المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عبد الحي الكتاني * - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٣

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة من "عيون البصائر

- ‌ الرمز القرآني:

- ‌ الإبداع البياني:

- ‌ العمق العرفاني:

- ‌ الفكر العقلاني:

- ‌ السياق التّارِيخاني:

- ‌السياق التاريخي (1947 - 1952)

- ‌مقدمة الطبعة الثانية من "عيون البصائر

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌ 3

- ‌ 4

- ‌ 5

- ‌ 6

- ‌ 7

- ‌ 8

- ‌ 9

- ‌ 10

- ‌مشاعل حكمة

- ‌إستهلال *

- ‌من الحقائق العريانة *

- ‌ التعليم العربيّ

- ‌ والصحافة العربية

- ‌والنوادي

- ‌ والمساجد وأوقافها

- ‌جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها *

- ‌ 1

- ‌عملها في توجيه الأمة:

- ‌عملها للعروبة:

- ‌موقفها من السياسة والساسة *

- ‌ 2

- ‌جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها *

- ‌ 3

- ‌فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الفرنسية فى الجزائز

- ‌قضية فصل الدين

- ‌الأديان الثلاثة في الجزائر *

- ‌طلائع ومقدمات

- ‌التقرير الحكومي العاصمي *

- ‌كتاب مفتوح إلى رئيس الجمهورية الفرنسية *

- ‌هل دولة فرنسا لائكية *

- ‌فصل الدين عن الحكومة…*- 1

- ‌فصل الدين عن الحكومة- 2

- ‌فصل الدين عن الحكومة- 3

- ‌فصل الدين عن الحكومة- 4

- ‌فصل الدين عن الحكومة (5)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (6)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (7)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (8)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (9)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (10)

- ‌التعليم القضائي:

- ‌الوظائف القضائية:

- ‌السلطة العليا:

- ‌محاكم الاستئناف:

- ‌الدين المظلوم *

- ‌فصل الدين عن الحكومة (11)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (12)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (13)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (14)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (15)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (16)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (17)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (18)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (19)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (20)

- ‌القضية ذات الذنب…الطويل *

- ‌القضية ذات الذنب…الطويل *- 2

- ‌كتاب مفتوح

- ‌كلمتنا عن الأئمة *

- ‌وشهد شاهد *

- ‌حرية التعليم العربيوحرية الصحافة العربية

- ‌إلى أبنائي الطلبة

- ‌اللغة العربية في الجزائر

- ‌حقائق *

- ‌بوركت يا دار *

- ‌المعهد الباديسي *

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 1

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 2

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 3

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 4

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 5

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 6

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 7

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 8

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 9

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 10

- ‌معهد عبد الحميد بن باديس *

- ‌مدارس جمعية العلماء *

- ‌إلى أبنائنا المعلمين الأحرار *

- ‌كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار *- 1

- ‌كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار- 2

- ‌حقوق الجيل الناشئ علينا *

- ‌حقوق المعلّمين الأحرار على الأمّة *

- ‌اختلاف ذهنين في معنى التعليم العربي *

- ‌دروس الوعظ في رمضان *

- ‌الكلمة الأخيرة للأمّة *

- ‌المشاكلالإجتماعية

- ‌من مشاكلنا الاجتماعية (1)

- ‌من مشاكلنا الاجتماعية (2)

- ‌دعوة صارخة إلى إتحاد الأحزاب والهيئات *

- ‌دعوة مكررة إلى الإتحاد *

- ‌عواقب سكوت علماء الدين عن الضلال في الدين *

- ‌ثلاث كلمات صريحة *

- ‌ إلى الأمة:

- ‌ إلى تلامذة الزيتونة والقرويين

- ‌ إلى أولياء أولئك التلامذة

- ‌من مشاكلنا الإجتماعية (3)

- ‌من مشاكلنا الإجتماعية (4)

- ‌جمعية العلماء والسياسةالفرنسية بالجزائر

- ‌ذكرى 8 ماي *- 1

- ‌ذكرى 8 ماي *- 2

- ‌الأسابيع في عرف الناس *

- ‌أفي كلّ قرية حاكم بأمره

- ‌عادت لعترها لميس *

- ‌الشك في الإيجاب…نصف السلب *

- ‌لجنة "فرانس - إسلام" *- 1

- ‌لجنة "فرانس - إسلام" *- 2

- ‌ويح المستضعفين *

- ‌حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *- 1

- ‌حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *- 2

- ‌حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *- 3

- ‌ويحهم…أهي حيلة حربية

- ‌أين موقع "بسكرة" من أفريقيا الشمالية

- ‌كلمتنا عن إدارة البريد *

- ‌جمعية العلماءوالمغرب العربي

- ‌أفي كل حي، عبد الحي

- ‌عيد العرش المحمدي العلوي *

- ‌موجة جديدة *

- ‌ليبيا، موقعها منا *

- ‌ليبيا، ماذا يراد بها

- ‌إضراب التلامذة الزيتونيين *

- ‌إبليس ينهى عن المنكر

- ‌إبليس يأمر بالمعروف

- ‌أرحام تتعاطف *

- ‌سكتُّ…وقلت

- ‌عروبة الشمال الافريقي *

- ‌جمعية العلماءوفلسطين

- ‌فلسطين (1)

