الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعهد الباديسي *
فتح المعهد الباديسي في الشهر الماضي أبوابه، واستقبل بالبِشر والترحيب مدرّسيه وطلّابه، ومدّته شعاب القطر بسيل من التلاميذ ملأ رحابه. تعرف في وجوههم الرغبة في العلم والأمل في تحصيله، وتستبين من صغر الأسنان، وطراوة الأفنان، وتباعد الديار، أن وراءهم نفوسًا من الآباء والأمهات نذرتهم للعلم وقرّبتهم له، وتحملت ألم البعد والغربة، في سبيل هذه القربة.
كأن تلامذة السنة الماضية أذّنوا في جهات القطر أذانًا عاليًا، ونادَوا في جنباته نداء متواليًا: حيّ على المعهد، حيّ على خير العمل، فتلاحق المدد، وتضاعف العدد، وكأن فترة الصيف كانت كلها تهيئةً وإعدادًا لم تقرأ إدارة المعهد حسابه، حتى فاض عليها السيل؛ والمتتبع لهذه النهضة العلمية التي هبّت ريحها عاتيةً في القطر الجزائري، يحسن به أن يؤرّخ لأطوارها بهذه الفواصل الزمنية التي يسبقها الفتور، وتصحبها الحرارة، ويعقبها النشاط؛ فالمدارس تتزايد في كل سنة، وتلامذة المعهد يتزايدون في كل سنة. فالنهضة العلمية إلى امتداد، وعمل العاملين لها إلى نجاح إن شاء الله.
بدأ المعهد في سنته الأولى على خلاف ما تبدأ به مشاريعنا، قويًّا جيّاشًا بالحركة والنشاط، ولكنه نشاط من جهة واحدة، من المدير والمدرّسين، ولم يبدُ النشاط من الجهة
الثانية، جهة التلامذة، إلا في النصف الأخير من السنة الدراسية حين فهموا ما قرأوا، وبدأوا يهضمون ما فهموا، على تفاوت أسنانهم، وحين سيقوا بالحزم والكياسة إلى الانسجام في المظاهر، والاستقامة في الأخلاق، حتى تمّت السنة، وجاء الامتحان بأحسن النتائج التي شهدها كل محتك بالمعهد، متصل بأسبابه. ووفتْ هيئة الإدارة والتدريس بما نذرتْ، ففازت بالريع الزكيّ مما بذَرتْ.
* نُشرت في العدد 59 من جريدة «البصائر» ، 6 ديسمبر عام 1948.
أما في هذه السنة فقد غمر النشاط المدرّسين والتلامذة، وبدأت الحركة مملوءة بالحياة والنشاط، وسرَت العدوى من القدماء إلى الجدد. وأصبح النشاط والنظام سمةً ثابتة للمعهد، يؤخذ بها كل من اتصل به، وكان الإقبالُ عظيمًا مع تضييق الإدارة في شروط الالتحاق، فتلقّت لجنة القبول ثمانمائة طلب في شهر سبتمبر وحده. وامتازت هذه السنة الثانية بالميزات الآتية:
1 -
زيادة عدد المقبولين بضعف ما كانوا في السنة الماضية، إذ بلغ عددهم ستمائة تلميذ.
2 -
إنشاء السنة الرابعة التي يحصل التلميذ في نهايتها على الشهادة الأهلية.
3 -
زيادة ثلاثة مدرّسين أكفياء، وهم المشايخ عبد القادر الياجوري، وعبد اللطيف القنطري، وعبد الرحمن شيبان. والثلاثة محرزون لشهادة التحصيل من الكلية الزيتونية. وما زال المعهد في حاجة إلى ثلاثة آخرين.
4 -
تحسين برنامج الرياضيات وعلوم الحياة بإسناد تعليمها إلى مدرّسين أكفياء مثقفين بالثقافتين.
5 -
تحسينات واسعة ذات أثر في النظامين الداخلي والدراسي.
6 -
تشديد المراقبة على التلاميذ في الناحية الأخلاقية، ولا نبالغ إذا قلنا: إن التربية الفاضلة هي الغرّة اللائحة في جبين المعهد الباديسي، وهي الميزة التي يمتاز بها على
جميع معاهدنا من أعلاها إلى أدناها، ولو تكاملت وسائلها- ومنها توحيد السكنى- لأخرج المعهدُ في بضع سنين للأمّة الجزائرية جيلًا مسلّحًا بالفضائل، زعيمًا بإحياء
الدين والدنيا، ولقدَّم لجامع الزيتونة نموذجًا من خرّيجي السنة الرابعة يجمع بين حياة الفكر ومتانة الخلق.
7 -
اشتراء ثلاث بنايات حبسًا على المعهد، اثنتين منها لسكنى المشايخ المتأهّلين، وواحدة لسكنى الطلبة، وهي تسع مائة وستين طالبًا. وقد بلغت قيمة جميعهن شراءً وإصلاحًا أحد عشر مليونًا من الفرنكات.
…
هذه الميزات هي الخطوات الواسعة التي تقدّم بها المعهد إلى الأمام في هذه السنة، وهي خطوات جريئة حازمة، لا يقوم بها إلا جريء حازم مثل جمعية العلماء، ولولا ثقة الأمّة بجمعية العلماء، وثقة جمعية العلماء بنفسها وبأمانتها، ما أقدمت على هذه العظائم، في مثل هذه الظروف العصيبة. وما أقدمها على هذه المخاطر إلا أمر خطير، وهو إسكان الطلبة، فقد
لقيت إدارة المعهد ولجانه العناءَ المضني في حل مشكلة الإسكان، وبذلت الغالي من الجهد والوقت والمال، فلم تجد من الأماكن ما يكفي، ولم تجد في الموجود ما يشرّف المعهد والعلم، وما زالت مشكلة المساكن قائمة تتطلب حلّها. ومحالٌ أن تحلّ إلا ببناء حيّ كامل للطلبة، يحمل اسمهم، ويتّسم بسيماهم؛ وما ذلك على الأمّة الجزائرية بعسير، وما هو في جنب المعهد الجليل بكثير، وإن لجمعية العلماء لأملًا يلوح من خلال المستقبل، تعتمد على الله وعلى الأمّة في تحقيقه، وإن في نفسها لصورةً كاملة للمعهد، سيبرزها للوجود اطّراد النهضة، وعزيمة الجمعية، وهمّة الأمّة، وثقتها المتينة بالجمعية.
