الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السلطان محمد بن يوسف *
آليْت بالحظائر المستره
والآي في رقوقها مسطره
والكعبة الجليلة المطهره
والروضة الشريفة المنوّره
إنّي أسوق الواعظات المنذره
صادعةً رادعةً محذّره
ناصحة لقومنا مذكّره
واسمةً بالهون كل نكره
من خابط في الظلمة المعتكره
ووارد سؤرَ المياه الكدره
وعابد للنجمة المنكدره
دليلها الحق، ومن ينصف يره
…
إنّ أميرَ المسلمين جوهره
وصورةٌ من خلق مصوّره
ونسخةٌ من أدب محرّره
وقطعةٌ من حكم مقرّره
وقطرة من الهدى منحدره
في الدهر من جد الشراف حيدره
* نُشرت في العدد 147 من جريدة «البصائر» ، 19 مارس سنة 1951.
مناقب على المدى مدّخره
لمن غدا بين الملوك مفخره
وإن أتتْ أيامه بأخره
…
إنا إذا الحمد تلوْنا سوره
ثم جلوْنا- كالمرايا- صُوره
ثم حدوْنا في البرايا زمره
سقنا إليه شمسه وقمره
ومن يطب مولى الموالي عنصره
فمن تمام فضله أن ينصره
…
من ادّعى وصف الكرام الخيره
فاستشهدوا أخلاقه وسيره
واستنبئوا من الزمان غيره
وسائلوا: مَنْ قادَه وسيّره؟
فالزيرُ- إن تنشده- حلفُ الزيرَه
…
يا عصبة في الغيّ ليست مقصره
قد عميت عن الهدى والتبصره
لا تفرحي: إن الغنى والسيطره
لم يبرحا إلى الهلاك قنطره
لا تمرحي: إن الهوى والأثره
جالبةٌ كلّ البلا أو أكثره
تسمّعي: إن الليالي مخبره
بأن أيّام الصعود مدبره
…
قد كتب الدهر ووالى عِبره
وصدّقت رُؤى العيون خبره
أن قصورَ الظالمين مقبره
عمارها إلى الخراب معبره
…
ليس من عادتنا أن نثني على الأشخاص لذواتهم أو لمقاماتهم التي قرّرتها الأوضاع والمصطلحات، وإنما نثني- إذا أثنينا- على الأعمال الصالحة، فينصرف الثناء إلى العاملين بالتبَع.
وليس مما رُكب في طباعنا الصغو إلى الملوك، أو انتحال النزعة الملكية مذهبًا، فقد قرأنا عن كثير من غابري ملوك الإسلام ما زهدنا فيهم، وما كرّه إلينا نظام الملكية، وبلوْنا من حاضريهم ما يتبرأ منهم الإسلام من المنديات، وعلمنا علم اليقين أن أعمال الغابرين والحاضرين منهم هي التي أفضت بالإسلام والمسلمين إلى هذه المنزلة من الحطة والهوان؛ فأصبحنا نعتقد أن الملكية نظام لا يعتزّ به الإسلام، ولا يحيا عليه المسلمون، ولا يستطيعون أن يجاروا به أمم الحضارة في هذا الزمان، خصوصًا مع ما انتحلوه لأنفسهم وتعبدوا به رعاياهم من هذا التألّه الكاذب، وهذه الحقوق التي لم يأذن بها الله، وهذه المميزات التي زادها طولُ الزمن، واستحكام الجهل رسوخًا، والتي استمسكوا بها حتى في هذا العصر العالم اليقظان، عصر الدساتير المسنونة بإرادة الأمم، فلا يحاكمون، وإن خربوا الدين والدنيا، ولا يعاقبون، وإن أهلكوا الحرث والنسل، ولا يعاتبون، وإن انتهكوا الحُرُمات، وجاهروا بالمنكرات، وإنك لتسمّيهم ملوكًا لترفعهم عن مقام العبيد، فتجبهك الحقيقة بأنهم عبيدٌ لشهواتهم وأهوائهم؛ وإنك لتلتمسهم في مواطن الحفاظ من أوطانهم، والاحتفاظ بأموالها، والاختلاط بأهلها، والمشاركة لهم في النعماء والبأساء، فلا تجدُهم إلا في أوربا، و (بواليع الأموال في أوربا)، ومُغريات أوربا، يجرونها إلى ديارهم طوعًا، فتجرّهم إلى ديارها كرهًا، ويأخذونها تفاريق فتأخذهم جملة
…
ويقتبسونها نورًا، فتقبسهم نارًا؛ وإنك لتجدهم حيث شئت إلا في مقام القدوة في الخير والصلاح.
