الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: سوق دعوى المعارض العقلي على الأَحاديث المتعلقة بحقيقة الإِيمان:
جماع شبهتهم التي كانت الأصل والمستند في مخالفتهم =يعود إلى أَصلين:
الأوّل: دعوى استنادهم للضَّرورة العقليَّة المانعةِ من (الجمع بين النقيضين) وعليها انبنى القولُ بامتناع التفاوت في الحقيقة الشرعيَّة للإيمان.
الثاني: استنادهم إلى الحدِّ المنطقي.
فأما دعواهم استحالة "الجمع بين النقيضين" فهذه الضرورة العقلية عندهم انبنى عليها القول: بامتناع التفاوت في الحقيقة الشرعية للإيمان، إذا تأملت رأيتها حقا في الأصل؛ لأنَّ من بدايه العقول امتناع اجتماع النقيضين، وكذا ارتفاعهما، لكن الشأن في تحقق هذه القضيّة على مسألة تفاوت الإيمان، وهذا مالم يتحقق عند المُخالفين مَناطه، فهذه المقدّمة المُسلم بها لا تتصل بحال بالنتيجة التي ذهبوا إليها، توضيح ذلك أَنَّ القولَ بوقوع التفاوت في حقيقة الإيمان يلزم عندهم، الجمع بين النقيضين ومقصودهم بالنقيضين هنا اجتماع شعب الإيمان وشعب الكفر في الشخص الواحد، وهذا ممتنع عندهم، بناءً على أن التقابل بين الإيمان والكفر هو من باب التقابل بين السلب والإِيجاب فاستنادًا لهذه الضرورة العقلية أحالت الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة وقوعَ التفاوت في الإيمان.
فالخوارج التزمت بهذا الأصل فكفروا مرتكب الكبيرة وذلك لقولهم بدخول العمل في الإيمان مع التزامهم بدعوى استحالة التفاوت = فكانت النتيجة الطبعيَّة لذلك: أن سلبوا الإيمان عن صاحب الكبيرة، وأَثبتوا له ضده وهو الكفر؛ لأنه لا واسطة بين الإيمان والكفر.
وقد نقل أبو الحسن الأشعري إجماعهم على أن كل كبيرة كفر إلاّ طائفة النَّجْدات فيما ذكره عنهم أبو الحسن الأشعري
(1)
، ولكن المتأمل فيما أورده الأشعري بعدُ حين بسطه لمقالات فرق الخوارج، فإنّه ذكر مقالة للنجدات يتبين منها موقفهم من مرتكب الكبيرة، يقول أبو الحسن الأشعري (وزعموا أنَّ من نظر نظرة صغيرة، أو كذب كذبة صغيرة ثم أصرّ عليها فهو مشرك، وإن من زنى وسرق وشرب الخمر غير مصر فهو مسلم)
(2)
فما ساقه الإمام أبو الحسن رحمه الله عنهم يتجلى فيه أمران:
الأول: أنهم يوافقون عامة الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة إذا أصرّ، فهم وإن خالفوهم في كون مجرد المقارفة توجب الكفر، إلا أنهم مجمعون جميعًا على أن الإصرار على الكبيرة يعد كفرًا فخلافهم حينئذ يؤول إلى وفاق.
الثاني: أنهم فاقوا بَقيَّة الخوارج في الضلالة حيث جعلوا مجرد الإصرار على الصغيرة توجب خروج صاحبها من الإيمان إلى الكفر = وعلى هذا فكأن جميع فرق الخوارج تصير إلى تكفير مرتكب الكبيرة. والخلاف في ذلك صُورِيٌّ فيما يظهر
(3)
.
ولم يكن مكمن ضلالهم هو إِدخالهم العمل في مسمى الإيمان، فإن هذا ما نطقت به الدلائل الشرعية وهو الحق الذي لا مرية فيه =وإنَّما سبب خطأهم استنادهم مع قولهم بدخول العمل في الإيمان إلى دعوى استحالة التفاوت، وهي دعوى باطلة -كما سيأتي بيان ذلك بحول الله-.
