المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إلى أبنائي الطلبة - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٣

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة من "عيون البصائر

- ‌ الرمز القرآني:

- ‌ الإبداع البياني:

- ‌ العمق العرفاني:

- ‌ الفكر العقلاني:

- ‌ السياق التّارِيخاني:

- ‌السياق التاريخي (1947 - 1952)

- ‌مقدمة الطبعة الثانية من "عيون البصائر

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌ 3

- ‌ 4

- ‌ 5

- ‌ 6

- ‌ 7

- ‌ 8

- ‌ 9

- ‌ 10

- ‌مشاعل حكمة

- ‌إستهلال *

- ‌من الحقائق العريانة *

- ‌ التعليم العربيّ

- ‌ والصحافة العربية

- ‌والنوادي

- ‌ والمساجد وأوقافها

- ‌جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها *

- ‌ 1

- ‌عملها في توجيه الأمة:

- ‌عملها للعروبة:

- ‌موقفها من السياسة والساسة *

- ‌ 2

- ‌جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها *

- ‌ 3

- ‌فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الفرنسية فى الجزائز

- ‌قضية فصل الدين

- ‌الأديان الثلاثة في الجزائر *

- ‌طلائع ومقدمات

- ‌التقرير الحكومي العاصمي *

- ‌كتاب مفتوح إلى رئيس الجمهورية الفرنسية *

- ‌هل دولة فرنسا لائكية *

- ‌فصل الدين عن الحكومة…*- 1

- ‌فصل الدين عن الحكومة- 2

- ‌فصل الدين عن الحكومة- 3

- ‌فصل الدين عن الحكومة- 4

- ‌فصل الدين عن الحكومة (5)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (6)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (7)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (8)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (9)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (10)

- ‌التعليم القضائي:

- ‌الوظائف القضائية:

- ‌السلطة العليا:

- ‌محاكم الاستئناف:

- ‌الدين المظلوم *

- ‌فصل الدين عن الحكومة (11)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (12)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (13)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (14)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (15)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (16)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (17)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (18)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (19)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (20)

- ‌القضية ذات الذنب…الطويل *

- ‌القضية ذات الذنب…الطويل *- 2

- ‌كتاب مفتوح

- ‌كلمتنا عن الأئمة *

- ‌وشهد شاهد *

- ‌حرية التعليم العربيوحرية الصحافة العربية

- ‌إلى أبنائي الطلبة

- ‌اللغة العربية في الجزائر

- ‌حقائق *

- ‌بوركت يا دار *

- ‌المعهد الباديسي *

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 1

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 2

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 3

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 4

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 5

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 6

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 7

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 8

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 9

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 10

- ‌معهد عبد الحميد بن باديس *

- ‌مدارس جمعية العلماء *

- ‌إلى أبنائنا المعلمين الأحرار *

- ‌كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار *- 1

- ‌كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار- 2

- ‌حقوق الجيل الناشئ علينا *

- ‌حقوق المعلّمين الأحرار على الأمّة *

- ‌اختلاف ذهنين في معنى التعليم العربي *

- ‌دروس الوعظ في رمضان *

- ‌الكلمة الأخيرة للأمّة *

- ‌المشاكلالإجتماعية

- ‌من مشاكلنا الاجتماعية (1)

- ‌من مشاكلنا الاجتماعية (2)

- ‌دعوة صارخة إلى إتحاد الأحزاب والهيئات *

- ‌دعوة مكررة إلى الإتحاد *

- ‌عواقب سكوت علماء الدين عن الضلال في الدين *

- ‌ثلاث كلمات صريحة *

- ‌ إلى الأمة:

- ‌ إلى تلامذة الزيتونة والقرويين

- ‌ إلى أولياء أولئك التلامذة

- ‌من مشاكلنا الإجتماعية (3)

- ‌من مشاكلنا الإجتماعية (4)

