الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عادت لعترها لميس *
ولَميس هذه في مورد المثل هي امرأة كانت لها عوائد شر تعتادها، وأخلاق سوء تفارقها ثم تقارفها، لغلبة الفساد فيها وصيرورته أصلًا في طباعها- والعتر هو الأصل- فسيّرت العرب فيها هذا المثل.
أما في مضرب المثل فهي الإدارة الجزائرية، وعترها هو الاستعمار البغيض إلى كل نفس، وما يقتضيه من ظلم وعنت للمستضعفين، وما يبنى عليه من انتهاك لحرماتهم، وما ينتهي إليه من وحشية في معاملتهم، وقتل لمعنوياتهم، ومسخ لأخلاقهم.
كل الحكومات الاستعمارية تجعل معنويات الشعوب المغلوبة هدفها الأول فترميها بما يُضعفها، ولكن على التدريج لا على المغافصة، وبالحيلة لا بالقوة، وفي السر لا في العلن.
أما حكومة الجزائر فإنها تتعمّد تلك المعنويات بالقتل الوَحِيِّ عمدًا مع الإصرار، وجهرًا ليس فيه إسرار، وعنادًا لا رجوعٍ فيه، ولا توبة منه، وغاية أمرها أنها تسنّ القوانين القاتلة وتتناسى تنفيذها إلى حين، تغليطا للمغفلين وايهامًا للمنتقدين، فإذا عادها من جبروتها عيد، عمدت إلى تلك القوانين فأخرجتها كما يخرج السلاح لوقت الحاجة، فإذا اقتضتها الظروف شيئًا من التعمية والإيهام، وضعت تلك الأسلحة التي اسمها القوانين، في أيدي أسلحة بشرية ممن يلبس لباس هذه الأمة المسكينة وبدعى باسمها- كالعاصي مثلًا- وقالت له: "ارمِ بهذا، فإنما خلقتك لهذا، ورزقتك من أجل هذا، ورفعت ذكرك لمثل هذا، وانتخبتك لتنفيذ هذا، وأوطأت الناس عقبك لتقوم بهذا
…
ارْمِ دينك باسم دينك، واخدع أمّتك باسم أمتك، واكذب على تاريخك باسمه، وعفّ رسومه بما بقي من رسمه
…
أجهز على البقية الباقية ولك مني الجُنة الواقية، والمنزلة الراقية، وفي خدمتك المذياع، وفي نصرتك
* نشرت في العدد 64 من جريدة «البصائر» ، 24 جانفي يشة 1949.
الأتباع والأشياع
…
ارْمِ باسمك لتغطي به اسمي، وقل بلسانك ومن ورائه لساني، لأستدفع بك ما عسى أن يلحق من تهمة، أو يعلق من وصمة، فإني لم أضع للدين لجنة، وللهلال لجنة، وللحج لجنة، إلا لأمحو من أعمالي أثر الهجنة
…
ولا تنسَ أن من نعمي عليك أنني أكتبُ وأنسب إليك
…
وكفاك فخرًا أن وجودي هو وجودك: وكفاني نجاحًا أن كان "للوظيفة" لا لله سجودك، وكفاني ثقة بك أن صرّحت بأن "مصلحتك هي مصلحتي". وحسبنا جميعًا أننا روحان في جسد، وشعرتان في حبل من مسد، وأننا دنَّا- على شيوع الإلحاد- بمذهب الحلول والاتحاد".
هذا ما يقوله لسان الحكومة لصنائعها من أمثال العاصمي، حين تريدهم على تنفيذ رغائبها الاستعمارية، وإن لها في كل ما ترمينا به هذين النوعين من الأسلحة: سلاح القانون، وهو تحت يدها، وهذا النوع المسترذل من السلاح البشري، وهو تحت رجلها
…
ولكنها تسكت ما تسكت لحكمة استعمارية ثم تعود
…
كما عادت لعترها لميس.
…
عادت لعترها (لميسنا) في الصيف الماضي- وقد ماتت تلك العوائد السيئة (عادة الزرد)(1) التي تُنتهك فيها الحرمات، وتستحل المحرمات- فأوعزت إلى صنائعها أن يحيوها، ويسّرت لهم كل ما عسرته الأزمة المالية الخانقة، وأحضرت لهم كل ما غيّبته سنو الحرب الماحقة، وإذا بعاصمي الزرد و "الوعائد"(2)، ومحيي معالم البدع والعوائد، يدعو إلى وعدة "عابد"، ويقيمها بسيئاتها وموبقاتها وفواحشها، على أسوإ ما كانت تقع عليه من المنكرات التي لا يسيغها عقل ولا دين ولا مروءة، وإذا بآخر في وهران، يدعو إلى زردة أخرى من زرد الشيطان. وإذا بآخرين في غيرها يدعون إلى غيرها، ولم يكتفِ هذا التنشيط الداخلي لهذه الزرد التي صاحبها يفتقر، وآدِبها ينتقر؛ فدعت الجَفَلَى إلى الزردة الكتانية (3) التي صاحبها "يْزَرَّدْ ويزيد".
