الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *
- 3
-
ومن أين نلتمس العدل؟
…
أمن فرنسا الاستعمارية؟
…
إن فرنسا اثنتان: تلك التي يتمجد التاريخ بصحائفها البيضاء في العلم والعرفان، ويتغنّى بروائعها في الأدب والفن، ويتحدّث عن وقائعها في تحرير نفسها من الاستعباد الروحي والعقلي والبدني، ويشيد بأعلامها في السياسة والبيان، ونحن لم نرَ فرنسا الموصوفة بهذه الصفات، ولم نعرفها، ولم نحسّ بها، ولا شأن لنا معها، إلا شأن البعيد الدار، المختلف الأوطار عن الأوطار.
وأما فرنسا الثانية التي التقى تاريخها بتاريخنا من سنة 1830 إلى الآن فهي التي عرفناها فاتحة بالسيف، حاكمة بالحيف، وأيأسنا من عدلها أنها حقّقت لنا معنى المثل: المستجير بعمرو
…
وكيف نستدفع البلاء، بما هو أصل البلاء؟ إن فرنسا هذه التي نعرفها دولة أشربت معاني الاستعمار، وما يتبعه من احتقار وظلم واستعباد، وما يستلزمه من عتو وغطرسة وأنانية، ومن العجب أنها مع هذا تنتحل صفات الأخرى وتدّعيها وتفخر بها في العالمين، فهي كالجزّار يذكر الله ويذبح، ونحن لا نعرف لها تلك الصفات، ولا نعترف بشيء لم نره، ولم نستبن في أنفسنا أثره، ولا نعرف إلا صحائفها السوداء في معاملتنا، ووقائعها في ظلمنا وتقتيلنا، ولا نصدق بشيء مما تدعيه لنفسها، أو يدّعيه لها المفتونون بها من العدل والديمقراطية.
لم نرَ من فرنسا الاستعمارية إلا الهضم لديننا، والمحو للغتنا ومقوّماتنا، والزراية بجنسيتنا، والمنّ علينا بما لم نذق طعمه ولم نَرِح رائحته، والاستكبار في الأرض بغير
* نشرت في العدد 121 من جريدة «البصائر» ، 29 ماي سنة 1950.
الحق، والنكران لفضلنا عليها في الأزمات؛ أفلا يعذرنا العقلاء إذا أنكرنا كل فضيلة تتّسم بها، أو يسمها بها المفتونون بمدنيتها، المسبّحون بحمدها:
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلًا
…
حتى يروا عنده آثار إحسان
تريدنا فرنسا الاستعمارية على أن نحمدها بما لم تفعل، فنقول: عسى ولعلّ
…
ثم تريدنا على أن نحمدها بما فعلت معنا من ظلم وعدوان، وأن نصوّر مساوئها فينا محاسن وأن نسمّي شرّها خيرًا، وجورها عدلًا، وإساءتها إحسانًا، وإهانتها تشريفًا، وأن ننكر إحساسنا وعقولنا، وأن نتنكّر للمنطق وللواقع، فلا نقول إلا ما يرضيها وإن جانب الحق، ولا نعمل إلا ما يوافق هواها، وإن أسخط الله، فنقول: لا، ثم لا، لأن ترجمة هذا كلّه أنها تلطمنا فنشكرها على اللطمة، وتعذّبنا فنقدّم لها شواهد الإخلاص.
هذه هي فرنسا التي نعرفها، أو هذا هو الجانب الذي نعرفه من جوانب فرنسا، قلنا فيه ما نعرف، وشهدنا بما نعلم، فإن كان لها جانب غير الذي عرفناه، فسلوا عن العسل مَن ذاق طعمه، أما نحن فقد ذُقنا الحنظل، فوصفنا الحنظل.