- ‌جمعية العلماء والسياسةالفرنسية بالجزائر

- ‌ذكرى 8 ماي *- 1

- ‌ذكرى 8 ماي *- 2

- ‌الأسابيع في عرف الناس *

- ‌أفي كلّ قرية حاكم بأمره

- ‌عادت لعترها لميس *

- ‌الشك في الإيجاب…نصف السلب *

- ‌لجنة "فرانس - إسلام" *- 1

- ‌لجنة "فرانس - إسلام" *- 2

- ‌ويح المستضعفين *

- ‌حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *- 1

- ‌حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *- 2

- ‌حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *- 3

- ‌ويحهم…أهي حيلة حربية

- ‌أين موقع "بسكرة" من أفريقيا الشمالية

- ‌كلمتنا عن إدارة البريد *

- ‌جمعية العلماءوالمغرب العربي

- ‌أفي كل حي، عبد الحي

- ‌عيد العرش المحمدي العلوي *

- ‌موجة جديدة *

- ‌ليبيا، موقعها منا *

- ‌ليبيا، ماذا يراد بها

- ‌إضراب التلامذة الزيتونيين *

- ‌إبليس ينهى عن المنكر

- ‌إبليس يأمر بالمعروف

- ‌أرحام تتعاطف *

- ‌سكتُّ…وقلت

- ‌عروبة الشمال الافريقي *

- ‌جمعية العلماءوفلسطين

- ‌فلسطين (1)

- ‌فلسطين (2)

- ‌فلسطين (3)

- ‌فلسطين (4)

- ‌فلسطين (5)

- ‌فلسطين (6)

- ‌فلسطين (7)

- ‌فلسطين (8)

- ‌فلسطين (9)

- ‌جمعية العلماء والشرقوالإسلام

- ‌عيد الأضحى *

- ‌هجرة النبوّة من مكة إلى يثرب *

- ‌شهر رمضان

- ‌معنى العيد *

- ‌من وحي العيد *

- ‌الإسلام *

- ‌من نفحات الشرق *

- ‌محنة مصر محنتنا *

- ‌يا مصر

- ‌أثر الأزهر في النهضة المصرية *

- ‌ ثلاثة كتب:

- ‌كلمات مظلومة *

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 1

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 2

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 3

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 4

- ‌سجع الكهّان *- 1

- ‌سجع الكهّان *- 2

- ‌سجع الكهّان *- 3

- ‌سجع الكهّان *- 4

- ‌سجع الكهّان *- 5

- ‌سجع الكهّان *- 6

- ‌سجع الكهّان *- 7

- ‌شخصيات

- ‌عبد الحي الكتاني *

- ‌محمد الطاهر بن عاشور وعبد الحميد بن باديس

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌دمعة على المنصف *

- ‌إلى الزاهري *

- ‌الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار *

- ‌بدء معرفتي به:

- ‌محمد خطاب *

- ‌ذكرى مبارك الميلي *

- ‌أثارة من أعمال رابح الفرقاني

- ‌لمحة من أخلاق الشاعر محمد العيد

- ‌السلطان محمد بن يوسف *

- ‌ذكرى عبد الحميد بن باديس *

- ‌الفضيل الورتيلاني *

الفصل: ‌إلى أبنائي الطلبة

‌إلى أبنائي الطلبة

المهاجرين في سبيل العلم *

ــ

أوجه النداء إلى جميع أبنائنا المهاجرين إلى الشرق العربي، أو إلى أطراف المغرب العربي، أو إلى أوربا، ثم أخصّص المهاجرين إلى تونس لأنهم كثرة، ولأن في أحوالهم لغيرهم عبرة.

إنكم يا أبناءَنا مناطُ آمالنا، ومستوح أمانينا، نعدكم لحمل الأمانة وهي ثقيلة، ولاستحقاق الإرث، وهو ذو تبعات وذو تكاليف، وننتظرُ منكم ما ينتظره المدلج في الظلام من تباشير الصبح.

وإنكم يا أبناءَنا فارقتم الأهل، وفيهم الآباء والأمهات، وفارقتم الديارَ التي خلعتم فيها التمائم، وفارقتم الوطن الذي له على كل حرّ كريم دَين! وفاؤه الحب، وكفاؤه النفع والجميل، وما هوّن فراقكم على آبائكم وهوّن فراقهم عليكم إلا الآمالُ اللائحة لكم ولهم في مستقبلكم، ولما تعودون به من علم يصحبه فخر، وحسنُ ذكر، وطيبُ أحدوثة.

إن آباءَكم يتخيّلون من وراء هجرتكم ما يعود به المجاهد المقدام من أجر وغنيمة، وما يرجع به التاجر المخاطر من أرباح وطرائف.

