الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *
- 2
-
…
وماذا في الجزائر من ذاك؟
يسمع البعيدون الذين منّ الله عليهم بالسلامة مما نحن فيه، أن في الجزائر نوّابًا ومجالس نيابية، وأن فيها من مواليد عهد التطورات مجلسًا جزائريًّا، يتراءى في مظاهر برلمانية، تلوح عليه مخايل البرلمان وسماته، وتنفح من طياته روائح البرلمان ونسماته، يسمعون ذلك عن الجزائر فيحسبون أن الحرية صافحتها، وأن عوادي الدهر صافتها، وأن هذه المجالس النيابية خليقة أن تراقب الحكومة والحكّام، وأن تناقش، وأن تحاسب، وأن تحامي عن مصالح الأمة وحقوقها، كدأبها في كل بلد نيابي، وقد يغبطنا جيراننا الأقربون عن هذه الحياة الشورية التي حرمهم الاستعمار منها.
مَن يَسمعْ يَخل، والبعيد يسمع الأصداء لا الأصوات، والحقيقة هي أنه ليس في الجزائر نيابة ولا نوّاب، ولا منتخبون ولا انتخاب، وأن حالتها في هذا الباب- بعد مائة وعشرين سنة من استعمار فرنسا أم الدساتير وأم الشعوب النيابية في العالم- قد انتهت إلى حيث ابتدأ (الباش أغا) عبد الله قائد دوار شرق الأردن. وان هذا التشابه لينبئ بأن ذلك الباش أغا قد استعرض في بدايته (عيّنات) من النيابات، فاستوقفه نوع النيابة الجزائرية في نهايتها، فاستهوته، فاختارها فقلّدها، والشكل يقع على شكله.
ليس في الجزائر نيابة ولا نوّاب، بالمعنى الذي تعرفه الأمم، وإنما هي صور بلا حقائق، وألفاظ مجرّدة من معانيها، وأجسام مفرغة من أرواحها
…
إنما هي وظائف توزّعها الحكومة على أعوانها، وتضع عليها هذه الأسماء، تمويهًا وتغليطًا، وتغطّيها بأقلية ضئيلة من
* نشرت في العدد 120 من جريدة «البصائر» ، 22 ماي سنة 1950.
النوّاب الأحرار، تمهيدًا للغدر، وتعويذًا من العين، ودفعًا للتهمة وقالة النقد، فإذا اجتمعتْ هذه المجالس النيابية ليوم الفصل في المشكلات، أو ليوم الرأي في المعضلات، لم تجد نوّابًا ولا رأيًا، ولكنك تجد الحكومة تتحكّم وتسيطر، وتوجّه وتملي، ثم لا يكون إلا رأيها، وإنك لترى أشخاصًا وتسمع أصواتًا، وتشاهد حدودًا من النظام، وتسمع في بعض الفترات نبرات حرة تخترق تلك الكثافة الغالبة، حتى يخدعك النظر، وتهُمّ بأن تعتقد أنها مجالس نيابية، ولكن ذلك كله ما دام الحديث في القشور والتوافه، أما إذا عُرضت مصالح الحكومة، وعارضتْها مصالح الوطن وحقوق الأمة فإن النيابة تنقلب حكومة، ويضيع الصوت الحرّ- إن كان- في الضجيج.
لا تكون النيابة مثمرة إلا إذا كان الانتخاب حرًّا، وكان المنتخب عارفًا بقيمة نفسه وبمعى الانتخاب، ولم ترَ الجزائر انتخابًا حرًّا خاليًا من شوائب التدخّل الحكومي من يوم نشأ فيها الانتخاب؛ ولا تبحث بعد هذا عن أعجوبة الأعاجيب في هذه المجالس، وهي تمثيل الأقلية فيها لأكثرية السكّان، وتمثيل الأكثرية لأقليتهم، ولئن سألتهم ليقولن: إن أكثرية السكّان متأخرة عقلًا وثقافة، منحطّة علمًا وتفكيرًا، لا جرم أنها لا تستحقّ إلا هذه النسبة في التمثيل، فسلهم: ما الذي أخّرها؟
إن الاستعمار هو الذي أخّرها عامدًا، فسدّ عليها منافذ العلم، وأفسد فيها معاني الرجولة، وعامل القيم الإنسانية والموازين العقلية فيها بالبخس، ومحا منها بوسائله السحرية من الوظيفة واللقب والنيشان والأطماع كل المثل العليا التي هي مناط الطموح في الأمم، فأصبح معظمها حيًّا بلا حياة، وبلا أمل في الحياة، تسيَّر، ولا تخيّر، ويفتات عليها، ولا تشاور، وأصبح هؤلاء النوّاب نوائب نازلة عليها، لا يعرفونها إلا في أيام الانتخاب، أو لا يعرفونها قط، لأن الحكومة عرفت بهم، فإذا حلّت الكوارث بالأمة، أو فعلت الحكومة الأفاعيل بالأمة، سكتوا، كأن الأمر لا يعنيهم، ولأن الحكومة ما وضعتهم حيث هم إلا ليسكتوا
…
إن الغابط لنا على هذه النيابة خابط في ضلالة، وإن الحاسد لنا عليها حاسد على الموت، وإن الممتن بها علينا ممتن بالسراب على العطاش.
هذه هي حقيقة النيابة في الجزائر، فكيف يُرجى منها ما يُرجى من أمثالها في الأمم من مراقبة للحكومة، ومحاسبة للحكّام، وحماية للأمة، حتى يفشو العدل، ويشيع بين الناس.
