الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب مفتوح إلى رئيس الجمهورية الفرنسية *
أيها الرئيس:
نحييكم- على كثرة الحوائل بيننا- كما يحيي العربي الكريم ضيفه. ويسوءنا ويسوء الحقيقة أن تزوروا الجزائر فتروا كل شيء إلّا الجزائر.
يسوء الحقيقة أن تزوروا الجزائر زيارة تعدّ من أعمالكم وتسجل في تاريخكم، وتشغل نقلة الأخبار ومستمعيها أيامًا، ويسيل فيها نهران من مال ومداد، وأنتم لم تروا الجزائر الحقيقية بما فيها من مآس وبلايا وجهل وفقر وظلم، وشعب كامل يتألم، وطائفة قليلة تتحكم، وإنما رأيتم زُمرًا لم يحدها إليكم أمل واسع ولم يحفزها إلى لقائكم ضمير حر، ولم يعرضها أمامكم سائق من عقيدة، ولا داع من اختيار، وإنما جمعت بوسائل كالتجنيد الإجباري، وسيقت بأسباب من الترغيب والترهيب ليس فيها إيمان ولا وجدان.
يسوء الحقيقة والواقع أن تزوروا الجزائر هذه الزيارة التقليدية التي تقابل بالمظاهر المصطنعة، والخطب المصنوعة، وأن تحاطوا بالمواكب الرسمية التي تحجب عنكم الحقائق كما يحجب الضباب نور الشمس، وأن تصافح سمعكم أصوات ليس فيها صوت حر، فلو كنتم أجانب عن الجزائر وعما يجري فيها لخشينا أن تصدروا عن الجزائر وفي ذهنكم منها صورة غير صورتها.
كل الذي ترونه وتسمعونه في زيارتكم هذه مجموعًا ومتفرقًا ليس هو الجزائر ولا صوت الجزائر، وإنما هو شيء مألوف في الجزائر لا يثير اهتمامًا من عاقل، ولا حركة من مجنون!
أما حقيقة الجزائر فاستجلوها- إن كنتم تريدون الحقيقة- مما وراء المظاهر تجدوها في جملة: وطن تسعة أعشار من فيه رقيق زراعي وخدم صناعي مفروض عليه الحرمان من
* نشرت في العدد 81 من جريدة «البصائر» ، 30 ماي سنة 1949.
كل حق، وعشره العاشر سادة مفروض لهم التمتع بكل حق، وبين الفريقين فريق انفصل عن الأول ولم يصل إلى الثاني، وهو الذي ترونه.
…
تغير الكون وما فيه، ولم تتغير الحكومة الجزائرية في نظرتها إلى الدين الإسلامي والمسلمين، فالدين الإسلامي مملوك للحكومة الجزائرية، تحتكر التصرّف في مساجده ورجاله وأوقافه وقضائه، وقضية فصل الدين عن الحكومة معلقة بين السماء والأرض، لا يهبط بها إنصاف، ولا يصعد بها عدل، وواقفة بين حكومة فرنسا وحكومة الجزائر موقف التنافس، تلك تحكم بالفصل قولًا وهذه تحكم بالوصل عملًا، وهي تماطل في الفصل لأنها لا تريده، وهي تهيئ الوسائل لتعطيل تنفيذه، أو لجعله صورة بلا حقيقة، وجسدًا بلا روح، وهي تملك من وسائل التعطيل مجلسًا يقدم البحث في مرتباته وألقابه على البحث في مصالح الأمة التي لم يكن لها في تكوينه رأي، ولا في انتخابه حرية.
والتعليم الديني في هذا الوطن المسلم معطل بتعطيل المساجد، ومئات الآلاف من شباب المسلمين تتشوق إلى تعلم دينها، ولكن مساجدهم الموقوفة لذلك مغلقة في وجوههم، والدين الإسلامي وتعلمه وتعليمه حق طبيعي وضروري لتسعة ملايين من المسلمين، ولكنهم محرومون منه، والتعليم العربي في هذا الوطن العربي جريمة يعاقب مرتكبها بما يعاقب به المجرم من تغريم، وتغريب وسجن؛ ومدارسه تعاني من التضييق والتعطيل ألوانًا متجددة، ورجاله عرضة في كل حين للمحاكمات في المحاكم الجمهورية التي تتسم بوسمكم، والمحاكمات على التعليم جارية على قدم وساق في هذه الأيام، التي تسبق زيارتكم، كأنها إعداد لها، وابتهاج بها؛ ولو كانت قضايا المحاكم، وسجلات البوليس، وأعمال الحكام، مما يعرض عليكم، أو كان عمار السجون ممن يمثلون بين يديكم- لرأيتم من الأولى عشرات القضايا المتعلقة بالتعليم العربي في ضمن الجرائم والمخالفات، ولرأيتم من بين الآخرين كثيرًا من المعلّمين في عداد المجرمين! وإن قانونًا يمنع التعليم كيفما كان لونه، ويعاقب المعلم كيفما كان جنسه لهو قانون عدو للعلم!! فكيف تسيغه فرنسا (العالمة) وكيف تشرعه فرنسا (المعلمة)؟
…
أيها الرئيس:
إن الشعب الجزائري قد أصبح- من طول ما جرب ومارس- في حالة يأس من العدالة، وتسفيه للوعود والعهود، وكفر بهذه الديمقراطية التي يسمع بها ولا يراها، وإنه أصبح لا يؤمن إلّا بأركان حياته الأربعة، ذاتيته الجزائرية، وجنسيته ولغته العربيتين، ودينه
الإسلامي، لا يستنزل عنها برقى الخطب والمواعيد، ولا يبغي عنها حولًا، ولا بها بديلًا.