وإنكم لتتخيلون من وراء هجرتكم- وأنتم في ربيع الحياة- ما يفوق أفوافَ الربيع حُسنًا وجمالًا، ويفوق أزهارَه أريجًا وعطرًا.

وإن الوطن- وهو أبو الجميع- يتطلع من وراء هذه الهجرة إلى إحياء وتعمير وإعادة مجد وبناء تاريخ؛ نحن نعلم أن الأب العامي الفقير حين يرضى بفراق ولده، ويزوّده ببعض ما يملك من قوت العيال الصغار طائعًا مختارًا مطمئنًّا، إنما يفعل ذلك اعتقادًا بأن فعله تكفير

* نُشرت في العدد 9 من جريدة «البصائر» ، 3 أكتوبر سنة 1947.

ص: 201

عن جريمة الجهل، ومحو لوصمة الأميّة، وتنصّل من ضَعة الخمول، وأن الأب العالم الذي يرضى بذلك ويهون عليه، إنما يفعله معتقدًا أن ولده سيكون أعلمَ منه، وأوسع اطلاعًا، وأنفذ بصيرة على نسبة من زمنه، وتطورات زمنه؛ ولا يعتقد غير ذلك منهم إلا مغرور بنفسه، الجاهلُ أحسن إدراكًا للزمن منه؛ وأن الوطن حين يرضى بخلوّه من أبنائه أنهم ما أخلوْه إلا ليعمروه، وما قطعوه إلا ليصلوه، وما فارقوه شبانًا عزلًا إلا ليعودوا إليه كهولًا مسلّحين بقوة التفكير، تظاهرها قوة العلم، تظاهرها قوة العمل.

يا أبنائي، إذا عرفتم هذا، وعرفتم واجبَ أنفسكم التي تحمّلت الأتعاب، وتجرّعت مرارة الاغتراب، وذاقت طعم الحاجة والشدة، وواجبَ آبائكم الذين غذَوا وربَّوا، وأجابوا داعيَ العلوم فيكم ولبّوا، وواجب الوطن المجدب الذي جعلكم روّاده إلى القطر، وأرسلكم وانتظر، ورجا من إيابكم الحيا والحياة؛ إذا عرفتم ذلك كله، فماذا أعددتم لهذه الواجبات؟

إنكم لا تضطلعون بهذه الواجبات إلا إذا انقطعتم لطلب العلم، وتبتلتم إليه تبتيلًا، وأنفقتم الدقائق والساعات في تحصيله، وعكفتم على أخذه من أفواه الرجال وبطون الكتب، واستثرتم كنوزَه بالبحث والمطالعة، وكثرة المناظرة والمراجعة، ووصلتم في طلبه سوادَ الليل ببياض النهار.

إن أسلافكم كانوا يعدّون الرحلة في سبيل العلم من شروط الكمال فيه، بل كانوا، في دولة الرواية، يعدّون الرحلة للقاء الرجال من شروط الوجوب؛ فكانوا يقطعون البراري والصحارى والقفار، ويلقون في سبيله المعاطب والأخطار، وكانوا يجوعون في سبيله ويعرون، ويظمأون ويضحون، لا يتشكّون الفاقة والنصَب، ولا يعدّون الراحة إلا التعب، ولكنهم لا يضيّعون أوقاتهم- إذا وصلوا إلى أمصار العلم ولقوا رجاله- في مثل ما تضيّعون فيه أوقاتكم من إسفاف ولغو، بل كانوا يحاسبون أنفسهم على الدقيقة أن تضيع إلا في استفادة وتحصيل.

فتعالوا نقارن سيرتكم بسيرتهم، وتحصيلكم، ثم نتحاسب على النتيجة!

كانوا يقيّدون وأنتم لا تقيّدون، وكانوا ينسخون الأصولَ بأيديهم ويضبطونها بالعرض والمقابلة حرفًا حرفًا وكلمة كلمة؛ وأنتم أراحتكم المطابع، ويسّرت لكم الكتب؛ ورُبّ تيسير جلب التعسير؛ فإن هذا التيسير رمى العقول بالكسل، والأيدي بالشلل، حتى لا تجريَ في إصلاح الأغلاط المتفشية في تلك الكتب.