وأما الصحافة في الجزائر فإنها استعمارية خالصة لحمًا ودمًا، تعيش على ماله، وتسير بتوجيهه، فهي تخدم ركابه، وتنصر مبادئه، وتثبت أصوله وتنافح من ورائه، وتأمر في حق الأمة الجزائرية بالمنكر، وتنهى عن المعروف وتضع الموازين البخس، لمصالحها، وتجسّم
المخاوف منها، وتزين المبالغة في إرهاقها وتعذيبها، ولا تقنع بما يقع من الحكّام من ضغط وزجر وإعنات، بل تعدّه تقصيرًا منهم في الواجب، وتفريطًا في المحافظة على السيادة الاستعمارية، والحقوق الفرنسية، ولذلك كله تراها لا تدعو ثبورًا واحدًا، بل تدعو ثبورًا كثيرًا كلما سمعتْ نبأة بطلب حق، أو رفع مظلمة، وشأن الصحافة الحرّة شأن النوّاب الأحرار، قلة في العدد، ونضوب في المدد، وريح تُلاقي إعصارًا.
وهذه هي حقيقة الصحافة في الجزائر، فكيف يُرجى منها ما يُرجى من مثلها عند الأمم من مراقبة حكومة، أو محاسبة حكّام، حتى يفشو العدل ويشيع بين الناس.
…
يقول الاستعمار- وقوله الباطل-: لا حق للأمة الجزائرية في الحياة، وما قالها إلا بعد أن فعلها
…
جرّدها من سلاح الحماية، فلا قانون يحميها، ولا نيابة تنطق باسمها، ولا صحافة تدافع عنها، ولا حاكم منها يعطف عليها
…
فمن الذي يحمي عرضها من الثلب، ويحمي مالها من السلب، ويحمي دينها من القلب، ويحمي جسمها من الضرب، لا شيء
…
لا شيء
…
ولا بعض الشيء
…
هل تنتظر هذه الأمة العدل من فرنسا (منارة العدل)؟ لقد انتظرته حتى ملّت الانتظار، فعادت إلى اليأس، وارتفعت صيحاتها بالتظلّم إلى فرنسا حكومةً وبرلمانًا وشعبًا، فلم يجبها عند ذاك مجيب.
حلّت المصائب بهذه الأمة، وتتابعت المكائد التي تدبّرها حكومتها الاستعمارية، فرفعت صوتها إلى آخر ملجإ حكم عليها القدر بالالتجاء إليه، وهو فرنسا، فلم تظفر منها بشيء يداوي الجروح، ويسلّي النفوس، ولا رأت منها عناية- ولو مصطنعة- بهذه القضايا الخطيرة، ولا نهيًا عن تلك المنكرات التي تئطّ منها السماء والأرض، ومظهر العناية من دولة عريقة في الجمهورية، وأيسر شيء عليها أن ترسل لجنة برلمانية للتحقيق العادل، ولكن شيئًا من ذلك لم يقع. بل وقع في كل حادثة ما يضاده ويعاكسه، وهو إعلان الثقة بمدبّري المكائد، ومكافأتهم عليها، والإملاء لهم ليزدادوا طغيانًا وإثمًا.
وقعت حوادث 5 أوت 1934 - وهي مكيدة مدبّرة- فلم تحرّك فرنسا ساكنًا، وتركت المكيدة تجري لغايتها.
ووقعت حوادث 8 ماي 1945 المروّعة فأعلنت فرنسا ثقتها بالمدبرين لها، ورضاها عما يصنعون، واهتزت الدنيا لهولها وفظاعتها، ولم تهتز فرنسا إلا هزّة الإعجاب ببطولة الهاتكين
للأعراض الطاهرة، الفاتكين بالمهج البريئة، المثخنين في شعب أعزل: ورويت الضواري الوالغة من دماء هذه الأمة، وشفيت الصدور المغيظة عليها من الغليل، وأفاق المظلومون من غمرة الذهول، على حمى مستباح، ودماء مطلولة، فرفعوا أصواتهم يطلبون من فرنسا إرسال لجنة برلمانية للتحقيق الذي لا يردّ فائتًا، ولا يحيي مائتًا، ولكنهم كانوا ينادون صخرة صمّاء، ومن عجيب ما رآه الناس في تلك الحادثة أن بريقًا من الإنصاف لاح في نفس بعض المسؤولين هنا فانتدب شخصين اثنين للتحقيق في أول بقعة اندلع فيها لهيب الحادثة، وأحد الشخصين فرنسي منصف، والآخر جزائري متعفّف، ولكنهما رجعا ليومهما، وحيل بينهما وبين الاطّلاع على أصغر جزئية في القضية.
ووقعت بعد ذلك حوادث (دوّار السطح)، وأتت بما تقشعرّ منه الجلود، وانجلت الحقائق بالوثائق، فلم يتحرّك من فرنسا ساكن، ولا نبض لها عرق.
ووقعت في السنّة الماضية حوادث (دوار علي بوناب) فكانت تمثيلًا للوحشية في أشنع صورها، وكثر فيها القيل والقال، والجواب عن السؤال، وطارت أخبارها إلى ما وراء الستار الحديدي، ولكن فرنسا طردت القاعدة، فظلّت قاعدة.
…
وفي هذه الأيام تجري حوادث صامتة الظواهر، مفصحة البواطن، مسبوقة بالأمثال والشواهد، تومض نارها من خلل الرماد، ولكنها تُنسي كل ما قبلها في الترويع والتجنّي، وإن لها لغاية في الكيد، هي سائرة إليها، فمن أين نلتمس العدل فيها؟ أمن فرنسا؟
…