الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليبيا، موقعها منا *
ليبيا - بأجزائها الطبيعية- قطعة ثمينة من وطن العروبة الأكبر، ومعقل حصين من معاقل الإسلام الباذخة، مكتنفة الشمال والجنوب بجمالين من مياه البحر الأبيض، ورمال الصحراء المغبرة؛ مسورة الشرق والغرب بجمالين من عظمة مصر ومجد تونس: فهي رقعة من صنع الله مطرزة الحواشي بما يسحر الألباب، ويفتن النفوس، ويستهوي الأفئدة، ويذكر بالعزة، ويفتق القرائح عن روائع الوصف، وبدائع التمثيل، وهي- لذلك كله- نازلة من نفس كل عربي في مستقر الغيرة والحفاظ، ومن نفس كل مسلم في منزلة الحب والكرامة، وننفرد نحن سكان الشمال الأفريقي بمعنى من معاني التقدير لهذه القطعة العزيزة من وطن العروبة والإسلام، وهو أنها كانت مجرَّ عوالي الفاتحين من أسلافنا، ومجرى سوابقهم إلى هذا الشمال، يحملون إليه التوحيد والحكمة والسلام، فعلى ثراها مرّ عقبة والمهاجر وحسان، ومن بعدهم موسى وطارق، وإدريس وعبد الرحمن، وفي جنباتها تصاهلت جياد الكماة الصّيد من مضر ويمن، وأنها كانت كذلك مجازًا للأبطال، من بني هلال، الذين غرسوا العروبة بهذا الشمال، وأنها كانت أخت الجزيرة، تلك أنبطت وهذه أحْرَتْ، وتلك أنبتت وهذه أرْوَتْ، وتلك قدحت وهذه أورت، وأنها صارت- بعد ذلك- بابنا إلى الشرق، يوم كان أبرّ ببنيه، وأحنى عليهم من البحر، لا نلج حظائره القدسية إلا منه، حجاجًا وتجارًا ومستبضعي علم.
إن كل قارئ مطلع في هذا الوطن الجزائري ليعرف عن ليبيا وقراها، وجبالها، وأوديتها، ودُروبها مثل أو أكثر مما يعرف عن وطنه، لكثرة ما يقرأ عنها في كتب الرحالين المغاربة من أمثال الفهري والعبدري وابن بطوطة، والتيجاني، والعيّاشي، والورتلاني؛ وإن كل عامي راوية للشعر الملحون ليحفظ أسماء قراها، ووديانها، وجبالها، أكثر مما يحفظ
* نشرت في العدد 112 من جريدة «البصائر» ، 20 مارس سنة 1950.
من أمثالها من بلاده، لكثرة ما يسمعها في قصائد شعراء الملحون الوصافين لركاب الحج، المعدّدين لمنازله، احتذاءً للبوصيري في (عدة المنازل)(1)، من أمثال محمد الشلالي، وابن السنوسي، وابن خلوف، وابن يوسف، وغيرهم من الشعراء الشعبيين في المائة الثانية عشرة إلى الآن؛ وهؤلاء هم الذين انتهت إلينا أخبارُهم وأشعارُهم، عن طريق الحفظ والرواية، وقد كانوا يُرَحلون ركب الحج من مراكش إلى مكة، ويصفون الجادّة التي يسلكها وصفًا شعريًّا مشوّقًا، أحسن مما يصفه الجغرافي المتقصّي، وأدخل في النفس منه، حتى يخيل إلى السامع أن هذه الموصوفات منه بمرأى العين؛ وأذكر أنني في سن الصبا كنتُ سمعتُ أسماء زوارة وطرابلس، والجبل، ومسراته، والخمس، وزليطن، وبنغازي، ودرنة، وأجدابية، متناثرةً في هذا الشعر، موصوفةً، محددة المسافات التي تفصل بينها، قبل أن أقرأها في كتب الرحلات والجغرافيا، وقبل أن أسمعها من أفواه السفار، أو من أفواه أهلها.
…
ولإخواننا الليبيين- أو الطرابلسيين كما نسميهم- علينا حق الدين، وحق اللغة، وحق الجنس، وحق الجوار، وحق الاشتراك في الآلام والمحن، وفي الآمال المقترحة على الزمن، وهذه كلها أرحام، يجب أن تبل ببلالها، وحقوق في ذمة المروءة والوفاء يجب أن تؤدّى، وإنّ من حسن القضاء عند الكرام الأوفياء أن يكون في وقت الحاجة إليه، وإن هؤلاء الإخوان اليوم في طور امتحان عسير معقد، تتخلله الأهواء والمطامع، ويحيط به الكيد والتعنيت من كل جانب، وإن نجاحهم فيه يتوقف على جمع الكلمة، وتسوية الصف، وتوحيد الرأي، ومتانة الإيمان بالحق، والحذر الشديد من الأشراك المنصوبة والعُصَب الدخيلة، والنظر البعيد في العواقب المخبوءة والمكايد الخفية، والاحتفاظ بكلمة الفصل، يقولها الواحد فترددها الملايين، وإنهم في حالة انتقال من حال إلى حال، من حال كانوا يواجهون فيه عدوًّا واحدًا، مكشوف النيات والسرائر، حيواني الشهوات والمنازع- إلى حال يواجهون فيه ثلاثة أعداء، متشاكسي المصالح، متبايني المطامع، متظاهرين بالتقوى والعدل، والنصيحة الرشيدة للمستضعفين؛ ولكنهم متفقون على الاستغلال لا على الاستقلال؛ ومن ورائهم ذلك الثعلب القديم- وقد قصمت الحرب ظهره- جائعًا يتضوّر، وقابعًا يتحفز، وحانقًا يتلظى، وراجيًا يتعلق، وطامعًا يتملق؛ ينتصر بالمتات، وينتظر الفتات.
