الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تقريظ فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود حفظه الله تعالى
الحمد لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أَشرف الأَنبياء والمُرسلين، نَبيِّنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه أَجمعين.
وبعدُ:
فإنَّ من أَعظَم ما ابتُلي به أَصحابُ البدعِ وَمن تأثَّر بهم = مُعارضةَ الوحي بالعَقل، حتَّى تحوَّل العَقلُ عند بعضهم إلى طاغوتٍ يُحكَم به وَيُتحاكُم إليه عند الاختلاف والتَّنازعِ، فَرُدَّت به نُصوصٌ من أَساسِها ولم تُقبل، وأُوِّلت نُصوصٌ أُخرى تأويلاتٍ باردةً حِينًا؛ وشاطحة أَحيانًا، وكُلُّ طائفةٍ جَعَلت أُصولَها العَقديَّة أَمرًا مُحكمًا لا يقبل تأْويلًا، ثُمَّ لجأت إلى العَقل تعمل به النُّصوص التي تُخالف عقيدتها ومِنْهَاجها.
والسَّلف رحمهم الله وعلى رأسهم الصَّحابة رضي الله عنهم كانوا أَعلمَ النَّاس بنصوص الوحي، وكانوا أَكمل النَّاس فُهومًا وعُقُولًا، فجاء مَذهبهم ومَنْهجهم وَاضحًا مُحْكَمًا، متآلِفًا مُجتمعًا، لا تَباين فيه ولا اختلاف، ولا مُصادمة لنصٍّ صحيحٍ ولا لعقل صريح، معَالم الهدي والنُّور عليه بادية، وسِماتُ الحقِّ والقوَّة فيه ظاهرة. وكيف لا يكون
كذلك ومصدُرهم الوحي المُبين الواضح المُستبين {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وأولئك الذين تحاكموا إلى العقل المُجرَّد، وجعلوه أَصلًا، وردُّوا به نُصوصَ الكتاب والسُّنَّة الصحيحة = وقعوا في الزَّيغ والتخبُّط والضَّلال.
وردُّ النُّصوص بحدِّ ذاته زيغٌ وضلالٌ وهوى وفتنة = لا يكادُ يَسلمُ منه أَحدٌ من أَهل الأَهواء. وهم في ذلك في أَمر مَريج، وتخبُّط واضطراب، رُبَّما تَسْتبين ملامحُه من خلال أُمُور ثلاثة:
أَوَّلها: أَنَّهم جعلوا العقلَ كائنًا مُستقلًّا في مُقابل نُصوص الوحي، فصارت القِسْمةُ عندهم الاستدلال إمَّا:
1 -
بنصوص السمع.
2 -
أو بالعقل.
ولكُلٍّ منهما كيانه المُستقِل، فأصبح السمع مُجرَّد التَّلقِّي والرِّواية بلا فَهمٍ، ولا عَقل، ولا مَعنى أَحيانًا. كما أَصبح العقلُ لا حاجة له إلى
سَمعٍ يُرشده ويدله ويَهديه. ثُمَّ أتبعوا ذلك أَن فَسُّروا مَذهب السَّلف الصَّالح، بأنَّ عِمادَه السَّمع فقط وأَنَّهم يُلغون العقلَ = وهذا كَذِبٌ عليهم وعلى نُصوص الكتاب والسُّنَّة، حيثُ جاءت بالدَّلائل العقليَّة والأمثلة المضروبة، وهكذا كان مَنهجُ السَّلف، جَمعَ النصوص وفَهمَها، وتَفْسيرَها التَّفسير الصحيح، ومَن تأمَّل أُصولَهم العقديَّة، ومِنهاجهم في تفسير القرآن الكريم وعُلومهم في تَلقِّي السُّنَّة روايةً ودرايةً، وقواعدهم في الاستدلال للأحكام الشَّرعيَّة = رأى عَجبًا، أَنَّي يُقارن به سفسطاتُ وقَرْمطاتُ أَهل الأَهواء.
الثَّاني: أَنَّ كُلَّ طائفة من أَهل الأَهواء جَعلت لها عَقلًا خاصًّا بها، له سِمات وأُصولٌ مُحْكَمة، فليس العقلُ عندها هو الغريزةَ التي خَلقها الله
في بني الإنسان وبها تميَّزوا عن الحيوان، ولا المبادئ الضروريَّة التي عَرَّفوا بها العقل - وهي لا تُسْمن ولا تُغني من جوع - كالقول بأَنَّ الكُلَّ أَكبر من الجزء، وأَنَّ الواحدَ نِصف الاثنين ونحوها ممَّا يَشْترك في تَعقُّلِهِ بنو آدم جميعهم = وإنَّما العقل عند كُلِّ طائفةٍ أَمر خاص، له قواعد وله أُسس عَقديَّة وَمنهجيَّة اعتقدوها أَولًا، ثُمَّ صارت عندهم هي الأَصل العقلي المحكم الذي يُحكم به على نصوص الوحي؛ فإمَّا أَن يَقبلوها أَو يَردُّوها.