(1)
انظر: "مقالات الإسلاميين"لأَبي الحسن الأَشعري (86)
(2)
"المصدر السَّابق"(91) وانظر: "الملل والنحل" للشهرستاني (142 - 143)
(3)
انظر: "أصول المخالفين"(135)
ثمَّ لما نَبَغت المعتزلةُ بعد ظهور فرقة الخوارج، استظهرت صحة ذاك الأصل الذي استندت إليه الخوارج في نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة -وهو دعوى استحالة التفاوت في الحقيقة الشرعية للإيمان- لكنّها أرادت لمَّا رأت تنادي أهلِ السُّنَّة فيما بينهم بإنكار بدعة الخوارج، والتشنيع عليهم، ومخالفتهم للضرورة الشرعية المستقرة بدلائل الكتاب والسُّنة، والإجماع على عدم تكفير مرتكب الكبيرة، ورأت أَيضًا مخالفتهم للضرورةِ العقلية من مساواتهم بين المستحق للعذاب الأليم
وهو الكافر، وبين من هو دون ذلك وهو مرتكب الكبيرة عندهم
(1)
= أرادت الجمع بين الضرورتين: العقلية التي تقضي باستحالة التفاوت و الضرورةِ الشَّرعيةِ التى تدل على عدم استحقاق مرتكب الكبيرة لاسم الكفر، فتكايست لذلك لكنَّها في الوقت ذاته تناقضت من حيثُ أَرادت الفرار من التناقض، وابتدعت القول (بالمنزلة بين المنزلتين) والتي حقيقتها نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة وفي الوقت ذاته عدم تكفيره والذهاب إلى إطلاق اسم ديانة عليه، وهي"الفسق".
وقد حكى قولَهم أَحدُ أعلامهم، وهو الجاحظ حيث قال: (قالت المعتزلة: هو فاسِق
(2)
كما سمَّاه نصًّا، ولا نُسمِّيه كافرًا، فيلزمنا أن نلزمه أحكام الكُفَّار، وليس ذلك حُكمَه، ولا نقول: مؤمن، فيلزمنا ولايته ومدحه، وإيجاب الثواب له، وقد أخبرنا الله أنَّه مشؤوم من أهل النَّار، فنزعم أنّه في النار مع الكافر، وأنّه لا يجوز أَن يكون في الجنَّة مع المؤمن)
(3)
وقال القاضي عبدالجبار: (
…
صاحب الكبيرة له اسم بين
(1)
انظر: "شرح الأصول الخمسة" للقاضي عبد الجبار الهمداني (712)
(2)
أي: مرتكب الكبيرة
(3)
"رسالة الحكمين"للجاحظ (380 - ضمن الرسائل السِّياسية)
اسمين، وحكم بين حكمين، لا يكون اسمه اسم الكافر ولا اسمه اسم المؤمن، وإنما يُسمى فاسقًا، وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر، ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث، وهذا الحكم الذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بـ"المنزلة بين المنزلتين")
(1)
فإن قيل: ما وجه التمايز بين قول أهل السُّنة والجماعة وقول المعتزلة مع كونهم اتَّفقوا على دخول العمل في مُسَمَّى الإيمان، وامتنعوا من تسمية مرتكب الكبيرة كافرًا.
فيقال: حقيقة الفرق بين أهل السنة والمعتزلة يظهر في أربعة أمور:
الأول: أن أهل السنة وإن جعلوا العمل ركنًا في الإيمان فهذا الاعتبار إنما هو باعتبار جنسه لا باعتبار آحاده.
وبيان ذلك: أَنَّ جِنسَ العملِ-وهو جملة الالتزام بالشَّريعة- عند أهل السنة ركنٌ في الإيمان، وأما آحاده فمنها ما لا يتحقق أصل الإيمان إلا به، ومنها ما هو من كماله، ففوات بعض الآحاد المحققة لأصله يقتضي انتفاء الإيمان بخلاف الآحاد المقتضية لتحقيق كماله الواجب أو المستحب فإنه لا يقتضي انتفاؤها كما دلت عليه النصوص =انتفاء الإيمان جملة
(2)
.
لذا فهم مُجْمِعون على جواز اجتماع شعب إيمان وشعب كفر في الشخص الواحد، باعتبار أن شعب الكفر متفاوتة، كما أن شعب الإيمان متفاوتة، فالذي يمكن أن يجتمع مع أصل الإيمان، ولا ينافيه هي شعب الكفر الأصغر والتي تنافي كمال الإيمان الواجب لا أصله، وهذا الذي دلت عليه النصوص وقام عليه الإجماع وسيأتي بيان ذلك.
(1)
"شرح الأصول الخمسة"(697)
(2)
انظر: " فتح الباري" لابن رجب الحنبلي (1/ 20 - 25)
فالوعيدية جعلوا الطَّاعاتِ بجملتِها ركنًا في الإيمان ولم يُفرِّقوا بين ما ينتفي به أصلُ الإيمان من آحاد العمل، وبين ما لا ينتفي، وجعلوا الإخلال بها جميعًا موجبًا لسلب الإيمان منه.