فإذا أثْنينا اليوم على محمد بن يوسف ملك المغرب، فإنما نثني على أعماله الجليلة ودينه المتين، ومواقفه المشرّفة المجيدة في نصر الحق على الباطل، ودحض البدعة بالسنة، وفي الدفاع عن حقوق وطنه، وفي سيرته النبيلة التي هي مضرب المثل في ملوك الإسلام.
وإذا أحببناه فلأنّ في أعماله وخصاله ومواقفه ما يفرض حبّه فرضًا على كل مسلم صادق الإسلام.
وإذا أعجبنا به فلأنّ كل فصل من سيرته موطنُ إعجاب.
وإذا نصرناه بما نملك من كلام فلأنه ملك مسلم مظلوم
…
مظلوم في أمّته، ثم مظلوم ببعض أمّته، وليس في أنواع الظلم أحزّ في الصدور من هذا النوع، وليس فيها أدعى لانتصار ذوي النخوة العربية والشهامة الدينية من هذا النوع.
…
نعرف عن جلالة السلطان محمد بن يوسف كل ما يجب أن يعرفه عالم مسلم، حرّ الفكر، مستنير البصيرة، موقوف المواهب على خدمة الإسلام، وإصلاح المسلمين عن ملك مسلم ممتاز بين ملوك المسلمين- في عصر كثر فيه الملوك- خصوصًا في هذه الرقعة العربية- كثرةً معاكسة لسير الزمن، منافرة لسيرة أبناء الزمن، فكانوا وباء للأجساد، ووبالًا على الأرواح، وجائحة مرسلة على الأموال، ومطايا يستعملها الأجانب لاستغلال الأوطان، ثم للاستيلاء عليها.
نعرف عنه دراسةً، ونعتقد فيه وجدانًا، ونشهد منه عيانًا، ما يرفعنا عن الأخذ فيه بالتقليد، ويربأ بنا أن ننتقل في الحكم عليه من رأي قديم إلى رأي جديد، كما تربأ بنا عادتنا في الحُكم على الرجال، أن نحابيه أو نتعصّب له، جريًا مع هوى غالب، أو انتصارًا لمذهب جامع.
فالنتيجة التي انتهتْ إليها الدراسة، واطمأن لها الوجدان والعيان في هذا الملك العظيم حقًّا، هي أنه ملك مسلمٌ صحيح الإسلام، مؤمن متين الإيمان، سلفي العقيدة والتعبّد، قديم في دينه، جديدٌ في دنياه، مجدّد مصلح في الدين والدنيا، واسع الاطلاع على أحوال زمنه، يقظان العقل في أسرار السياسة المحيطة به، شجاع الرأي في الجدل المحتدم فيها، يمارس من الأجانب هولًا واحدًا،- ومن الأقارب أهوالًا، يعمل لشعبه دائمًا، ويعمل لنفسه قليلًا لمعنى يرجع إلى شعبه، وهو أن يرسم لهم خطوط الاقتداء والتأسي، ومن رأينا فيه أنه لو تأتت له الوسائل ولاينته الظروف، لطوى مراحل التقدّم بالمغرب في مرحلة.