- ‌فلسطين (2)

- ‌فلسطين (3)

- ‌فلسطين (4)

- ‌فلسطين (5)

- ‌فلسطين (6)

- ‌فلسطين (7)

- ‌فلسطين (8)

- ‌فلسطين (9)

- ‌جمعية العلماء والشرقوالإسلام

- ‌عيد الأضحى *

- ‌هجرة النبوّة من مكة إلى يثرب *

- ‌شهر رمضان

- ‌معنى العيد *

- ‌من وحي العيد *

- ‌الإسلام *

- ‌من نفحات الشرق *

- ‌محنة مصر محنتنا *

- ‌يا مصر

- ‌أثر الأزهر في النهضة المصرية *

- ‌ ثلاثة كتب:

- ‌كلمات مظلومة *

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 1

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 2

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 3

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 4

- ‌سجع الكهّان *- 1

- ‌سجع الكهّان *- 2

- ‌سجع الكهّان *- 3

- ‌سجع الكهّان *- 4

- ‌سجع الكهّان *- 5

- ‌سجع الكهّان *- 6

- ‌سجع الكهّان *- 7

- ‌شخصيات

- ‌عبد الحي الكتاني *

- ‌محمد الطاهر بن عاشور وعبد الحميد بن باديس

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌دمعة على المنصف *

- ‌إلى الزاهري *

- ‌الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار *

- ‌بدء معرفتي به:

- ‌محمد خطاب *

- ‌ذكرى مبارك الميلي *

- ‌أثارة من أعمال رابح الفرقاني

- ‌لمحة من أخلاق الشاعر محمد العيد

- ‌السلطان محمد بن يوسف *

- ‌ذكرى عبد الحميد بن باديس *

- ‌الفضيل الورتيلاني *

الفصل: ‌عبد الحي الكتاني *

‌عبد الحي الكتاني *

ما هو؟ وما شأنه؟

ــ

في لغة العرب لطائف عميقة الأثر، وإن كانت قريبةً في النظر؛ ومنها التسمية بالمصدر والوصف به؛ يذهبون بذلك إلى فجّ من المبالغة سحيق، تقف فيه الأذهان حسرى، ويغالَط به الحسّ فيتخيّل ذوبان الموصوف وبقاء الصفة قائمةً بذاتها؛ كأن الموصوف لكثرة ما ألحّت عليه الصفة وغلبت أصبح هو هي أو هو إياها؛ وعند الخنساء الخبر اليقين حين تقول:

* فإنما هي إقبال وإدبار *

وعلى هذا يقال في جواب ما هو عبد الحي؟ هو مكيدة مدبّرة، وفتنة محضرة؛ ولو قال قائل في وصفه:

شّعْوَذَةٌ تَخْطِرُ فِي حِجْلَيْنِ

وَفِتْنَةٌ تَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ

لأراح البيان والتحليل، كما يقول شوقي؛ ولعفّى على أصحاب التراجم، من أعاريب وأعاجم، ولأتى بالإعجاز، في باب الإيجاز؛ إذ أتى بترجمة تُحمَل ببرقيّة، إلى الأقطار الغربية والشرقية، فيعمّ العلم، وتنتشر الإفادة، وتذيع الشهرة

ولو أن الرجل وصف نفسه وأنصف الحقيقة في وصفها لما زاد على هذا البيت، ولو شاء "تخريج الدلالات السمعية" (1) على ذلك لَما أعجزه ولا أعوزه؛ ولكن أين من عبد الحي ذلك الإنصاف الذي لم يخلُ منه إلا شيخ الجماعة الذي حادّ الله وقال:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} .

* نُشرت في العدد 33 من جريدة «البصائر» ، 26 أفريل سنة 1948.

1) تخريج الدلالات السمعية: كتاب في أصول الوظائف الشرعية للخزاعي، اختلس الكتاني نسخة خطية منه من مكتبة عمومية بتونس، ولما ألحّوا عليه في إرجاعها وهدّدوه بتدخل الحكومة، سلخ الكتاب ونسخه في كتاب نسبه إلى نفسه وسمّاه التراتيب الإدارية.