فأَصبح على هذا المعنى هناك عقولٌ عديدةٌ بعدد أَهل الأَهواء، فلكُلٍّ من الفلاسفة، والجهميَّة، والمعتزلة، والمرجئة، والقدريَّة، والصوفيَّة، والرَّافضة، وغيرهم عَقْلٌ جعلوه أَصلًا يُقدِّمونه على النُّصوص. بل كُلُّ طائفةٍ انقسمت إلى عقول مختلفة؛ فالفلاسفة مَدَارس عقليَّة مختلفة ومتباينة، وكذا المعتزلة وغيرهم.
فالسؤال الكبير هنا: أي عَقل من هذه العقول يجبُ أن يكون الأَصل الَّذي تعتمده الأمَّةُ، وتتعامل به مع النُّصوص؟ خاصَّةً إذا ضَممنا إلى ذلك الأَمر الثَّالث:
الثالث: أَنَّ كُلَّ طائفةٍ من طوائف أَهل الأَهواء والبدع تنقض أَقوال الطَّائفة الأُخرى عَقليًّا؛ فالفلاسِفُة يَرون عقول أَهل الكلام فاسدة، والجهميَّة يرون عقول المعتزلة خاصَّةً في الإيمان والقدر = عقولًا فاسِدة، والمعتزلة يرون عقول كافَّة مُخالفيهم من الطوائف فاسدة. وهكذا.
وإنما لم أَذكر أَهل السُّنَّة والجماعة؛ لأنَّ كافَّة طوائف أَهل البدعِ يرون عقولهم فاسدة، أَو يرونهم بلا عقول، وما هم مع أَهل السُّنَّة إِلَّا كما جاء في المَثَل:(رَمتني بدائها وانسلَّت) حيث إنَّهم لمَّا رأَوا تناقضهم، وتهافت عقولهم، في مقابل من تَنوَّروا بالوحي المبين، ووجدوا أَنفسهم - في مقابل نصوص الكتاب والسُّنَّة التي جاءت بالمعاني
الصحيحة والدَّلائل العقليَّة الصريحة - كمَنْ لا عقل له = رَمَوا أَهل السُّنَّة والسَّلف الصالح بذلك.
وفي عَصرنا الحاضر أُضيف إلى أُصول أَهل البدع السَّابقة التي عَرَفها العلماء وتتبَّعوها وردُّوها، وبينوا فَسادها = بدعةٌ جديدةٌ، وتأَصيلٌ جديد، جعلوه حاكمًا على نصوص الوحي كلِّها: شريعةً، وعقيدةً، وأَحكامًا؛ أَعني به = الفكر الغربي المعاصر، وأَصوله العقديَّة والفكريَّة والثَّقافيَّة.
فمنذ ما يَقربُ من قرن إلى يومنا هذا - ولا تزداد الهُوَّة إِلَّا اتِّساعًا -؛ تحوَّلت الحضارةُ الغَرْبيَّةُ: بعقيدتها، وفِكرها، وممارساتها = إِلهًا عَقليًّا، وطاغوتًا يعبد من دون الله ويُتَحاكَم إليه عند الاختلاف والتَّنازع.
وابتُلي بهذا الطَّاغوت جماعاتٌ، وفئاتٌ، وأَفرادٌ. بل دول، ولستُ بصدد الحديث عن الولاء السِّياسي، والتبعيَّة الشَّاملة للغرب الصَّليبي فهو يطول = ولكن أُشيرُ إلى الجانب العقدي والفكري منه، حيثُ أَصبح لدى كثيرين - وقد ينخرطُ في ذلك - وللأَسف - بعضُ المُنْتسبين إلى العلم الشَّرعي، والدَّعوة إلى الله والإصلاح في الأُمَّة - ميزانٌ يزنون به الحقَّ والباطل، والمقبول والمرفوض، والرُّقي والتَّخلُّف. بل والسعادة والشَّقاء!: وهو ميزان الحضارة الغربيَّة، فهو الميزان الوحيد في عالم اليوم وحضاراته، وهو المرجع، وبه يُقاسُ تقدُّم الأُمَم وتأخُرها، فتحولت الحال إلى تبعيَّة فكريَّة تُسهِّل فرضَها ونَشرَها = عولمةٌ طاغيةٌ: سياسيةٌ، وعَسْكريَّةٌ، واقتصاديَّة، وتقنيَّة، وثقافيَّة، وأَخلاقيَّة.