للحكومة في كل مذهب تذهبه عاصمي وإن لم تسمِّه مفتيًا حنفيًّا. وكل هؤلاء عاصمي في حرفته، "سودته" عبوديته، ولو ساعده الوزن لقلب المثل وقال نفس عاصمي سوّدت عاصميًّا
…
وكلهم لا يعرفون معنى للعيب، إذا امتلأ الجيب، ولا يأبه للعار، وان دخل النار، ولا كعاصمي الزرد مشعوذًا يأكل الدنيا بالدين، ويضل عن سبيل المهتدين؛ وجلّ
1) عادة الزّرد: جمع "زَرْدَة" وهي التجمّع الذي يُقيمُه الطرقيون، والمقصود به مآدب الأكل.
2) الوعائد: جمع "وَعْدَة" وهي كالزَّرْدَة.
3) نسبة لعبد الحي الكتاني، قد كان يقيم زردة سنوية، وتتولى فرنسا دعوة أتباعها وعبيدها من أطراف الجزائر.
دين الله أن يعلق بهؤلاء السماعين للكذب، الأكّالين للسحت، فإن آلمهم كلامنا هذا فليخبرنا فقيههم عن حكم الله في كل ما يقع في "وعدة عابد" التي هو بطلها وجبلها الذي يمسكها أن تزول، وهل كل ما يقع فيها يتفق مع أحكام الإسلام؟ وهل الأموال التي تنفق فيها يرجع شيء منها إلى مصلحة الأمة فتعدّ مما أنفق في سبيل الله؟
كانت هذه العوائد، التي يسمّونها "وعايد"، المنتشرة في العمالة الوهرانية- على الخصوص- من شر ما أوحى الشيطان إلى أوليائه، وتنزل به عليهم؛ وإنما تنزل الشياطين على كل أفّاك أثيم؛ فأمرهم بالفحشاء ووعدهم الفقر إن تركوها؛ وقد ركدت ريحها في السنوات الأخيرة، وأعرض عنها كثير ممن وفّقهم الله، وتأثر بالإصلاح الذي يحارب أمثالها من البدع والمنكرات والآفات، ومنهم من وزعه عنها وازع المروءة، فإن ما يقع فيها لا تحتمله نفس الحر الأبي الغيور على أمّته، ولما جاءت الحرب وفشت الخصاصة في الناس نسوها وهجروها، والفقر ينهى عن الفحشاء والمنكر أحيانًا، إلى أن عادت لميس، فأزّتْ لإحيائها خلفاء إبليس.
…
وعادت لعترها (لميسنا) في كل ما جرى من انتخابات في السنة الماضية، لما رأت المسلمين بدأوا يقدرون الانتخاب حق قدره، ويعرفون له قيمته، وبدأوا يتذوّقون معنى الديمقراطية التي أمات الاستعمار معناها الإسلامي في نفوسهم، فكدرت لهم شربها بتدخّلها العلني، وبما تستخدمه من وسائل الترغيب والترهيب، إلى أن كشفت في الانتخابات الأخيرة عن سرّها، وصرّحت عن شرّها، وكان ما كان، مما صدق الخبر فيه العيان.
إن الديمقراطية عند حكومة الجزائر كصلاة المنافقين، لا تزكي نفسًا، ولا تنهى عن فحشاء. وتفضلها صلاة المنافق بأن فيها من الصلاة مظهر الصلاة فإن الديمقراطية- عند الأمم التي تنتحلها وتزعمها لنفسها- تتجلّى في عدة مجالى أرفعها الانتخاب، فهو عندهم العنوان الواضح للحرية، والبرهان اللائح على إطلاق الإرادة، والميزان العادل لاختيار الشعب.