ص: 539

وإذا أنصفنا الرجل قلنا: إنه مجموعة من العناصر منها العلم ومنها الظلم، ومنها الحق ومنها الباطل؛ وأكثرها الشرّ والفساد في الأرض- أُطلق عليها لكثرتها واجتماعها في ظرف- هذا الاسم المركّب الذي لا يلتقي مع الكثير منها في اشتقاق ولا دلالة وضعية، كما تُطلق أسماءُ الأجناس المرتجلة، وكما يُطلِق علماء الكيمياء على مركّباتهم أسماءَ لا يلمحون فيها أصلًا من أصولها، ومن الأسماء ما يوضع على الفال والتخيّل، فيطيش الفال، وتكذب المخيلة، ومنها ما يوضع على التوسع والتحيّل، فيضيق المجال، وتضيع الحيلة، وإن اسم صاحبنا لم يصدُق فيه إلا جزءُه الأول، فهو عبد لعدّة أشياء جاءت بها الآثار وجرت على ألسنة الناس، ولكن أملكها به الاستعمار؛ أما جزءُه الثاني فليس هو من أسماء الله الحسنى، ولا يخطر هذا ببال مؤمن يعرف الرجل، ويعرف صفات عباد الرحمان، المذكورة في خواتيم سورة الفرقان، وإنما هو بمعنى القبيلة، كما يقال كاهن الحي وعرّاف الحي وعير الحي، وقبّح الله الاشتراك اللفظي، فلو علم العرب أنه يأتي بمثل هذا الالتباس لطهروا منه لغتهم، وتحاموه فيما تحاموا من المستهجنات، ولو أدرك نفاة الاشتراك في الاستعمالات الشرعية زمن عبد الحي، أو أدرك هو زمنهم وعرفوه كما عرفناه لكان من أقوى أدلّتهم على نفيه، ولارتفع الخلاف في المسألة وسجّل التاريخ منقبة واحدة لعبد الحيّ، وهي أن اسمه كان سببًا في رفع خلاف

وإذا كانت أعمال الشخص أو آثار الشيء هي التي توضع في ميزان الاعتبار وهي التي تُناط بها الأحكام فهذا من ذاك ولا عتب علينا ولا ملام.

وكأن صاحبنا شعر ببعض هذا- ومثله من يشعر- فموّه اسمه ببضع كنى، ولكنه لم يجرِ فيها على طريقة العرب في تكنية أنفسهم، بل كنى نفسه بأبي الإقبال، وأبي الإسعاد، وما أشبه ذلك مما هو غالب في كُنى العبيد، تفاؤلًا وتروّحًا، وقد رأينا بعض من كتب لعبد الحي، أو كتب عليه، يكنيه بأبي السعادات، وهو لا يعني سعادات ابن الشجري، ولا سعادات ابن الجزري، وإنما يعني سعادات ثلاثًا لكل واحدة منهن أثرٌ في تكوينه أو في شهرته: جريدة "السعادة" لأنها تُطريه، وقرية بو"سعادة" لأنها تُؤويه، ونسخة أو جزءًا من البخاري بخط ابن "سعادة" لأن الخزانة الجليلة تحويه، والرجل مفتون بهذا النوع من الكُنى لنفسه ولغيره، يُغرب فيها ويُبدع حتى كنى الشيخ النبهاني بأبي الحجاز.

هذا وإن لصاحبنا أولادًا صالحين يشرّفه أن يكتنى بأحدهم، فلماذا لم يفعل؟

***

ص: 540

من سنن العرب أنهم يجعلون الاسم سمة للطفولة، والكنية عنوانًا على الرجولة. لذلك كانوا لا يكتنون إلا بنتاج الأصلاب وثمرات الأرحام من بنين وبنات، لأنها الامتداد الطبيعي لتاريخ الحياة بهم، ولا يرضون بهذه الكُنى والألقاب الرخوة إلا لعبيدهم، وما راجت هذه الكُنى والألقاب المهلهلة بين المسلمين إلا يوم تراخت العرى الشادّة لمجتمعهم، فراج فيهم التخنّث في الشمائل، والتأنّث في الطباع، والارتخاء في العزائم، والنفاق في الدين؛ ويوم نسِي المسلمون أنفسهم فأضاعوا الأعمال التي يتمجّد بها الرجال، وأخذوا بالسفاسف التي يتلهّى بها الأطفال، وفاتتهم العظمة الحقيقية فالتمَسوها في الأسماء والكُنى والألقاب؛ ولقد كان العرب صخورًا وجنادل يوم كان من أسمائهم صخر وجندلة، وكانوا غصصًا وسمومًا يوم كان فيهم مرّة وحنظلة؛ وكانوا أشواكًا وأحساكًا يوم كان فيهم قتادة وعوسجة. فانظر ما هم اليوم. وانظر أيّ أثر تتركه الأسماء في المسمّيات. واعتبر ذلك في كلمة (سيدي) وأنها ما راجت بيننا وشاعت فينا إلا يوم أضعنا السيادة، وأفلتت من أيدينا القيادة. ولماذا لم تشِع في المسلمين يوم كانوا سادة الدنيا على الحقيقة؛ ولو قالها قائل لعمر لهاجت شرّته، ولبادرت بالجواب درّته.

