الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد اهتدى الإبراهيمي بفطرية الوطنية الأصيلة، وذوقه العربي السليم إلى أن التراكيب العربية النحوية ترفض إسناد فرنسا للإسلام في تركيبتها المقترحة، فلا تركيب الإسناد ولا التركيب الإضافي، ولا التركيب الوصفي ولا التركيب المزجي هنا بقادر على تأدية دوره الوظيفي.
يقول الإبراهيمي:
"في العربية تركيب الإسناد، والإسلام لا يرضى أن يسند إلى فرنسا الاستعمارية، ولا أن تسند هي إليه، وفي العربية التركيب الإضافي والإسلام لا يسمح أن يُضاف إلى فرنسا ولا أن تضاف هي إليه، وفي العربية التركيب المزجي، والإسلام وفرنسا كالزيت والماء لا يمتزجان إلا في لحظة التحريك العنيف، ثم يعود كل منهما إلى سنته من المباينة والمنافرة"[ص:350].
مقدمات نحوية سليمة، لنتائج منطقية سليمة، وتصوير بياني بارع يفضي في النهاية إلى هذه الحقيقة العقلية القائمة على البرهنَة العقلية، والتدليل التاريخي:"وفي الشرائع الاستعمارية الفرنسية بالجزائر مذهب كانوا يسمون جانبه التأثيري "الإدماج " وجانبه التأثري "الاندماج" ومعناه قريب من معنى التركيب المزجي، ولكن هذا المذهب التحق بالمذاهب البائدة التي ولدها العتو عن أمر الله والعُلو في أرض الله، فتلك آراؤه سخرية الساخر وأولئك رجاله لعنة الأول والآخر"[ص:350].
تصوير رائع وَرَبْطٌ محكم بين المقولات الفكرية كفرنسا والإسلام، والإدماج والاندماج، وبين المقدمات العقلية المستوحاة من القواعد النحوية، كالتركيب المزجي، والزيت والماء، والمعاني التاريخية، كالعتو، والعُلو، والمذاهب البائدة، والتناسخ
…
إلخ. وتلك هي عبقرية النص، في الخطاب الإبراهيمي من خلال الإبداع البياني.
3 -
العمق العرفاني:
وفي "عيون البصائر"، صور إِبداعية أُخرى، هي التي يجليها ما اصطلحنا على تسميته "بالعمق العرفاني".
وهذا اللون المعرفي عند الإبراهيمي، يمثل مزيجًا من أصول الفقه، وفقه اللغة، والتصوف، والفلسفة، مقرونًا بالفكر السياسي الجزائري، في محاولة للإفحام بالإلهام. فانظر إلى توظيفه للعبارات الفقهية الدينية في القضية المصيرية التي يمثل الاستعمار رأس مقدمتها:
"ولو أن الاستعمار كان فقيهًا في سنن الله في الأمم والطبائع لأنصف الأمم من نفسه، فاستراح وأراح، ولعلم أن عين المظلوم كعين الاستعمار كلتاهما يقظة"[ص:47] استدلال رائع في الربط بين فقه الاستعمار، وسنن الله في الأمم، وبين عين الاستعمار [الظالم] وعين المظلوم [المستعمَر] ووجه الشبه بينهما هي اليقظة مع البون الشاسع بين اليقظتين.
ولا أدلّ على ظلم الاستعمار الفرنسي بالذات من جمعه بين المتناقضات في تسلطه على الجزائر "حكومة لائكية في الظاهر مسيحية في الواقع، جمهورية على الورق، فردية في الحقيقة، تجمع يديها على دين المسلمين ودنياهم، وتتدخل حتى في كيفية دفن موتاهم"[ص:60].
وما ذلك كله إلا من وضع يدها على أوقاف المسلمين، وتعيين موظفين عملاء لها، تدير بهم شؤون المسلمين. لذلك لا نستغرب قسوة الخطاب الإبراهيمي وحدته في مخاطبة ووصف من كان عقبة في طريق تحرير أوقاف المسلمين، وخلاصهم من ربقة الاستعمار، ويركز الخطاب على "المفتي الحنفي" بالجزائر فيأتي الخطاب في شكل صاعقة. "ما زلنا نتتبع أخبار هذا الرجل منذ سنين، ونتوسم من حركاته أنه عامل نصب وخفض معًا، وأنه مهيأ من الحكومة لأن يكون "حلقة مفقودة" لقضية ما، في يوم ما"[ص:86] "وفي الإدارة الجزائرية العليا مطبخة- ليست كالمطابخ- تطبخ فيها الآراء والأفكار في كل ما دقّ وجلّ من شؤون المسلمين
…
وفي هذا المعمل صنع العاصمي [المفتي الحنفي] وامتحن فكشف الامتحان عن استيفاء الخصائص والصلاحيات للاستعمال، وأصبح موظفًا في إحدى هذه الوظائف وهي الإفتاء الحنفي بالجزائر، أي مفتي الجامع الحنفي بالجزائر، إذ لم يبق من الحنفية بالجزائر إلا جامع يحمل هذه النسبة
…
وإن وجود وظيفة مفتي حنفي في الجزائر تزوير على المذهب الحنفي، وأين العاصمي ومَنْ جرى مجراه من فقه أبي حنيفة ودقائقه وقياسه؛! " [ص:88].