ومن العجيب أن كثيرًا ممن تعرض لبيان موقف السلف من الأعمال لم يُصب مرمى السَّدادِ في فهم مَرامِي كلامهم رحمهم الله فظنَّ أنَّ الفارقَ بين السلف و الوعيديةِ مع اعتبار كلٍ منهما للعمل بأنه من الإيمان = أنَّ السَّلفَ يجعلون العمل شرطَ كمالٍ لا ينتفي الإيمان بانتفائه، بخلاف الوعيدية فإنهم يجعلونه شرط صحة ينتقض الإيمان بفواته.
وهذا غلط على مذهب السلف رحمهم الله وبُعْدٌ منهم في توجيه مرادهم، وهذا تجده عند بعض شرّاح الحديث كابن حجر
(1)
، والطيبي
(2)
.
الثاني: أَنَّ المعتزلةَ ينفون وصف الإسلامِ عن مرتكب الكبيرة، وأهل السنة لا ينفون عنه هذا الوصفَ.
الثالث: أن المعتزلة يقولون بتخليده في النَّار = وأهل السنة ينكرون ذلك ويُبْطلونه.
الرَّابع: أنَّ المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، يجعلون صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان يخرج به من النار. وأهل السنة لا يسلبونه مطلق الإيمان بل يسلبونه الإيمان المطلق الذي رتَّب اللهُ تعالى عليه المدحَ والثَّناءَ، ودخولَ الجَنَّةِ ابتداءًا
(3)
.
(1)
انظر: "فتح الباري"لابن حجر (1/ 64)
(2)
"الكاشف عن حقائق السُّنن"للطيبي (1/ 102) وانظر: " أصول الدين"للبزدوي (149)
(3)
انظر: "جامع المسائل" لابن تيمية (242 - المجموعة الخامسة)
أما المرجئة بشتى فرقها، فإنَّها ذهبت هي أَيضًا إلى سلامة الأصل الذي استند إليه كل من الخوارج والمعتزلة، وهو استحالة التفاوت في حقيقة الإيمان بناء على استحالة الجمع بين النقيضين - ورأت أيضًا أنّ ما لتزمت به كلتا الطَّائفتين مخالف للدلائل الشرعية الدَّالة على ثبوت وصف الإيمان لمرتكب الكبيرة= دعاها ذلك إلى إخراج العمل من مسمى "الإيمان" ظنًّا منها أنَّ سبب ضلال تلك الفرقتين هو إدخالهما العمل في حقيقة الإيمان. ولم توفّق إلى معرفة أنَّ سبب الضلال عند التحقيق =هو التزامهم جميعًا بتلك الشُّبهة التي تفرعت عنها جميع تلك اللوازم الفاسدة.
وقد بيَّن شيخ الإسلام ذلك الأصل الذي كان سببًا لنشوء تلك الضلالات، وكشف عن تلك اللوازم بقوله: (وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوراج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية وغيرهم =أنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا إذا زال بعضه زال جميعًا، وإذا ثبتَ بعضه ثبت جميعُهُ فلم يقولوا بذهاب بعض وبقاء بعضه
…
ثم قالت " الخوارج والمعتزلة " الطَّاعات كلها من الإيمان فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان فذهب سائره = فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان.
وقالت المرجئة والجهمية
(1)
: ليس الإيمان إلا شيئًا واحدًا لا يتبعض إمَّا مجرّدُ تصديقِ القَلْب كقول الجهمية، أَو تصديق القلب واللِّسان كقول المرجئة، قالوا: لأنَّا إذا أدخلنا فيه الأعمال صارت جزءًا منه، فإذا ذهبت بعضه؛ فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول
(1)
إفراد شيخ الإسلام للجهميةوعطفه لها على المرجئة كل ذلك لبيان فساد قول هذه الفرقة بخصوصها وأنها أشد ضلالا من بقية فرق المرجئة =فهو من باب عطف الخاص على العام بيانًا لفساد مقالات هذه الفرقة
المعتزلة والخوارج، لكن قد يكون له لوازم ودلائل فيُستدل بعدمه على عدمه)
(1)
فتلك الشُّبهة قد جمعت تلك الفرق التي خالفت أهل السنة والجماعة، وإن اختلفوا في بيان حقيقة الإيمان عند كل منها سواء، من جعل هذه الحقيقة خصلةً واحدةً: وهم المرجئة، أَو جعلها حقيقة مركبةً -وهم الوعيدية- = فهم متفقون على التزام ذاك الأصل وهو دعوى استحالة التفاوت والتبعض في الإيمان.
