهم مسافرون أو غير مسافرين- مع أن الرخص والنقد في جيوبهم وآثار التلقيح في جنوبهم- لكثرة ما سمعوا من الوعود المتناقضة مرّة بالإعطاء، ومرة بالحرمان، ولكثرة ما شاهدوا من الخلاف بين الإدارات العليا وبين الإدارات السفلى؛ وقد رأينا في بعض البلدان في الأيام الأخيرة رجالَ البوليس يبلغون أمرًا حكوميًّا صادرًا من دار العامل يقضي بإلغاء الترخيص لمن حجّوا في العام الماضي، ثم رأينا طائفة منهم استعادت رُخصها وسافرت بالفعل، لأنها عملت بقاعدة "العب كما يلعب صاحبك".
والمرأة
…
فقد كان لها في حج هذا العام شأن عجيب. قالت الحكومة لا يحج في هذا العام من النساء إلا عدد محدود، مع أن النساء المسلمات ليس فيهن مجرمات مدنيات ولا سياسيات، وأنهن لا يقتلن أزواجهن ولا يضربنهم كما تفعل سيداتهن الأوروبيات، ولا يعرفن ما الجرائد وما السياسة وما الأحزاب.
تقول الحكومة: لأنها خصّصت لهن أسرّة محدودة. ولماذا؛
…
وقد أجيلت تلك الأسرّة المحدودة على طالبات الحجّ الكثيرات كما تجال القداح، فكانت من نصيب المحظوظات.
وقد كان يوم السفر واليومان السابقان له، أيام حشر في مدينة الجزائر، حشر فيه المحرومون والموعودون، وكل واحد متعلق بشفيع أو شفعاء من النواب وذوي الجاه و "وسطاء الخير" من مسلمين ومسيحيين ويهود، فكان منظرًا مزرًيا بشرف الإسلام، وجلال الحج وبسمعة الحكومة أيضًا.
ونقول الحق. إنه لم تظهر أعراض الجنون بالحج على عوام الجزائريين في سنة، مثلما ظهرت في هذه السنة، ولو عقل هؤلاء المتهافتون على الإدارات المتقرّبون إليها بالشفاعات في أمر ديني، وعرفوا قيمة أنفسهم، وقيمة دينهم، لعلموا أن هذه المأساة تكررت وتكررت في كل عام، وأنها لا تعالج بمثل هذه التضرعات والتوسلات ما دام أصلها ثابتًا. وإنما نستأصل جرثومتها بشيء واحد وهو فصل الدين عن الحكومة. فليسعوا إليه متساندين وليعملوا له متّحدين، فإذا حصّلنا الفصل رجعنا إلى الأصل، وإذا نقضنا الأساس لهذه القضية، انتقضت فروعها.