وكانوا يرجعون بالرواية الواسعة والمحفوظ الغزير، وينقلون الجديد من العلم، والطريف من الآراء والمفيد من الكتب، من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، فانظروا بماذا ترجعون أنتم اليوم؟

ص: 202

وكانوا ينقطعون عن أهليهم وديارهم انقطاعًا متصلًا يدوم سنوات، وأنتم تزورون أهلكم ودياركم في كل موسم، وفي كل عطلة، ويزورونكم، وتخاطبونهم في اليوم الواحد ويخاطبونكم.

الحقيقة أننا لا نسمّي رحلتنا اليوم رحلةً إلا بضرب من التوسع، كما نسمّي السفر بالطائرة سفرًا، ونضعه بجنب السفر على الإبل.

يا أبناءنا، إن الحياة قسمان: حياة علمية، وحياة عملية، وإن الثانية منهما تنبني على الأولى قوّة وضعفًا، وإنتاجًا وعقمًا، وإنكم لا تكونون أقوياء في العمل إلا إذا كنتم أقوياء في العلم، ولا تكونون أقوياء في العلم إلا إذا انقطعتم له، ووقفتم عليه الوقتَ كله، إن العلم لا يعطي القياد إلا لمن مهره السهاد، وصرَف إليه أعنّة الاجتهاد.

لا تعتمدوا على حلق الدروس وحدها، واعتمدوا معها على حلق المذاكرة، إن المذاكرة لقاحُ العلم، فاشغلوا أوقاتكم حين تخرجون من الدرس بالمذاكرة في ذلك الدرس، إنكم إن تفعلوا تنفتح لكم أبواب من العلم، وتلحْ لكم آفاق واسعة من الفهم.

لا تقنعوا بالكتاب المقرّر، واقرأوا غيره من الكتب السهلة المبسوطة في ذلك العلم، تستحكم الملكة ويتسع الإدراك، وسينتهي الإصلاح الذي تقوم به إدارات جامعاتنا إلى اختيار كتب سهلة ممتعة في كل علم، تفرض عليكم قراءتها ومطالعتها، ثم كتب أخرى، في المعارف العامة، كالتاريخ، والأدب، والحكمة، والأخلاق، والتربية، فوطّنوا أنفسكم على ذلك من الآن، وروّضوها على اختيار النافع المفيد من الكتب؛ ومن العار الفاضح أن لا نرى في الكثير من أبنائنا الذين تخرّجوا من الزيتونة، واتّجهوا بفطرتهم إلى الأدب، من استوعب كتاب الأغاني قراءة، ولا في من اتجهوا إلى علوم الدين من استوعب قراءة الصحيحين والسنن؛ ولعمري ما سلاح الأديب إلا الأغاني وأمثاله، ولا سلاح الفقيه إلا تلك الكتب وأشباهها.

لا تقطعوا الفاضل من أوقاتكم في ذرع الأزقة إلا بمقدار ما تستعيدون به النشاط البدني، ولا في الجلوس في المقاهي إلا بقدر ما تدفعون به الملل والركود، ولا في قراءة الجرائد إلا بقدر ما تطلعون به على الحوادث الكبرى، وتصلون به مجاري التاريخ.

خذوا من كل ذلك بمقدار، ووفّروا الوقت كله للدرس النافع والمطالعة المثمرة.

ص: 203

لا تعتمدوا على حفظ المتون وحدها، بل احفظوا كل ما يقوّي مادتكم اللغوية، وُيُنمّي ثروتكم الفكرية، ويُغذّي ملكتكم البيانية؛ والقرآن القرآن! تعاهدوه بالحفظ وأحيوه بالتلاوة، وربّوا ألسنتكم على الاستشهاد به في اللغة والقواعد، وعلى الاستشهاد به في الدين والأخلاق، وعلى الاستظهار به في الجدل، وعلى الاعتماد عليه في الاعتبار بسنن الله في الكون.