أما في الجزائر فالانتخابات، منذ سنّت، لعبة لاعب وسخرية ساخر، ورهينة استبداد؛ ولدت شوهاء ناقصة، وما زالت متراجعة ناكصة، وُضعت من أول يوم على أسوإ ما يعرف من التناقض، وأشنع ما يُعلم من التحكم والميز والعنصرية، وهو تمثيل الأكثرية في المجالس المنتخبة للأقلية من السكّان، والأقلية فيها للأكثرية منهم، قد كانت هذه الانتخابات شرًّا مستطيرًا على الأمة الجزائرية وأفتك سلاح رماها به الاستعمار، بعد أن نظر النظر البعيد، وكانت ضربة قاضية على ما كانت تصبو إليه وتستعدّ من وحدة الكلمة واجتماع الشمل،
فكلّما جهد المصلحون جهدهم في جمع كلمتها- وكادوا يفلحون- جاءت هذه الانتخابات فهدمت ما بنوا وتبرته تتبيرًا، كان هذا كله قبل أن تقف الحكومة مواقفها المعروفة في انتخابات السنة الماضية؛ أما بعد أن ظهرت بذلك المظهر، وسنّت للانتخابات الجزائرية دستورًا عنوانه "الحيف والسيف" وارتكبت فيها تلك الفضائح التي يندى لها الجبين خجلًا، والتي يأنف الفرد المستبدّ من ركوبها، فضلًا عن حكومة جمهورية في مظهرها، ديمقراطية في دعواها، فإن الانتخاب أصبح وبالًا على الأمة ووباءً، وذهب بالبقايا المدّخرة فيها من الأخلاق الصالحة هباءً، وأصبحت هذه الكراسي عاملًا قويًّا في إفساد الرجولة والعقيدة والدين، وإمراض العزائم والإرادات، وفيها من معاني الخمر أنّ من ذاقها أدمن، وفيها من آفات الميسر أنّ من جرّبها أمعن. وقد كنا نخشى آثارها في تفريق الشمل وتبديد المال، فأصبحنا نخشاها على الدين والفضيلة، فإن الحكومة اتخذت منها مقادة محكمة الفتل لضعفاء الإيمان ومرضى العقيدة وأسرى المطامع منّا، وما أكثرهم فينا، خصوصًا بعد أن أحدثت فيها هذه الأنواع التي تجرّ وراءها المرتبات الوافرة، والألقاب المغرية.
ليت شعري، إلى متى تتناحر الأحزاب على الانتخاب وقد رأوا بأعينهم ما رأوا؟ وعلامَ تصطرع الجماعات؟ وعلامَ تنفق الأموالُ في الدعايات والاجتماعات إذا كانت الحكومة خصمًا في القضية لا حكمًا؟ وكانت تعتمد في خصومتها على القوة وهي في يدها، وكانت ضامنة لنفسها الفوز في الخصومة قبل أن تنشب.
ويحٌ للأمة الجزائرية من الانتخاب، وويل للمفتونين به من يوم الحساب.
…
وعادت لعترها لميس في هذه الأيام، وكانت عودتها هذه المرة للمدارس العربية التي تديرها جمعية العلماء، فبعد أن سكتت عليها سنين اتّسق فيها سيرها وعاد إلى الأمة خيرها، عادت عليها في هذه الأيام بالتضييق والتعسير، وأخرجت ما كان مخبوءًا في جعبتها من القوانين والقرارات، وألقت بها في أيدي القضاة وحرسة الأمن ليرهقوا ويغلقوا ويحاكموا، كأن التعليم جريمة يترتب عليها العقاب، وكأن حبل الأمن اضطرب بسبب هذه المدارس ومعلّميها وأطفالها.
بدأت دعوة المعلّمين إلى المحاكم نَقَرى، ونحن نقدر أنها ستعمّ، وإن أول المطر قطر
…
وإن الأحكام ستكون بالغرامة فالسجن، ولكننا سندخل هذه المحاكم برؤوس مرفوعة، وسنتلقّى هذه الأحكام بنفوس مطمئنة بالإيمان، وسندخل السجون بأعين قريرة، وسنلتقي (بإخواننا) المجرمين في مجالس الأحكام ومقاعد الاتهام
…
وحسبنا شرفًا أن يكون
ذلك في سبيل ديننا ولغتنا، وحسبنا فخرًا أن تكون التهمة "فتح مدرسة دينية أو قرآنية بدون رخصة". وحسب الاستعمار (ديمقراطية) أن يحاكم معلّمي العربية والإسلام، ويسجنهم على التعليم كما يحاكم المجرمين ويسجنهم على الإجرام، في محكمة واحدة، وسجن واحد، وظرف واحد، وقد يكون يوم جمعة في الغالب، أليس هذا احترامًا للإسلام، ومن مصلحته كما يقول العاصمي؟ أليس هذه هي الديمقراطية؟ فما لكم تكذبون؟
ليبلغ الاستعمار ما هو بالغ في التضييق على ديننا ولغتنا والتصميم على هضم حقوقنا بهذه الوسائل التي منها العاصمي، فإن الإسلام حي خالد في داره، وإن العربية حية خالدة في جواره، لا يضيرهما تضييق، ولا يُبطئ سيرهما تعويق.