قاوم هؤلاء الإخوان الكرام الاستعمارَ الإيطالي، ووقفوا في وجهه وقفة المستميت، لم يثنهم التقتيل والتشريد، حتى إذا استيأسوا، وظنوا أن هذا الجبار العنيد ختم عليهم بالعبودية
1) يقول البوصيري في قصيدته الهمزية في آخر تعديده للمنازل من مصر إلى مكة إلى المدينة:
هَذِهِ عِدَّةُ الْمَنَازِلِ لَامَا
…
عُدَّ فِيهِ السِّمَاكُ وَالْعُوَّاءُ
المؤبّدة، جاءت الحرب الأخيرة، وعاد الرجاء، ونبض عرق البطولة، وهبّ المغاوير من سلائل العرب، يثأرون لعمر المختار، والشهداء الأبرار، حتى اشتفوا: وأوبقت إيطاليا جرائرها، فأبادها الله، وما كان إخواننا يدْرون أنهم يعينون استعمارًا على استعمار، وأنهم سينتقلون من شِدْق الأفعى إلى ناب الأفعوان؛ ولكنهم لم يهنوا ولم يفشلوا في طلب استقلالهم، فصمّت الآذان عن سماع صوتهم حينًا، ثم تصادمت المطامع، فكان لأصوات الدول الضعيفة في مجلس الأمم مجال في الآذان الصماء، ومنفذ إلى القلوب الغلف، فقضى ذلك المجلس باستقلال ليبيا طائعًا كمكره، ولكنه أرجأ الإنجاز إلى أول سنة 1952.
كنا نعرف أن الاستقلال جنة لا يعبر إليها إلا على جسر من الضحايا، وكنا نعدّ إخواننا الليبيين أول الداخلين إلى هذه الجنة بغير حساب، لأنهم قدّموا من الضحايا ما لم تقدّمه أمة شرقية، ولأنهم جمعوا أسباب الفلاح الأربعة: الصبر والمصابرة والمرابطة والجهاد، ولكن شيطان الاستعمار أبى عليهم ذلك، ووضع في طريقهم برزخًا زمنيًّا، أو جسرًا ثانيًا غير الضحايا والقرابين والأعمال الصالحة، وهو هذا الأجل المحدد بسنة 1952. ويقول الاستعمار: إنه وضعه للإعداد والتشويق، ونقول نحن: إنه وضعه للإبعاد والتعويق، ومرحبًا بالسنتين إذا كنا نقضيهما في الاستعداد والتأهل وإصلاح الفاسد من أخلاقنا ورجالنا وأعمالنا.
واهًا لهذا الوطن المتردّد في لهوات الزمان، الذي جنى عليه موقعه من البحر الأبيض ومن الصحراء، فثبتت عليه أعين الطامعين، وازدحمت عليه أقدام الأقوياء، وحامت عليه حوائم الدرهم والدينار، تغرّ وتُغري، وإنّ لها في نفوس ضعفاء الإيمان وفاقدي الضمائر لموقعًا، ومن وراء الدرهم والدينار سماسرة تتخطف، وصَوالجة تتلقّف، وأبالسةٌ تأمر بالمنكر، وتنهى عن المعروف، وتدفع الألقاب قيمًا للممالك، ومن أبناء الوطن فريق من أعوان التفريق، وأعوان التحريق، وهنا أصل البلاء، وهنا منبت العلة، وهنا- فقط فقط- جرثومة الطاعون، وهنا العدو الحقيقي فاحذروه
…
وحنانًا على إخواننا المجاهدين!
…
كتب عليهم أن يتجرّعوا ثلاث مرارات في جيل واحد: مرارة الإهمال في العهد التركي، ومرارة الاستعباد في العهد الإيطالي، وها هم أولاء يتجرّعون مرارة التنكر من حلفاء دلوهم بغرور، وسجروا بهم التنوّر، ثم أخلفوا الوعد، ونقضوا العهد.
من بعض حقكم علينا- أيها الإخوان- أن نسعدكم، ولو بقول معروف، من نصيحة خالصة، ودعاية نافعة، وتذكير منبه، وليسعد النطق إن لم يسعد الحال.