اتركوا المناقشات الحزبية والخلافات السياسية لأهلها، المضطلعين بها، المنقطعين لها، ودعوا كل قافلة تسير في طريقها، وكل حامل لأمانة من أمانات الوطن مضطلعًا بحملها، قائمًا بعهده فيها، حتى تنتهي تلك الأمانات بطبيعتها إلى جيلكم، فتأخذوها بقوة واستحقاق، واعلموا أن كل مَن يدعوكم إلى ذلك إنما يدعوكم ليضلّكم عن سبيل العلم فهو مضلّ، وكل مضلّ مضرّ؛ أو ليتكثر بكم فهو غاشّ، وكل غاشّ ممقوت، أو ليلهيكم بما لا تحسنون عما تحسنون، فهو ماكر، وكل ماكر ممكور به؛ إن من يريد أن يتكثر بكم لا يتكثر إلا ليقللكم، ولا يتقوّى بكم حسًّا إلا على حساب إضعافكم معنى، فالحذر الحذر! فإن الوطن يرجو أن يبني بكم جيلًا قويّ الأسْر، شديد العزائم، سديد الآراء، متين العلم، متماسك الأجزاء، يدفع عنه هذه الفوضى السائدة في الآراء، وهذا الفتور البادي على الأعمال، وهذا الخمول المخيّم على الأفكار، وهذا الاضطراب المستحكم في الحياة، وهذا الخلاف المستمر على السفاسف، فإذا جاريتم هذه الأهواء المتباينة، واستجبتم لهذه الأصوات المتنافرة، ضيّعتم على الوطن جيلًا، وزدتم في بلائه ومحنته، وأطلتم مدة المرض بتأخير العلاج.

لا يعذلكم في حب وطنكم إلا ظالم، ولا يصرفكم عن إتقان وسائل النفع له إلا أظلم منه، أنتم اليوم جنود العلم فاستعدّوا لتكونوا غدًا جنود العمل.

إن وطنكم مفتقر إلى جيل قويّ البدن، قويّ الروح، مستكمل الأدوات من فضائل وعزائم، وإن هذا الجيل لمنتظرٌ تكوينه منكم، ومحال أن تخرج الحالة التي أنتم عليها جيلًا بهذه الصفات.

إننا نعلم أنكم تنطوون في أيام الطلب على خيالات وأماني من الراحة ورُفهنية العيش، وعلى آمال فسيحة في المستقبل، يوم تنتقلون إلى العمل، وتنتقلون إلى أهليكم تحملون الشهادات والألقاب.

وإن هذا هو منشأ القلق والاضطراب في نفوس الكثيرين من إخوانكم الذين يزاولون التعليم الآن.

فادفعوا عنكم هذه الخيالات، ووطنوا النفوس على أنكم تلقوْن من البلاء والمجهدة في الحياة العملية أضعاف ما تلقون منهما في الحياة العلمية.

ص: 204

لا أقول لكم هذا تهويلًا، ولكن أقوله ترويضًا، ومن وطّن نفسه على المكروه هانت عليه الشدائد، ووجد كل شيء ضاحكًا باسمًا جميلًا محبولًا.

ومن تخيّل الراحة وحكم أخيلتها في نفسه، ثم كذبته الآمال كان بين عذابين، أمضّهما كذب المخيلة.

يا أبنائي!

إن الزمن قد وضعكم وضعًا صيّركم جديرين بأن تطلبوا العلم لوجه الله، ولوجه العلم، لا للوظائف ولا للشهادات.

تطلبون الوظائف في تونس، فيحول بينكم وبينها نظام الاحتكار، وتطلبونها في الجزائر فتمنعكم منها سياسة الاستعمار! وربّ ضارّة نافعة!

إذا كانت السياسة الاستعمارية تجعل منكم جزائريين في تونس، ثم تجعل منكم تونسيين في الجزائر، فاطغوا عليها بقوة الإرادة، وبقوة العلم، وبقوة الشباب؛ وكونوا وسطًا عامرًا لا تظهر فيه الجزائرية ولا التونسية، ولا تفترق فيه الأنساب، وإنما تجمعكم فيه العروبة والإسلام، ووطنيتهما العامة؛ وإن هذا الوسط هو الذي يسود في المستقبل القريب، وهو الذي تمحى معه الخطوط الجغرافية، والحدود الوهمية.

لا تستشعروا الغربة فأنتم في وطنكم وبين أهليكم، وفي وطنكم الجامع.

وإن دم الجيل ومزاجه ليتعاطفان بالإلهام، فاجروا على إلهام الخير مع إخوانكم الشبان تَنْمُ المحبة وتقوَ بواعث الخير.

إن في تونس تيارات مختلفة اقتضتها مقتضيات زمانية ومكانية خاصة، فإياكم أن تنغمسوا فيها، أو تكونوا في جانب دون جانب.

وإذا دعاكم منها داع فاعتصموا بالعلم الذي هاجرتم لأجله، وبالمعهد الجليل الذي تذوب بين جدرانه جميع الاعتبارات.

ص: 205