كُني المعرّي وهو صغير بأبي العلاء، ولو تزوّج كالناس وولد له لسمّى أكبر أولاده العلاء؛ وهو اسم عربي فخم تعرف منه كتب السير أمثال العلاء بن الحضرمي، ولكن المعرّي لمّا عقل وأدرك سخافة القصد من كنيته قال هازئًا:"كُنيتُ وأنا وليد بالعلاء فكأن علاءً مات، وبقيت العلامات"؛ وأين إسعاد عبد الحي من علاء المعري؟

عرف الناس وعرفنا عرفان اليقين وعلمنا حتى ما نسائل عالمًا، أن هذا الرجل ما زال منذ كان الاستعمار في المغرب- لا كانا- آلةً صمّاءَ في يده، يديره كما شاء، ويريده على ما شاء. يحرّكه للفتنة فيتحرّك، ويدعوه إلى تفريق الصفوف فيستجيب، ويندبه إلى التضريب والتخريب فيجده أطوع من بنانه، ويريد منه أن يكون حمّى تُنهك، فيكون طاعونًا يُهلك؛ وأن يكون له لسانًا، فيكون لسانًا وأذنًا وعينًا ويدًا ورجلًا ومقراضًا للقطع، وفأسًا للقلع، ومعولًا للصدع، وما يشاء الاستعمار إخماد حركة، إلا كانت على يديه البركة، وما يشاء التشغيب على العاملين للصلاح، والمطالبين بالإصلاح، إلا رماهم منه بالداهية النكراء والصيلم الصلعاء؛ وما يعجزه الاضطلاع بعبء، أو الاطلاع على خبء، إلا وجد فيه البغية والضالة؛ وما يشاء التشكيك في رأي جميع، أو التشتيت لشمل مجموع، إلا وجد فيه المشكّك المحكّك، والخادم الهادم؛ وقد تهيّأتْ فيه أدوات الفتنة كلها حتى كأنه أُعدّ لذلك إعدادًا خاصًا. وكأنه "مصنوع بالتوصية"، وكأنما هو رزق مهيّأ مهنأ للاستعمار، وما

ص: 541

زال الاستعمار مرزوقًا بهذا النوع؛ فالرجل شريف أولًا، وعريق في الشهرة ثانيًا، وطرقي ثالثًا، وعالم رابعًا، وكل واحدة من هذه فتنة لصاحبها بنفسه وللناس به، فكيف بهن إذا اجتمعن؟ وكيف بهن إذا كان اجتماعُهنّ في غير موفّق؟ والرَّجُل بارع يستخدم كل واحدة من هذه في ميدانها الخاص، ويستخدمها جميعًا في الميدان العام: يستخدم العلم في الشهرة، والطرقية في الفتنة، فإذا حزب الأمر اتخذ من أحدهما طليعة، ومن الآخر جيشًا، ومن الشهرة أو الشرف ردءًا؛ ولكن أغلب النزعات عليه، النزعة الطرقية لأنها أكثر فائدة، وأجدى عائدة، وأقرب سبيل، في باب التضليل، ناهيك بدعوى لا يحتاج صاحبها إلى إقامة دليل.

كان بلاءُ هذا الرجل محصورًا في محيط، ومقصورًا على قطر، وكان إخواننا في المغرب يعالجون منه الداء العضال، وكنا نعدّ أنفسنا آثمين في السكوت عنه، وفي القعود عن نصرة إخواننا في دفع هذا البلاء الأزرق، فلما تنبّهت عقولهم لكيده، وتفتّحت عيونهم لمكره، وتهاوت عليه كواكب الرجم من كل جانب، فبطل سحره، وقصّرت رُقاه عن الاستنزال، وضلّ سعيه، وقلّ رعيه، انقلب استعمارًا محضًا قائمًا بذاته، وهاج حقده على الأحرار والسلفيين فترصّد أذاهم في الأنفس والأموال والمصالح، وأصبح كالعقرب، لا تلدغ إلا من يتحرك

ولكن السوأة التي لا توارى، والزلّة التي تضيق عنها المغفرة، والعظيمة التي يستحي الشيطان أن يوسوس بها، والشنعاء التي لا يقدم عليها إلا من بلغ رتبة الاجتهاد المطلق في علم الشر، هي اجتراؤه في فورة الاستعمار الأخيرة على أعلى رمز تتمثّل فيه أماني الوطن، وأمنع كنف يلوذ به السلفيّون الأبرار، والوطنيون الأحرار.