…
ومن شأن النهضات إذا استحكمت أسبابها في الأمم، وقويت دواعيها من إلحاح الزمان، وحفز الضرورة، أن تظهر متساوقةً في الأسباب والمسبّبات. غير أن الناظر إلى نهضتنا نظرة استبصار، يرى فيها نشوزًا في بعض جوانبها؛ فإن هذا الإقبال الذي نشاهده من أمّتنا على العلم لا يقابله إقبال آخر على البذل يكافئه ويقوم به؛ وهذه هي علة العلل في ما تعانيه مشاريعنا العلمية من ضيق ورهق، والحقيقة الواقعية هي أن مشاريعنا قائمة في الجانب المالي على الفقراء ومتوسطي الحال. أما الأغنياء- إلا من رحم ربّك- فلم يقوموا بما يجب للنهضة من بذل إلا بمثل ما يقوم به الفقراء أو بقريب من منزلتهم.
وإلى هؤلاء المتقاعسين عن البذل، المتصامّين عن العذل، نرسلها صيحة إنذار، ليس معها إعذار، ونقول لهم: إن كل ما يصيب هذه الحركة المباركة من شلل، أو يعتريها من خلل، فأنتم المسؤولون عنه عند الله وعند الناس، فلتنفقوا مما جعلكم الله مستخلفين فيه، ولتعلموا أن كل ما تنفقونه في هذا السبيل يعلي ذكركَم، ويزكّي أموالكم، ويعود عليكم وعلى أمّتكم بالنفع، وإن قبض الأيدي عن الإعانة مسبّة، وسوء مغبّة، وأن مقادير الأموال هي أقدار الرجال، و"أن الأكثرين هم الأقلّون يوم القيامة إلا من قال هاء وهاء" كما جاء في الحديث الصحيح.
أما الفقراء والمتوسطون فقد أبلوا، وأما قادة الحركة فقد شادوا وأعلوا، وأما أمثالكم فقد جاءوا بالوشل، وأما المثبطون فقد باءوا بالفشل، وأما القافلة فهي تسير، فيها المعيي وليس فيها الكسير.
…
أما قيمة المعهد المعنوية عند الأمّة فهي القيمة الغالية، وأما منزلته فهي المنزلة العالية، وأما الثقة به فهي المثل الشرود، والزرد المسرود، إلا فئةً عُرفت بسيماها، إذ أضلّها الله وأعماها، جرت من الخبث على نسق، وسرَتْ من الجهل في غسق. تحارب الله ورسوله
وكتابه، وتعادي العربية والعلم والتعليم، وتهدم دعائم الوطنية باسمها، وتتبع في ذلك كله ما يلقي الشيطان وأولياؤه وعابدوه
…
هذه الفئة هي التي تحارب المعهد، وقبله حاربت المدارس والتعليم وزهدت فيهما، وقبل ذلك حاربت الدين وقلّلت من شأنه
…
وهذه الفئة هي التي تشيع قالة السوء فيه، وقبل ذلك أشاعتها في مؤسسيه وفي من يتشرف باسمه، فما باءت إلا بالخذلان والخسران
…
هذه الفئة التي لم تجد في الجزائر من يستمعُ لوساوسها، وينقاد لدسائسها، فشحنت بضاعتها الكاسدة إلى تونس ونشرت في بعض جرائدها المريضة بداء هذه الفتنة، والتي لا تتحفظ في رواية، ولا تتثبت في خبر، أن المعهد الباديسي يحاسب التلامذة على أفكارهم
…
وكل هذا افتراء وزور وبهتان عظيم، وإن المعهد ليربّي أبناءه على حرية الفكر في حدودها، وعلى حرية القول ما لم تصل إلى الدركة التي عليها هذه الفئة العابدة للشيطان. وتربّيهم على الوطنية الحقيقية التي تستند على الدين والعلم والفضيلة، لا على الوطنية الزائفة، وطنية التزوير والتضليل، والتزمير والتطبيل. وقبل وبعد، فللمعهد نظامه الصارم في تربية أبنائه على الدين وفضائله، وليخسأ كل أفاك أثيم.
ومن خسّة هذه الفئة ونذالتها أنها أرصدت رجالًا منها متجرّدين من العقل والدين، وأجرتْ لهم أجرًا معلومًا ليجوبوا أزقة قسنطينة ويختلفوا إلى مقاهيها ويختلطوا بطلبة المعهد، ليفتنوهم عن العلم، ويصدّوهم عن سبيله، ويزيّنوا لهم الجهل والبطالة
…
إن الاستعمار- وهو العدو اللدود للعربية والدين وتعليمهما- لم يبلغ في حربها ما بلغته هذه الفئة العابدة للشيطان. ومن يدري؛ فلعلّ هذه الفئة بعضُ أسلحته. وما لنا نرتاب؟ فهم أمضى أسلحته
…
...
ويمينًا بالذي طهر المعهد، وأنزل في كتابه {أَلَمْ أَعْهَدْ} ، لنقطعنّ من هذه الفتنة دابرَها، ولنقعن من هذه الفئة مقيمها وعابرَها
…