والطَّامةُ الكبرى لمَّا تحوَّل هؤلاء المُعجبون بهذا الطَّاغوت إلى نصوص الوحي من الكتاب والسُّنَّة الصحيحة التي تَتَناقض مع عقيدة تلك الحضارة وأُصُولها، ونظامِ حياتها، فجعلوا الأَصل العَقلي هو حضارة
الغرب ومبادئها، فقابلوا به نصوص الوحي، فأَعملوا فيها التحريف والتَّأَويل، والرَّدَّ والتنقيص، والقولَ بزمانيَّةِ وتاريخانيَّةِ النُّصوص، وأَنَّها قد انتهت صلاحيتُها من قرون!
وهكذا رأَينا سَيلًا جَارفًا من الكتب والمقالات التي تنحى منحًى علمانيًّا أَو عقلانيًّا عصرانيًّا، أَو إعجابًا بالغرب وتَهوينًا من شأَن المُسلمين، قد اتخذت من نصوص القرآن الكريم ومن أَحاديث السُّنَّة النبويَّة، وأَحكام الشَّريعة الإسلاميَّة = مرتعًا فِكريًّا تَلَغُ فيه بفكرها المُؤسَّس على عقليَّة الغرب الصَّليبي، فتردُّ النصوص من القرآن والسُّنَّة، أَو تتأَوَّلُها بما يتوافق مع متطلَّبات ثقافة الغرب وأُصوله العلمانيَّة.
ولا شكَّ أَنَّ هؤلاء على درجات في الانحراف ولكن يَجمعُهم تقديمُ العقل الغربي المُقدَّس عندهم على أَحكام الشَّريعة والوحي المُنزَّل من عند رب العالمين.
هذِهِ خواطرُ كَتبتُها وأَنا أُقدِّمُ لهذا السِّفر النَّفيس الَّذي كتبه الأَخُ الفاضل عيسي بن محسن النُّعمي، والذي قدَّمه لجامعة أُمِّ القرى لنيل درجة الماجستير في العقيدة، وكان بعنوان:
"دفع دعوى المعارض العقلي عن الأَحاديث المُتعلِّقة بمسائل الاعتقاد - دراسة لما في الصحيحين".
وقد اشتمل هذا البحث - إضافةً إلى المُقدِّمات التأْصيليَّة المهمَّة، والمباحث المنهجيَّة التي لا بُدَّ منها في مثل هذه الدِّراسات - على الموضوعات التَّالية:
- الأَحاديث المُتعلِّقة بالتوحيد والإيمان.
- والأَحاديث المُتعلِّقة بالنبوَّة والأَنبياء.
- والأَحاديث المُتعلِّقة بأَشراط الساعة واليوم الآخر.
- والأَحاديث المُتعلِّقة بالقدر.
- والأَحاديث المُتعلِّقة بالغيبيات.
ويستثنى من مسائل الاعتقاد = أَبوابُ توحيد الرُّبوبيَّة وتوحيد الأَسماء والصِّفات، حيثُ سُجِّلت في رسالة علميَّة مُستقلَّة.
وقد قرأتُ هذه الرِّسالة التي قدَّمها أَخونا عيسى النُّعمي = فأَلفيتُها لونًا راقيًا وعَميقًا من البحث والمناقشة: لغةً، وأُسْلوبًا، وتَوثيقًا، وإنصافًا، مع أَنَّ الموضوعَ مُنازلاتٌ علميَّة فيها الأَخذُ والرَّدُّ، والطَّعنُ والصَّدُّ، وإثارة الشُّبهات وجوابُها، وتقديم العقول القاصرة على نصوص السُّنَّة وحقائِقها، مع تنوُّع الخصوم في أُصولهم العقديَّة ومنطلقاتهم في ردِّ بعض نُصوص السُّنَّة، حيث لم يكونوا مدرسة فكريَّة واحدةً.
والذي يُميِّزُ هذه الرسالةَ المَتِينَةَ = أُمُورٌ:
1 -
وضوح الرُّؤيةِ عند الباحث، وصلابتُهُ في الحقِّ - هكذا نحسبُهُ ولا نُزكِّي على الله أَحدًا - حيث جاءت الرِّسالةُ على وتيرةٍ واحدةٍ، وانسجام جيِّد، أَبعد عنها التردُّد والاضطراب الَّذي قد يعتري بعضَ الباحثين؛ خاصَّةً حين يكون البحث يقتضي صولات وجولات مع خصوم فيهم الغلاظ العُتاة.