إن الخطايا قد تحيط بصاحبها فيقتل نفسه مثلًا، ولكن ما صدّقنا أن الحال ينتهي به إلى قتل أمّة إلا هذه المرّة، وإن الزلل ليرسخ إلى أن يصير خلقًا وعادة، ولكن ما عَهِدنا أنه يفضي بصاحبه إلى هذه الدركة التي لا تُبلَغ إلا بخذلان من الله، وما كنا نتصور أنّ شرّ شرّير يتّضع قدره إلى هذا الحدّ، أو يتّسع صدره لحمل هذا الوسام، وسبحان من يزيد في الخَلق ما يشاء.

وكأن الرجل أخذ فيما أخذ عن الاستعمار طريقة التوسّع، وكأنه أصغر المغرب- على سعته- أن يكون مجالًا لألاعيبه ومكايده، فجاوز في هذه المرّة الحدود، وتخطّى الأخدود، واندفع إلى الجزائر وتونس ليبثّ فيهما سمومه، ويتخذ منهما ملعبًا جديدًا لرواياته التي منها

ص: 542

مؤتمر الزوايا بالجزائر، وليقوم للحكومة بما عجزت عنه من استئلاف النافر، واستنزال العاقّ، وليوحّد بين الأقطار الثلاثة ولكن بالتفريق، ولينقذها من البحر ولكن بالتغريق.

كان عبد الحي فيما مضى يزور هذا الوطن داعيًا لنفسه أو مدعوًّا من أصدقائه، وهم طائفة مخصوصة، فكنّا نولّيه ما تولّى، ولا نأبه له، وكانت تبلغنا عنه هنات كاختصاصه بالجهّال وهو عالم، وانتصاره للطرقية وهو محدّث، إلى هنات كلها تمسّ شرف العلم وكرامة العالم، فكنّا نحمّله ما تحمّل ولا نبالي به، وكان يزور لمامًا، ويقيم أيامًا، ولكنه- في هذه المرّة- جاء ليتمّم خطّة، ودخل الباب ولم يقل حطّة، وصاغ في الجزائر حلقات من تلك السلسلة التي بدأ صنعها في المغرب، دلّتنا على ذلك شواهد الأفعال والأقوال والملابسات والظروف، ثم زار تونس ليؤلّف فيها "تكميل التقييد"(1) وكأنه يتحدّى بهذه الرحلة الطويلة رحلة أبي الحسن المريني (2)

وشتّان ما بين الرحلتين. تلك كانت لتوسيع الممالك، وهذه كانت لتوزيع المهالك، ويا ويح الجزائر المسكينة، كأن لم تكفها الفتن المتماحلة حتى تزاد عليها فتنة اسمها "مؤتمر الزوايا"، ولم تكفها النكبات المتوالية حتى تضاف إليها نكبة اسمها "عبد الحي".

إن في رحلة عبد الحي هذه لآيات، منها أن الحكومة أحسّت بإعراض من رجال الزوايا، وانصراف عما تريده منهم بطرقها القديمة، فأرادت أن تؤيّد قوّة القهر بقوّة السحر، فكان عبد الحيّ الساحر العليم، وآية ذلك أنه زار كل واحد من مشايخ الطرق في داره، وأقام عنده الليالي والأيام، ونعتقد أنه تعِب في إقناع الجماعة ولمِّ شملهم، وقد سمعنا من عقلائهم عبارات التشاؤم بمقدمه في هذه الظروف، والتبرّم بتكاليفه في هذه السنوات العجاف، وإن ضيافة هذا الرجل وحدها لأزمة مالية مستقلّة، ولو كان للجماعة شيء من الشجاعة لولّوه الظهر، وصارحوه بالنهر، ولكن الشجاعة حظوظ، والصراحة أرزاق.

ويقال، في جواب ما شأنه، إنه الشأن كله، ونقسم بالله الذي خلق الحيَّ وعبد الحيّ، أنه لولاه لما خطر مؤتمر الزوايا على بال واحد منهم، حاشا حواريَّ عبد الحي بتلمسان، وهو

2) اسم كتاب في الفقه لابن غازي جاء اسمه مطابقًا بسعة أعمال عبد الحي للمحنان. ونحن نريد المعنى الوفي في الكلمتين، فقد جاء الرجل ليكمل تقييد الجزائر وتونس بما ينقصهما من قيود مكره.

3) أبو الحسن أنبه ملك في الدولة المرينية، بلغت فتوحاته إلى حدود ليبيا، وانتظم المغارب الثلاثة، وفي غزاته لتونس بنفسه كان المؤرّخ ابن خلدون قد ختم بها حياته العلمية وكان بدء اتصاله بالملوك والدول.

ص: 543

رجل ليس فيه من صفات الحواريين إلا الصيد، وليس هو من الزوايا في قبيل ولا دبير، ونحن أعرف بالجماعة من عبد الحي، وقد انصرفوا في السنوات الأخيرة إلى أعمالهم الخاصة وساروا في هوى الأمّة، وشاركوا في مشاريعها العامة بقدر الاستطاعة؛ ولو سمعوا نصائحنا لتولّوا قيادتها من جديد ولكن بالعلم وإلى العلم، وعلى ما هم عليه فإن القسوة لم تبلغ بهم إلى حدّ معاكسة شعور الأمّة، حتى يُعرِسوا في مأتمها، لولا هذا المخلوق.