ولو أن حاتمًا جمع كل ما قاله في نفسه، وقاله الشعراء فيه، في ديوان، وقرأه على جار له حُرم رفده، فلم ينل من لحوم نحائره حُزة، ولا من أوبارها جزة، أكان يهتزّ لذلك، ويشكره عليه، إن لم يكذبه؟ وكذلك نحن؛ لا نهتز لما تمتدح به فرنسا، أو يمدحها به المادحون، ما دمنا لم نرَ منه في أنفسنا إلا عكسه ونقيضه، وقلْ أنت: أنا غني، فلعلّك لا تجد من يكذبك، ولكنك حين تقول: أنا الجواد المفضل، تجد- لا محالة- من يقول لك: وأين الأثر؟ ولو أن ذكرك بالإحسان والعدل استفاض حتى ملأ مسامع الدنيا، لما أغنى عنك يوم الفخار شيئًا، إذا جاء جارُ بيتك يحمل من ترويعك له دلائل ويستظهر على تجويعك له بشواهد وبيّنات.
إن الاستعمار غشاوة على الأبصار، ورين على البصائر، فهو- كما يرمي فاعله بالعمى عن الحقائق- يَرمي المبتلى به بالعمى عن المحاسن، فلو أن فرنسا خلعت ثوب الاستعمار، ومحت رسومه، لزالت هذه الغشاوة عن بصرها فعرفت لنا حقوقنا، ولزالت عن أبصارنا فعرفنا لها محاسنها؛ وما دام الاستعمار، فالرين على البصائر والغشاوة على الأبصار، وليس في طبائع الأشياء غير هذا.
…
وإلى عقلاء العالم، وساقة القوافل البشرية نسوق الحديث، وإن كنا في شك من أن المادية الخبيثة أبقت في العقلاء معنى التعقّل، حتى يدركوا كيف يسعد الأقوياء بشقوة
الضعفاء، وفي مرية من أن الاستعمار ترك لأولئك الساقة وجهة غير وجهته التي يزاحم عليها سائق سائقًا، ويجاري فيها متخلف سابقًا:
أنتم تحثون الركائب لغاية تزعمونها، وفي القافلة الكبرى أنضاء طلاح، إن لا تعوّق عن تلك الغاية تؤخر البلوغ إليها، فهلّا أذّنتم في أولاها بالأناة والتلبّث، وحدوْتم في أخراها بالعجلة واللحاق، حتى يتلاقى البطاء والسراع على الغاية؟ أما عملكم اليوم فهو مضاعفة لقوادم الطائر حتى يحلّق في الجوّ، وإضعاف لحركات الواقع حتى ينبَتّ في الدو.
هل أتاكم نبأ أمة تعيش في زمنكم، بغير أدوات الحياة في زمنكم؟ وهل أنتم على بصيرة من وضعيتها الناشزة الغريبة الشاذة في نواميس زمنكم؟
هل أتاكم نبأ عشرة ملايين من سلائل البشر الراقية، تحكمها فئة تعادل عشرها، ليس بينهما من الجوامع إلا الآدمية، ولا من الصلات إلا صلة القوي بالضعيف، ولا من العلائق إلا امتصاص الأقل لدم الأكثر، وسمنه بهزاله، واعتزازه بإذلاله.
إن هذه الملايين تُساس بقوانين لا رأي لها فيها، وبمجموعة من النُظم لا يد لها فيها، وبأنواع من الإدارات غابت عن وضعها، وهي موضع تنفيذها وبعُصَب من الرجال ليس فيهم واحد منها
…
إلا واحد يمسك عنقها للذبح، وآخر يضرب بدنها للإرضاء.
كيف ترجو هذه الملايين العدلَ أو تتخيله؟ وليس من أبنائها قاض مستقلّ في محكمة، ولا رئيس مسؤول في إدارة، ولا ضابط كبير في ثكنة، ولا حاكم كبير ولا صغير في مركز، ولا مدير حرّ في مصلحة، بل كل فرد منها خادم مطيع، وكل أجنبي عنها مخدوم مطاع، وكل الوظائف الرئيسية في وطنها محتكرة لغيرها، وكل المنافع الثابتة أو النابتة في أرضها محرّمة عليها.