هذه الخلال هي سر عظمته عندنا، وهي سر حبنا إياه، وإعجابنا به، وانتصارنا له، ولو أنّي حكمتُ هذا الحكم قبل أن أجتمع به في الرحلة الأخيرة إلى باريز، لكان فيه شوبٌ من التقليد والاتكاء على السماع الذي شان العقائد، وأفسد التاريخ، وغطّى الحقائق؛ ولكنني طابقت بين السماع والعيان، وصحّحت الاستدلال في تلك الساعة التي تحدثتُ فيها إليه، وتحدث إليّ، مجردًا من الكلف والرسميات، في بلد غربة وموطن حريّة، وقد زُوِيت في تلك الساعة القصيرة، أطراف تلك النفس الكبيرة، وكانت ساعةً من تلك الساعات المعدودة في التاريخ، التي يلتقي فيها عالم مسلم، بملك مسلم، فلا يجري على لسانيهما إلا ما يرضي الله، وينفع الناس.
لمحتُ في هذا الملك الديمقراطي ملاءمة الفضائل الفطرية فيه، للفضائل المكتسبة بالدرس والتجربة والاحتكاك، فالذكاء الفطري يمازج الإلمام الواسع بما يجري في الكون، والإيمان بالعاقبة يزاوج الاحتفاظ الشديد بحقوق المسلمين، والإيثار يساند الإقدام، والصبر على المكاره يقارن الصراحة في قولة الحق، طرازٌ من الأخلاق متلائم النّسب، متلاحم النسج، متناسب العرض، في شخصية واحدة، يزيّن ذلك كله بساطة متناهية، هي بساطة المسلم الصادق المتشبع بالفضيلة، الذي لا تزدهيه المظاهر، ولقد وقع نظري وذهني- وأنا أحادثه- على صغيرة من آثار تلك البساطة، ولكنها مبعث الروعة والجلال، وهي تجرّد هذا الملك من تلك العهون والذلاذل (ولا أقول: الحُلي) التي يزيّن بها بعض ملوكنا وأمرائنا صدورهم، وأعناقهم، وتراقيهم، على ضرب مما كان يزيّن به العرب جمالهم
…
فلا يكون معناها عند العقلاء إلا أن أصحابها فرغت بواطنهم من معاني السلطان، فعمروا ظواهرهم بهذه (الشرطان)، وعلى أن الزمان انتهى من السخرية بهؤلاء إلى هذه الدرجة، فعوّضهم من الأعمال التي يتجمّل بها الرجال، بهذه الحِلْية التي يتجمّل بها غيرُهم
…
...
والمحنة الأخيرة!
…
والمحنة الأخيرة لهذا الملك المظلوم كانت جرحًا في قلب كل مسلم طاهر السريرة، لما وسمتْ به من التلاعب بالدين الإسلامي، والعبث به، وجعله سلمًا لأغراض سياسية استعمارية، ولما وُصمت به من الإهانة لملك مسلم صالح ذي سلطة دينية لم يخلّ فيها بشرط، تستند على بيعة شرعية قرّرتها الأوضاع والرسوم، وثبتها الإجماع على الرضا، ومكّن لها الاختبار والامتحان، واستوى في إيجابها نطقُ الناطق وسكوتُ الساكت، ولم ينقض الملك لها عهدًا، ولا نكثَ عقدًا، ولم يأت في حالتي الشدة والرخاء إلا ما يقتضي توكيدها، ويُوجب تجديدها، فالاعتداء على الأوضاع الإسلامية اعتداءٌ على الإسلام في نظر المسلمين، والإهانة لملك مسلم صالح إهانة للإسلام.
أما ما خُتمت به الرواية فإكراه من السلطة الاستعمارية لا يقرّه شرع سماوي، ولا قانون إنساني، وارتكاب من الملك لأخف الضررين، تعلو فيه حجةُ العاذر على شبهة العاذل، وهو - في حقيقته- بناء على السيف، وما للبناء على السيوف دوام، وإمعان في الحيف، والممعن في الحيف، ممعن في ظلام؛ وإنما يدوم على تقلبات الزمن بناءٌ أساسه العقل، وحائطه العدل
…