وإن الشعب الجزائري لا ينتفع بنتائج شيء لا رأي له في مقدماته، وإن الدستور الجزائري على نقصه واختلاله لم يكن للأمة فيه رأي، فكيف يجني منه ثمرة؟ أو ينتفع منه بنتيجة؟ وإن المجلس الذي انبثق منه ناقص بنقصه، مختل باختلاله، وقد جالت الأيدي في تكوينه، فجاء كالمولود سقطًا، ليس فيه شيء من خصائص الحياة، فكيف ترجى منه الحياة؟
وإن الشعب الجزائري مريض متطلع للشفاء وجاهل متوثب إلى العلم، وبائس متشوق للنعيم، ومنهوك من الظلم، مستشرف إلى العدالة، ومستعبد ينشد الحرية ومهضوم الحق يطلب حقه في الحياة، وديمقراطي الفطرة والدين، يحن إلى الديمقراطية الطبيعية، لا الصناعية؛ ولكنه ليس كما يقال عنه: جائع يطلب الخبز، فإن وجده سكت.
أيها الرئيس:
إن حكومات الجزائر تعاقبت في ألوان من المذاهب، ولكن الشعب الجزائري لم ينل على يدها خيرًا، ولم يصل إلى قليل ولا كثير من حقه المهضوم، لا في دينه ولا في دنياه، وإنما هي مظاهر تتبدل بلا فائدة، وسطحيات تغير بلا جدوى، وأسماء بلا معان، والحقيقة هي هي!!
…
وان هذه الحكومات المتعاقبة تجري- من يوم كانت- على أسلوب من شر أساليب الاستعمار وأقبحها، فهي تتخذ الدين الإسلامي آلة لخدمة السياسة، ولذلك تتمسك هذا التمسك بمساجده وأسبابه، وهي تجعل السياسة آلة لهدم الدين الإسلامي، وهي تحارب اللغة العربية والتعليم العربي لتجعل من ذلك وسيلة إلى محو الجنسية العربية، وهي تسد أبواب العلم في وجوه المتعلمين بوسائل شتى ليبقى الشعب أميًّا جاهلًا، فينسى نفسه وتاريخه، ويقنع بأخس الحظوظ في الحياة، وإن بقاء نحو من مليونين من أبناء الشعب محرومين من التعليم بجميع أنواعه لأصدق دليل على ذلك.
إن حكومة توسع السجون، وتضيق المدارس، حكومة سيئة الظن بنفسها قبل أن تكون سيئة الظن بالشعب.
أيها الرئيس:
ظهرت في عهد هذه الجمهورية الرابعة نغمة جديدة أنكرناها وكفرنا بها لأنها لا تنسجم مع ماضينا، ولا تتناسق مع حالنا ولا مستقبلنا، وانتقدها الرأي العام العالمي العاقل اليقظ المنطقي لأنها ناشزة عن قرارها، مخالفة للواقع المحسوس؛ هذه النغمة هي نغمة "الوحدة الفرنسية". ولا يشك عاقل في أن كلمة الوحدة هذه مقطوعة الصلة من معناها، وكأن
واضعها هازئ بنفسه، أو بالناس، أو بهما معًا، وكأنها سخرية ساخر، لم تسبقها روية، ولم يحكمها منطق، ولم يَحكها تدبر.
لا يسيغ منطق ولا عقل كيف تكون الوحدة بين سيد وبين مسود، وكيف تتصور بين حاكم مزهو بعصبية جنسية تظاهرها عصبية دينية، وبين محكوم؟ وكيف تتفق في وطن ساكنوه صنفان، وقوانينه صنفان؟ وكيف تتم في بلد كنيسته حرة، وبيعته حرة، ومسجده مستعبد؟ وكيف تتجاور في عقيدة أو لسان مع كلمة السيادة الفرنسية التي تلوكها الألسنة، وتنضح بها الأقلام خصوصًا في هذه الأيام؟!
…
إنكم أقمتم في الجزائر في عهدها الأخير عامين، وأحطتم رؤية وعلمًا بما يجري فيها، وإنها باقية حيث تركتموها، ما تقدمت إلّا في التأخر، وما ترقت إلّا في الانحطاط، فنعيذكم بشرف الحرية، وحرمة الضمير الإنساني، وكرامة العلم- أن تغتروا بما تسمعونه من خطب، وبما ترونه من مظاهر، فكل ذلك مهيأ لتغطية الحقيقة والتضليل عنها، فالتمسوها في جدب العقول لا في خصب الأرض، وفي فوضى الحياة لا في نظام المواكب، وفي بؤس البادية لا في نعيم المدينة- تجدوها ماثلة للعيان، ناطقة بالبرهان، صادقة في البيان.