ثم نسأل عبد الحي: لماذا لم يفعل في المغرب ما فعله في الجزائر، فيجمع الزوايا على الدعوة إلى التعليم؟ إنه لم يفعل لأنه لا يرى زاوية قائمة إلا زاويته، وكلّ ما عداها فمنفرجة أو حادّة كما يقول علماء الهندسة، ونسأل رجال الزوايا: لماذا لم يجتمعوا لمؤتمرهم قبل مجيء عبد الحي؟ وهل هم في حاجة إلى التذكير بلزوم العلم والتعليم حتى يأتيهم عبد الحي بشيء جديد في الموضوع؟

يا قوم، إن الأمر لمدبَّر، إن الأمر لمدبّر علمه مَن علِمه منكم وجهِله مَن جهِله، وما نحن بمتزيّدين ولا متخرّصين.

ولو أن عبد الحي كان غير من كان، ونزل باسم العلم ضيفًا على الأمّة الجزائرية غير متحيّز إلى فئة، وغير مسيّر بيد، وغير متأبّط لشرّ، للقي منها كل إكبار وتبجيل ولو أضافته على الأسودين التمر والماء، وإن ذلك لأعظم إعلاءً لقدره، وإغلاءً لقيمته.

ولقد كان من مقتضى كون الرجل محدِّثًا أن يكون سلفيّ العقيدة وقّافًا عند حدود الكتاب والسنَّة، يرى ما سواهما من وسواس الشياطين، وأن يكون مستقلًّا في الاستدلال لما يؤخذ ولما يترك من مسائل الدين، وقد تعالت همم المحدّثين عن تقليد الأئمة المجتهدين، فكيف بالمبتدعة الدجّالين؛ وعرفوا بالوقوف عند الآثار والعمل بها، لا يعْدونها إلى قول غير المعصوم إلا في الاجتهاديات المحضة التي لا نصّ فيها؛ ولكن المعروف عن هذا المحدّث أنه قضى عمره في نصر الطرقية وضلالات الطرقيين ومحدَثاتهم بالقول والفعل والسكوت، وأنه خصم لدود للسلفيين، وحرب عوان على السلفية، وهل يرجى ممن نشأ في أحضان الطرقية، وفتح عينيه على ما فيها من مال وجاه وشهوات ميسّرة ومخايل من المُلك، أن يكون سلفيًّا ولو سلسل الدنيا كلها بمسلسلاته؟

إن السلفية نشأة وارتياض ودراسة، فالنشأة أن ينشأ في بيئة أو بيت كل ما فيها يجري على السنّة عملًا لا قولًا؛ والدراسة أن يدرس من القرآن والحديث الأصول الاعتقادية، ومن السيرة النبوية الجوانب الأخلاقية والنفسية، ثم يروّض نفسه بعد ذلك على الهدي المعتصر من تلك

ص: 544

السيرة وممن جرى على صراطها من السلف، وعبد الحي محدّث بمعنى آخر، فهو "راوية" بكل ما لهذه الكلمة من معنى. تتصل أسانيده بالجن والحن ورتن الهندي (4) وبكل من هبّ ودبّ. وفيه من صفات المحدّثين أنه جاب الآفاق، ولقي الرجال، واستوعب ما عندهم من الإجازات بالروايات، ثم غلبت عليه نزعة التجديد فأتى من صفات المحدَثين (بالتخفيف) بكل عجيبة، فهو محدّث محدِث في آن واحد؛ وهمّه وهمّ أمثاله من مجانين الرواية حفظ الأسانيد، وتحصيل الإجازات، ومكاتبة علماء الهند والسند للاستجازة، وأن يرحل أحدهم فيلقى رجلًا من أهل الرواية في مثل فواق الحالب، فيقول له: أجزتُك بكل مروياتي ومؤلفاتي إلى آخر (الكليشي)(5)؛ فإذا عجز عن الرحلة كتب مستجيزًا فيأتيه علم الحديث بل علوم الدين والدنيا كلها في بطاقة

أهذا هو العلم؟ لا والله. وإنما هو شيء اسمه جنون الرواية.

ولقد أصاب كاتب هذه السطور مسٌّ من هذا الجنون في أيام الحداثة، ولم أتبيّن منشأه في نفسي إلا بعد أن عافاني الله منه وتاب عليّ، ومنشأُه هو الإدلال بقوّة الحافظة، وكان من آثار ذلك المرض أنني فُتنت بحفظ أنساب العرب، فكان لا يُرضيني عن نفسي إلا أن أحفظ أنساب مضر وربيعة بجماهرها ومجامعها، وأن أنسب جماهر حمير وأخواتها، وأن أعرف كل ما أثر عن دغفل في أنساب قريش، وما اختلف فيه الواقدي ومحمد بن السائب الكلبي؛ ثم فُتنت بحفظ الأسانيد، وكدت ألتقي بعبد الحي في مستشفى هذا الصنف من المجانين بالرواية، لولا أن الله سلّم، ولولا أن الفطرة ألهمتني: أن العلم ما فُهم وهُضم، لا ما رُوي وطُوي.