ولكن الذي يغيظ ويحنق هو هذه الدعوى العريضة الطويلة من الاستعمار في تثقيف الشعوب، وتعليم الأمم، وقطع دابر الأمية، وكيف تتفق هذه الدعوى منه مع أعماله التي تقاوم التعليم وتتنكّر له؟ وتنصر الأمية وتحميها، وتغذّي الجهل وتقوّيه، والتي تفضل عصا الشقيّ على قلم الكاتب، فتتساهل مع العصَى حتى تصير عصيًّا، وإن آذت وإن قتلت، وتحطم القلم لئلا يلد أقلامًا، وإن رشحت بالخير، وإن جرت بالنفع.
أليس معنى مقاومة التعليم نشر الأمية وتكاثر الأميين؛ لا يقتضي المنطق إلا هذا، ولا يفعل الاستعمار إلا هذا، لأن له مذهبًا في المحافظة على الأمية لئلا تزول، كمذهب العلماء في المحافظة على الحيات السامّة لئلا ينقطع نسلها.
كما أنّ الذي يُضحك ويبكي في آن واحد أن تجعل الحكومة من نظمها التي تطالبنا بها في مدارسنا، وتجازي المدارس على التقصير فيها بالتعطيل، استيفاء الشروط الصحية في المدرسة محافظة على صحة التلامذة، ومدارسنا- بحمد الله- مستكملة لهذه الشرائط، ولكن هؤلاء التلامذة حين تُغلق في وجوههم المدرسة فيهيمون في الشوارع فتفسد أخلاقهم، أو يأوون إلى مساكن رطبة فتعتلّ أبدانهم، لا تراهم الحكومة بعين الرحمة والعطف كما كانت ترعاهم وهم في المدرسة، كأن المحافظة على الصحة لا تكون حقًّا للطفل على الحكومة إلا إذا كان تلميذًا في مدرسة عربية، فإذا أغلقتها في وجهه فلا حق له في المحافظة على الصحة.
وما لهذه الحكومة لا تذكر المحافظة على الصحة إلا في سياق الحديث على مدارسنا، وأين هي من هذه الألوف المؤلفة التي تنام على الأرصفة في زمهرير الشتاء؟ أين هي من هذه العوالم من الأحياء الذين يسكنون القبور؟ أين هي من هذه المناظر المحزنة التي تقع عليها العين في قلب العاصمة وفي أرباضها؟ أوَادم يحفرون لسكناهم الغيران كالفيران، ينامون فيها هم وأطفالهم، فيفتك بهم السلّ ويغشاهم الموت من كل مكان، ولو أن طفلًا منهم خرج
من غاره ودخل مدرسة عربية لجاءت الحكومة تسعى وهي تخشى أن يصيبه سوء من عدم المحافظة على الصحة
…
أما الخطوة الأولى التي تخطوها الحكومة في حركتها الجديدة ضد المدارس، وتجعلها ذريعة للمحاكمة، فهي إلزام المعلّمين بطلب الرخصة بأسمائهم الخاصة، والحكومة هنا تتجاهل وجودَ جمعية العلماء- المسؤول الأول عن هذه المدارس- لمأرب في نفسها نحن نعرفه، وقد حاولنا إقناع المسؤولين من رجال الحكومة في المفاوضات الرسمية وفي الأحاديث الخاصة بأن طلب الرخصة الشخصية بالنسبة لحركة كحركتنا التعليمية لا يقبل ولا يعقل، لأن المعلّم ليس هو الذي يفتح المدرسة، وليس هو المسؤول عنها، وإنما المؤسّس للمدارس والمسؤول عنها الجمعيات المحلية، ومن ورائهن في المسؤولية جمعية العلماء، ونبسط لهم من الحجج ما يقنع المنصفين منهم فيقتنعون، فإذا جاء التنفيذ يمتنعون، لأن للاستعمار رأيًا أصيلًا في القضية، وقد كانت هذه النقطة إحدى النقط التي كانت سببًا في إخفاق المفاوضات، وما زلنا محتفظين فيها برأينا.
وسنشرحه حين ننشر نصوص القرارات، وخلاصة المفاوضات.