الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن ذلك الإمام المدرّب الفقيه المجتهد الجامع لشروط الإمامة في هذا الباب لهو الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
إن الذين يُثيرون في وجهه الغبار، أو يضعون في وجهته العواثير لمجرمون. وإنا- إن شاء الله- للأستاذ الأكبر في طريقه الإصلاحي لمؤيّدون وناصرون.
-
2
-
باني النهضتين العلمية والفكرية بالجزائر؛ وواضع أسسها على صخرة الحق، وقائد زحوفها المغيرة إلى الغايات العليا، وامام الحركة السلفية؛ ومنشئ مجلة "الشهاب" مرآة الإصلاح وسيف المصلحين، ومربّي جيلين كاملين على الهداية القرآنية والهدْي المحمدي وعلى التفكير الصحيح، ومُحيي دوارس العلم بدروسه الحية، ومفسّر كلام الله على الطريقة السلفية في مجالس انتظمت ربع قرن، وغارس بذور الوطنية الصحيحة، وملقّن مباديها، علم البيان، وفارس المنابر، الأستاذ الرئيس الشيخ عبد الحميد بن باديس، أول رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأوّل مؤسّس لنوادي العلم والأدب وجمعيات التربية والتعليم، رحمه الله ورضي عنه.
وحسبُ ابن باديس من المجد التاريخي هذه الأعمال التي أجملناها في ترجمته؛ وإنّ كل واحد منها لأصل لفروع، وفصل من كتاب، وإذا كان الرجال أعمالًا فإن رجولة أخينا عبد الحميد تقوَّم بهذه الأعمال.
وحسبُه من المجد التاريخي أنه أحيا أمّةً تعاقبت عليها الأحداث والغير، ودينًا لابسته المحدَثات والبدع، ولسانًا أكلته الرطانات الأجنبية، وتاريخًا غطّى عليه النسيان، ومجدًا أضاعه ورثة السوء، وفضائل قتلتها رذائل الغرب.
وحسبه من المجد التاريخي أن تلامذته اليوم هم جنود النهضة العلمية، وهم ألسنتها الخاطبة، وأقلامها الكاتبة، وهم حاملو ألويتها، وأن آراءه في الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي هي الدستور القائم بين العلماء والمفكّرين والسياسيين، وهي المنارة التي يهتدي بها العاملون، وأن بناءَه في الوطنية الإسلامية هو البناء الذي لا يتداعى ولا ينهار. وحسبه من المجد التاريخي أنّ إخوانه الذين حملوا معه معظم الأمانة في حياته، اضطلعوا بحملها كاملة بعد وفاته، في أيام أشدّ تجهّمًا من أيامه، وفي هزاهز ما كان يتخيّلها حتى في أحلامه، فما وهنوا ولا هانوا، ولا ضعفوا ولا استكانوا.
وأنهم استُخلفوا على النهضة فكانوا نعم الخلف، تمّموا وعمّموا، وأجمعوا وصمّموا.
وأنهم وفوا له ميتًا كما وَفَوْا له حيًّا. واعتزُّوا باسمه بعد مماته، كما كان يعتزّ بهم في حياته. فقد كان- رحمه الله على جرأته وبديهته وبيانه وشجاعته- ربما تُدركه الفترة في الرأي في المواقف الحرجة فيلتفت فيرى إخوانه إلى جنبه فيندفع كأنما مسّته كهرباء، وكأنه الأتِيُّ المنهمر، فلا يبقي ولا يذر.
…
ومن غرائب هذه العصابة التي كان ابن باديس شارة شرفها، وطغرى عزّها، أن الشيطان لم يجد منفذًا يدخل منه إلى أخوّتهم فيفسدها، أو إلى علائقهم فيفصمها، أو إلى محبتهم بعضهم لبعض فينفث فيها الدخل، فعاشوا ما عاشوا متآخين كأمتن ما يكون التآخي، متحابين كأقوى ما تكون المحبة؛ ولقد كانوا مشتركين في أعمال عظيمة، معرّضين لعواقب وخيمة. ومن شأن ما يكون كذلك أن تختلف فيه وجوه الرأي وتتشعّب مسالكه، فيكثر فيها اللجاج المفضي إلى الضغينة، والانتصار للرأي المفضي إلى الخلاف، خصوصًا إذا اشتجرت الآراء في مزلقة الاستعمار التي يرصدها لنا؛ فوالذي روحي بيده ما كنا نجتمع في المواقف الخطيرة إلا كنفس واحدة، وما كنا نفترق- وإن اختلف الرأي- إلا كنفس واحدة. وإني لا أجد لفظًا يؤدّي هذه الحالة فينا إلا لفظة "إخوان الصفاء". فلقد- والله- كنا إخوان صفاء، وما زلنا إخوان صفاء، وسنبقى إخوان صفاء، حتى نجتمع عند الله راضين مرضيين إن شاء الله.
إن لهذه الحالة فينا علّة وثمرة: أما العفة فهي أن اجتماعنا كان لله ولنصر دين الله ولتأدية حق الله في عباده، دأبنا في ذلك التعاون على الخير، والاستباق إلى الخير، فلا مجال للمنافسة وحظ النفس. وأما الثمرة فهي هذا النجاح الباهر الذي نلقاه في كل أعمالنا للأمّة، في تطهير العقول، وفي تصحيح العقائد، وفي استجابة داعي القرآن، وفي تمكين سلطان السنّة، وفي صدق التوجه إلى العلم، وفي تشييد المدارس، وفي كثرة الإقبال عليها والبذل لها، وفي كل معالجة بيننا وبين الأمّة.
إن هذا من صنع الله لا مما تصوغه الأهواء النفسية الخبيثة، وما جمعته يد الله لا تفرّقه يد الشيطان.
…
ما زلت آسَى على شيء كلّما ذكرته، وأجد له في نفسي حرارةً ومضضًا، وهو أن تستأثر الجزائر وحدها بتلك المجموعة الباديسية من فكر ثاقب، ورأي أصيل، وعلم غزير، ولسان
مبين، وأن لا يكون لبقية الأقطار الإسلامية منها حظ؛ وكم كنت أتمنّى لو يقوم برحلة في أطراف العالم الإسلامي داعيًا إلى الله، وإلى الاجتماع على كتاب الله، وكنت نازعته الحديث في هذا مرّات، وقلت له: إن من النقص أن تقضي طول عمرك مدرّسًا لهذه الكتب وهذه القواعد، في طائفة من الطلّاب؛ فإن زدت فمحاضرًا في الجموع، وأن يبقى هذا العلم محصورًا في الجزائر، وكان من حبه- رحمه الله لتلامذته وشغفه بتربيتهم أنه يتولّى بنفسه دراسة الكتب العالية طوال السنة، إلا في الجولات المحدودة للوعظ والإرشاد، أو لاجتماعات الجمعيات، فكان يحيل الأمر إليّ تنضلًا. ويقول لي: أنت أعرف بالشرق، وألين عريكة مني (وهذه عبارته بحروفها). وكنا نتفق على الأصل ونسوّف ونسوّف إلى أن فرّق الموت بيننا.
هذه بعض أعمال الرجل العظيم الذي مات فورثت أسرته جثمانه فأقامت له مشهدًا، وورثنا نحن أعماله فأقمنا له معهدًا، وعسى الله أن يوفق أسرته إلى وقف مكتبته على معهده ليعمّ النفع بها كما عمّ النفع بعلمه، وليحيا ذكره بهما معًا، وليس بالكثير في حقّ من وقف حياته الغالية على الأمّة، أن توقف مكتبته الرخيصة على الأمّة.