زرت يومًا الشيخ أحمد البرزنجي- رحمه الله في داره بالمدينة المنوّرة وهو ضرير، وقد نُمي إليه شيء من حفظي ولزومي لدور الكتب، فقال لي بعد خوض في الحديث: أجزتُك بكل مروياتي من مقروء ومسموع بشرطه

الخ. فألقى في روعي ما جرى على لساني وقلت له: إنك لم تعطني علمًا بهذه الجمل، وأحر أن لا يكون لي ولا لك أجر، لأنك لم تتعب في التلقين وأنا لم أتعب في التلقّي؛ فتبسّم ضاحكًا من قولي ولم يُنكر، وكان ذلك بدء شفائي من هذا المرض، وإن بقيت في النفس منه عقابيل، تَهيج كلما طاف بي طائف العُجْب والتعاظم الفارغ إلى أن تناسيته متعمّدًا، ثم كان الفضل لمصائب الزمان في نسيان البقية الباقية منه؛ وإذا أسفت على شيء من ذلك الآن فعلى تناسيّ لأيام العرب، لأنها تاريخ، وعلى نسياني أشعار العرب، لأنها أدب.

4) رتن الهندي شيخ دجّال ظهر على رأس المائة السادسة للهجرة وادّعى أنه صحابي وأنه يروي عن النبي مباشرة وأنه حضر زفاف فاطمة الزهراء، وقد روى عنه جماعة من المحدثين المصغين له وأنكر أمره ودعواه جمهور أعلام المحدثين كالحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر، وأثبت الذهبي أنه دجال كذاب.

5) الكليشي: كلمة فرنسية معناها الشريط.

ص: 545

وحضرت بعد ذلك طائفةً من دروس هذا الشيخ في صحيح البخاري على قلّتها وتقطّعها؛ وأشهد أني كنت أسمع منه علمًا وتحقيقًا؛ فقلت له يومًا: الآن أعطيتني أشياء وأحرِ بنا أن نوجَر معًا، أنت وأنا؛ فتبسّم مبتهجًا وقال لي: يا بنيّ، هذه الدراية وتلك الرواية. فقلت له: إن بين الدراية والعلم نسبًا قريبًا في الدلالة، تُرادفه أو تقف دونه؛ فما نسبة الرواية إلى العلم؟ وقطع الحديث صوت المؤذّن وقال لي: بعد الصلاة حدّثني بحديثك عن نسبة الرواية إلى العلم، فقلت له ما معناه: إن ثمرة الرواية كانت في تصحيح الأصول وضبط المتون وتصحيح الأسماء، فلما ضُبطت الأصول وأُمن التصحيف في الأسماء خفّ وزن الرواية وسقطت قيمتها، وقلت له: إن قيمة الحفظ- بعد ذلك الضبط- نزلت إلى قريب من قيمة الرواية، وقد كانت صنعة الحافظ شاقةً يوم كان الاختلاف في المتون، فكيف بها بعد أن تشعّب الخلاف في ألفاظ البخاري في السند الواحد بين أبي ذرّ الهروي، والأصيلي، وكريمة، والمستملي، والكشميهي، وتلك الطائفة، وهل قال حدثني أو حدّثنا أو كتاب أو باب؛ إن هذا لتطويل ما فيه من طائل.

ولا أراه علمًا بل هو عائق عن العلم، وقلت له: إن عمل الحافظ اليونيني على جلالة قدره في الجمع بين هذه الروايات ضرب في حديد بارد، لا أستثني منه إلا عمل ابن مالك، وإن ترجيح ابن مالك لإعراب لفظة لأدلّ على الصحة في اللفظ النبوي من تصحيح الرواية، وقد يكون الراوي أعجميًّا لا يقيم للإعراب وزنًا، فلماذا لا نعمد إلى تقوية الملكة العربية في نفوسنا، وتقويم المنطق العربي في ألسنتنا، ثم نجعل من ذلك موازين لتصحيح الرواية؛ على أن التوسّع في الرواية أفضى بنا إلى الزهد في الدراية، وقلت له: إنك لو وقفت على حلق المحدّثين بهذا الحرم، محمد بن جعفر الكتاني ومحمد الخضر الشنقيطي وغيرهما لسمعتَ رواية وسردًا، لا دراية ودرسًا، وإن أحدهم ليقرأ العشرين والثلاثين ورقة من الكتاب في الدولة الواحدة (6). فأين العلم؟ وقلت له: إن مَن قَبْلنا تنبّهوا إلى أن دولة الرواية دالت بضبط الأصول وشهرتها فاقتصروا على الأوائل، يعنون الأحاديث الأولى من الأمهات وصاروا يكتفون بسماعها أو قراءتها في الإجازات، وما اكتفاء القدماء بالمناولة والوجادة إلا من هذا الباب.