2 -
كون موضوع الدِّراسة المُتعلِّقة بالمعارضة العقليَّة للسُّنَّة = خاصًّا بالصحيحين، حيث تَبدو الأَهميَّة من وجوه:
أَحدُها: هيبة الصحيحين، ومكانتهما في النُّفوس عند كافَّة المسلمين، فالطعن فيهما ليس كالطَّعن في غيرهما، وإذا كان هذان الكتابان الجليلان قد جاوزا القنطرة وتلقَّتهما الأُمَّة بالقبول، فلا يطعن فيهما رواية أَو دراية = إِلَّا مكابرٌ أَو خصم للإسلام لدود.
الثَّاني: أَنَّ الطعنَ في أَحاديث الصحيحين أَو بعضها = سُلَّمٌ للطَّعنِ في غَيرِها مِن كُتُب السُّنَّة.
بل يجعل الطَّعن فيما دونها أَهونَ وأَسهلَ. وقد أَدرك ذلك الأَعداء
وأَذنابهم من أَهل البدع والانحراف الفكري، فسلطوا طعونَهم وشبهاتهم أَولًا على صحيح البخاري، وغرضهم واضحٌ مكشوف.
فالدِّفاع عن صحيح البخاري وصحيح مسلم؛ هو دفاعٌ عن سُنَّةِ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كلِّها.
الثالث: الدُّخول في مُناقشة الشُّبهة والمعارضة العقليَّة مباشرة، دون الحاجة إلى الدِّراسة الحديثية للحديث رواية، والكلام على إسنادها، وشواهدها، ومتابعاتها. ونحو ذلك ممَّا قد يدخل بعضه في تعدد وجهات النظر تصحيحًا أَو تضعيفًا.
ولا شكَّ أَنَّ دراسة السُّنَّة روايةً والمنافحةَ عنها، وتمييزَ ثابتِها من مَرْدودِها = جِهادٌ وأَيُّ جهاد.
ولكن حين يكون الحديثُ في الصحيحين أَو أَحدهما يكون البحث قد جاوز مرحلة الثبوت إلى مرحلة الكلام على الحديث دِراية وشَرْحًا، وهو مجال البحثِ والمُناقَشةِ ومُقارعة الخصومِ الطَّاعنين في السُّنَّة بعقولهم القاصِرةِ.
3 -
البحثُ إضافةٌ مَنْهجيَّة في مواجهة المدِّ العصراني العقلاني، الَّذي يتَّخِذ من أَصول أَهل البدع والأَهواء مُنطلقًا في نقض أَو تحريف قضايا العقيدة ومَسَائلها التي قرَّرها أَئمة السَّلف رحمهم الله تعالي - وَتَبْرُز هذه الإضافة في جانبينِ:
أَحدهما: تهافتُ شُبَهِ الخصوم، وتناقضُهم، وكم من شُبهةٍ تبدو لأَولِ وهلةٍ كبيرةً شديدةَ الوقع على النَّفْس، ثُمَّ إذا بها مع الرَّد والنَّقض والمُناقشَةِ = تَصْغُر وتضمحِل، بحيثُ لا يزيد ذلك الحق إِلَّا رُسوخًا ووضُوحًا.
والآخر: إعادة الثِّقةِ بالمنهج الصحيح في أُصوله وَمَناهجه، وأَنَّ بقيَّةَ الشُّبهات التي قد يقرؤها الإنسان أَو يَسْمَعُها؛ هي من هذا النَّوعِ
الَّذي بان زَيْفُهُ في مثل هذه المباحث والمناقشات التي اشتملت عليها هذه الرِّسالة النَّافعة.
وإنِّي لأَدعو القارئ والمُطَّلعَ إلى مُتابعة قراءة هذه الرِّسالة، والوقوف أَمام عدد من المعارضات العقليَّة وجُرأَة أَصحابها، ثُمَّ كيفَ جاء الجَواب والرَّدُّ بأُسلوبٍ علميٍّ هادئ ومُنْصِف.
جزى الله الباحث ومن أَشرف عليه خيرَ الجزاء، وَرزقنا جميعًا الاستقامة والثَّبات، وأَعاذنا من الأَهواء والبِدَعِ والتَّقلُّبات.
وصلَّى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسْليمًا كثيرًا.
وكتبه عبد الرحمن الصالح المحمود
الرياض 16/ 11 / 1430 ه