وينتهي الخطاب الإبراهيمي بعد هذه المقدمات العرفانية الفقهية في التعريض بقضية الاستعمار للدين الإسلامي في الجزائر، إلى هذه النتيجة الخطيرة: "إن نسبة الحنفي تشترك في بني حنيفة وأبي حنيفة، فلينظر العاصمي [المفتي الحنفى] أشبه النسبتين به
…
وبنو حنيفة هم قوم مسيلمة الذين آووه ونصروه، ومن غرائب الشبه أن مسيلمة الحنفي كان تشويشًا على النبوة الحقة، وأن المفتي الحنفي كان تشويشًا على مطالب المسلمين الحقَّة" [ص:88].
إنها لبراعة في التخريج هذه التي يربط فيها بين قوم مسيلمة الكذاب في عصر إسلام النبوة وبين المفتي الحكومي العاصمي، في عصر إسلام الصحوة والفتوة .. وإن في ذلك لدلالة على سعة الثقافة العرفانية التي يتسم بها مؤلف "عيون البصائر" فيوظف مقولاتها في تاريخ الصراع الفكري والعقدي بين الظالمين والمظلومين.
إن هذه الثقافة الموسوعية العرفانية لدى الإمام الإبراهيمي، هي التي نجدها في امتداد القضية السالفة وهي قضية فصل الدين عن الحكومة أو فصل الحكومة عن الدين.
فمن العنوان ذاته يتخذ الخطاب الإبراهيمي مدخلًا للعرض والتحليل، فيأتي بتجليات عرفانية لا نعثر على مثلها في غير هذا الخطاب، يقول بهذا الخصوص:
"ولكننا نغير العنوان في هذه المرة أكان العنوان السابق: فصل الدين عن الحكومة، ونقول: فصل الحكومة عن الدين، قلبًا في الوضع لا في الموضوع، تفاؤلًا للحالة بعدم الاستبقاء كما يتفاءل بقلب الرداء في الاستسقاء، وإن بين التركيبين الإضافيين لفرقًا دقيقًا في لغتنا العربية، تخيله الفقهاء في بحث ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة، وحققه البيانيون في بحث: سلب العموم وعموم السلب .. فدين الإسلام في منزلته من النفوس، وفي منزلته من المعابد وفي مظهره من الأشخاص والمعاني، ثابت أصيل، لم يرد على شيء حتى يفصل عنه، وإنما وردت عليه هذه الحكومة ورود الغاصب الذي يحتل بالقوة لا بالحق"[ص:118].
أليس في هذه الاستعارة التمثيلية ما يُؤكد صحة ما ذهبنا إليه من قبل، وهو أن فاقد الثقافة الفقهية لا حَظَّ له في غوص أعماق الدلالة التي يرمي إليها الخطاب الإبراهيمي، فقلب الرداء في الاستسقاء، وورود الماء على النجاسة، وسلب العموم وعموم السلب، كلها مصطلحات ومفاهيم عرفانية لا يدركها إلا من كان له رصيد من الفقه، والبيان، والحياة الروحية الإسلامية.
ولو شئنا لأثبتنا من الأمثلة في هذا الباب ما لا يسمح به تقديم محدود الكلمات والصفحات، ولكننا لا نستطيع مهما حاولنا، مقاومة إيراد نموذج آخر للعمق العرفاني، في "عيون البصائر"، في محاولة منا لمساعدة القارئ والباحث على توجيه عقله- منهجيًا - نحو بعض الرموز المعرفية في هذا الخطاب، لنشجعه على الغوص أكثر في طريق الحفر والتنقيب عن الجواهر وما أكثرها ..
والمثال نأخذه من نفس الموضوع الطويل الحلقات، وهو موضوع فصل الحكومة عن الدين .. ونركز فيه على إحداث أوسمة ونياشين "تمنحها الحكومة الفرنسية للأئمة والمفتين".
يعالج الشيخ الإبراهيمي هذه القضية بأسلوبه العرفاني البليغ فيقدمها في هذه الصورة الفنية. "نجحت [الحكومة الفرنسية في الجزائر] بهذا الجند العاطل المرتزق الذي جندته واصطادته بشبكة المطامع، من الأئمة، والمفتين، والخطباء، والمؤذنين، والقَوَمَة، والحزابين، وأتباع "شريعة يوسف" أجمعين .. كوَّرتهم وصوَّرتهم، ونقَّحتهم، وحوَّرَتْهُم، وعلى المنوال الحكومي دوَّرتهم، حتى أصبحوا جزءً أصيلاً من الأدوات الحكومية".
"ومن المضحكات أو المبكيات في هذا الباب .. باب إدماج شيء في شيء غريب عنه، واعتبارهما شيئًا واحدًا .. إنعام الحكومة بنياشينها على أصحاب الوظائف الدينية"[ص:122].