قلت له هذا وأكثر من هذا، وكانت معارف وجهه تدلّ على الموافقة ولكنه لم ينطق بشيء، وأنا أعلم أن سبب سكوته هو مخالفة ما سمع لما ألف- رحمه الله.

ولقيت يومًا الشيخ يوسف النبهاني- رحمه الله بباب من أبواب الحرم فسلّمت عليه فقال لي: سمعت آنفًا درسك في الشمائل، وأعجبني إنحازك باللوم على مؤلّفي السيَر في اعتنائهم بالشمائل النبوية البدنية، وتقصيرهم في الفضائل الروحية، وقد أجزتُك بكل مؤلّفاتي

6) في الدولة الواحدة: في المَرَّة الواحدة.

ص: 546

ومروياتي وكل مالي من مقروء ومسموع من كل ما تضمّنه ثبتي

إلخ. فقلت له: أنا شاب هاجرت لأستزيد علمًا وأستفيد من أمثالكم ما يكملني منه، وما أرى عملكم هذا إلا تزهيدًا لنا في العلم، وماذا يفيدني أن أروي مؤلفاتك وأنا لم أستفد منك مسألة من العلم؛ ولماذا لم تنصب نفسك لإفادة الطلّاب، فسكت، ولم يكن له- رحمه الله درس في الحرم، وإنما سمعت من خادم له جَبَرْتي أنه يتلقّى عنه في حجرته درسًا في فقه الشافعية.

وكان بعد ذلك يُؤثر محلي على ما بيننا من تفاوت كبير في السن، وتباين عظيم في الفكرة. رحم الله جميع من ذكرنا وألحقنا بهم لا فاتنين ولا مفتونين.

أما أولئك السلف الأبرار فعنايتهم بالرواية والرجال راجعة كلها إلى الجرح والتعديل اللذين هما أساس الاطمئنان إلى الرواية، وقد تعبوا في ذلك واسترحنا، وما قولكم- دام فضلكم- لو فرضنا أنّ محدث القرن الرابع عشر ومسنده عبد الحي عُرض بعجره وبجره على أحمد بن حنبل، أو على يحيى بن معين، أو على عليّ بن المديني، أو على مَن بعدهم من نقّاد الرجال الذين كانوا يجرّحون بلحظة، ويُسقطون العدالة بغمزة في عقيدة، أو نبزة في سيرة، أو بغير ذلك مما يُعدّ في جنب عبد الحيّ حسنات وقُرُبات، فماذا نراهم يقولون فيه؛ وبماذا يحكمون عليه؟ خصوصًا إذا عاملوه بقاعدة (الجرح لا يُقبَل إلا مفسَّرًا).

وبعد، "فقد أطال ثنائي طول لابسه"(7) فليعذرنا عبد الحيّ، ووالله ما بيننا وبينه تِرَة ولا حسيفة؛ ووالله ما في أنفسنا عليه حقد ولا ضغينة، ووالله لوددنا لو كان غير من كان، فكان لقومه لا عليهم، وإذًا لأفاد هذا الشمال بالكنوز النبوية التي يحفظ متونها، ونفع هذا الجيل الباحث الناهض المتطلعّ بخزانته العامرة، وكان روّاد داره تلامذة يتخرّجون، لا سيّاحًا يتفرّجون؛ وعلماء يتباحثون، لا عوام يتعابثون، ولكنه خرج عن طوره في نصر الضلال فخرجنا عن عادتنا من الصبر والأناة في نصر الحق، وجاء يؤلب طائفة من الأمّة على مصالح الأمّة، فهاج الأمّة كلها، وهاج معها هذا القلم الذي يمجّ السمام المنقع، فنفث هذه الجمل، وفي كل جملة حملة، وفي كل فقرة نقرة، فإن عاد بالتوبة، عدنا بالصفح؛ وان زاد في الحوبة، عدنا على هذا المتن بالشرح، ولعلّ هذا الأسبوع هو أبرك الأسابيع على الشيخ، فقد أملينا فيه مجالس في مناقبه جاءت في كتيّب، سميناه- بعد الوضع- "نشر الطيّ، من أعمال عبد الحي"، فإنْ تاب وأدناه، ووفينا له بما وعدناه، وإلا عممناه بالرواية، وأذنَّا لعبد الحي في روايته عنا للتبرّك واتصال السند، وهو أعلم الناس بجواز رواية الأكابر عن الأصاغر.

7) شطر من بيت للمتنبي تمامه: إن الثناء على التنبال تنبال.

ص: 547