تشريك المواطنين في الرأي والحكم هو سمة زمنكم، ولكن هذه السمة مطموسة في الجزائر، وحرية المعتقدات والأديان هي شعار زمنكم، ولكن هذا الشعار لا يوجد في الجزائر، وحرية التنقّل هي مفخرة زمنكم، ولكنها معدومة في الجزائر، والمساواة في القانون والعدالة من ثمرات زمنكم، ولكنها محرّمة في الجزائر، والديمقراطية هي دعوى زمنكم، ولكنها باطلة في الجزائر، وحرمات المنازل والأعراض من تبجحات زمنكم، ولكنها مهتوكة في الجزائر، وعصمة الأبدان من الضرب والتعذيب من أكاذيب زمنكم، ولكن الجزائر أصبحت مدرسة عالية لتعليم النمط الرفيع من أنواع الضرب، وأساليب التعذيب وأصبحت تجارِبُه الأولى في أبداننا، ولولا هدير البحار، وصخب الساسة لسمعتم أنين المكلومين، ولامتزج في آذانكم حفيف السياط بالصراخ و "العياط"؛ وليوشكن إن تمادى زمنكم في التفنّن، ولم تبادروا جرثومة الاستعمار بالاستئصال- أن تستمرئوا لذة نيرون باحتراق روما،
وأن يهاجر أبناؤكم إلى الجزائر، للتخصص في فن التعذيب على أساتذته.
نعم، نعم- ولا نُنكر الفضل- إن حرية الرذيلة من آفات زمنكم، وهي موجودة على أكمل وجه وأتمّ حال في الجزائر.
…
ويحكم! إنكم لسائرون بهذه القوافل إلى الدمار، وإن حاديكم إليه هو الاستعمار، فعاملوه بالقطيعة تتواصلوا، واقضوا عليه قبل أن يَقضي عليكم.
ويحكم! إن هذا العارض الذي تسمّونه الاستعمار ليس ذاتيًّا في زمنكم، ولا هو من طبيعته، فإن تركتموه حتى يُلبس العصر الجديد لبوسه كان عونًا عليكم، إن الزمان لا تؤمن غوائله وتقلباته، أم أنتم في أمان من الزمان؟!
…
ويحكم! إن هذا الاستعمار الذي تؤيدونه، وهذه الديمقراطية التي تنوون إقرارها في العالم، أو إقرار العالم عليها، ضدان لا يجتمعان، فلماذا تغشّون أنفسكم، وتغشون العالم، وتكذبون على الحق؟
ويحكم! أحيوا العدل وانشروه، وأميتوا الاستعمار واقبروه، تكن الأمم كلها معكم بقلوبها، وعقولها، وأبدانها، وأموالها، وتأمنوا البوائق التي تخشون انفجارها، فإن لم تفعلوا فأيقنوا أن كل ما تنفقونه من جهد ووقت ومال في تمكين الاستعمار ضائع، ولا الحمد مكسوبًا، ولا المال باقيًا، ثم ما يزال بكم هذا الغول الذي تربّونه وتحتضنونه حتى يرديكم في هاوية.
…
أفكلّما رثّ حبل الاستعمار، وتصدّع جداره، وأشرف على الفناء في حربين ماضيتين، جاءت أميركا حاضنة الديمقراطية، تكفكف دموعه وتنظّم جموعه، وترمّم جداره، وتعمر بالدولار داره؟
إن الأمم الضعيفة قد لُدغت من جحر واحد مرّتين، فاحذروا الثالثة، وقد أصبحت هذه الأمم تلقّب أميركا بلقب لا يشرّفها، وهو أنها (نصيرة الاستعمار).
الاستعمار عمل أوّله ختل، وآخره قتل، وشر لا بقاء عليه، ثم لا بقاء له، ووحش مروّض آخر صرعاه رائضه؛ ومرض آكل يأتي على المكاسب، ويثني بالمواهب، ومخلوق
لئيم، يُدان ولا يفي، وينتقم ولا يشتفي، ويستأصل ولا يكتفي، ويجاهر بالسوأى ولا يختفي؛ وكنود، أوْلى الأيدي عنده بالقطع يد مُدّت بإحسان إليه.
والمساواة عدل تنمو عليه الأخوة، وتنبعث منه القوة.
والاستقلال تكافؤٌ في الآدمية، واحترام للإنسانية، وتبادل للمنفعة والخير، وتحقيق لسنّة الله.
والعدل من الأقوياء هو الميزان الذي يُقرّ كل شيء في نصابه، ولكن أين هو؟ لم يبق إلا الحديث عنه، فحدّثونا عنه، فإننا نسيناه!
…