فمن جعلها خصلة واحدةً: جعل قبول التفاوت فيه يستلزم ذهابه بذهاب بعضه واضمحلاله، ذلك لأَنَّ القولَ بنقصِ الإيمان يلزم منه أَن يخلفه نقيضه وهو الكفر فيقوم بالعبد كُفر وإيمان وهذا ممتنعٌ؛ لأَنَّه من باب اجتماع النقيض مع نقيضه في شَخْصٍ واحد، لذا امتنع القول بإمكان التفاوت.
ومن جعل الإيمانَ من المخالفين حقيقةً مركبةً من اعتقادٍ، وقول، وعمل
…
-وهذا قول الخوارج والمعتزلة - = جعلَ حلول النقص في هذه الحقيقة المركبة يلزم منه انعدام هذه الحقيقة وزوالها، وشبهتهم في ذلك: أنَّ الحقيقة المُركبةَ تزول بزوال بعض أجزائها، وضربوا على ذلك مثالًا بـ (العشرة) فإنّه إذا زال بعضها لم تبقَ عشرة.
فإذا كان الإيمانُ حقيقةً مركبةً من أَقوالٍ وأعمال ظاهرة وباطنة= لزم بزوال البعض زوال جميع هذه الحقيقة إذ لو فُرض وقوع النقص في هذه الحقيقة مع بقائها، وعدم زوالها لانبنى على ذلك أن يجتمعَ في الشَّخصِ إيمانٌ وكفرٌ، وتوحيدٌ وشرك. وهذا خلاف الضَّرورة العقليَّة بزعمهم.
(1)
"مجموع الفتاوى" للإمام ابن تيمية (7\ 510 - 511) وانظر: كذلك له: "الإيمان الكبير"(176) و"شرح العقيدة الأصفهانية"(2\ 574)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية مُبيِّنًا حقيقة هذه الشُّبهة: (وجماع شبهتهم في ذلك أنَّ الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أَجزائها كالعشرة فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة وكذلك الأَجسام المركبةُ كالسَّكنجبين
(1)
إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجبينًا.
قالوا: فإذا كان الإيمان مركبًا من أَقوالٍ وأَعمالٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ لزمَ زواله بزوال بعضها. وهذا قول الخوارج والمعتزلة، قالوا: ولأنه يلزم أن يكون الرجل مؤمنًا بما فيه من الإيمان، كافرًا بما فيه من الكفرِ فيقوم به كفر وإيمان، وادَّعوا أَنَّ هذا خلاف الإجماع
…
)
(2)
وأمَّا المرجئةُ فقد خالفوا الوعيديةَ في نفي الإيمانِ عن مرتكب الكبيرة فأثبتوا الإيمانَ له لكنَّهم أَخرجوا العملَ عن مُسمى الإيمان بناءً على استحالة التفاوت في مسمى الإيمان؛ إذ إدخال العمل في الإيمان يقضي بانتقاضِ الإيمانِ بالكلية بمجرد حصول النقص فيه.
والعجيب: اتفاق الطائفتين- أعني الوعيدية والمرجئة - على رَمي أهل السنة والجماعة بالتناقُض فيما ذهبوا إليه من جمعهم بين كون الإيمان حقيقة مركبة، وأنّه مع ذلك يقبل التفاوت فرأت تلك الطائفتان ماذهب إليه أهل السنة والجماعة مخالفةً منهم للضرورة العقلية، وضَربًا من ضروب التناقض.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكان كلٌ من الطَّائفتين يَعدُّ السَّلفَ والجماعة وأهل الحديث =متناقضين حيث قالوا: الإيمان قول وعمل، وقالوا مع ذلك لايزول بزوال بعض الأعمال حتى ابن الخطيب وأمثاله جعلوا الشافعي متناقضًا في ذلك، فإن الشافعيَّ
(1)
السكنجبين: فارسي معرب، وهوشراب مُركّب من عَسَلٍ وخلٍّ ونحوه = انظر:"قصدالسبيل"للمحبي (2/ 143)،و"معجم الألفاظ الفارسية"لأدي شير (92)
(2)
"مجموع الفتاوى"(7/ 511)
كان من أئمة السنة، وله في الردِّ على المرجئة كلامٌ مشهورٌ، وقد ذكر في كتاب الطهارة من:" الأم" إجماعَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ على قولِ أهل السُّنة = فلما صنف ابن الخطيب تصنيفًا فيه، وهو يقول في الإيمان بقول جهم والصالحي= استشكل قول الشافعي ورآه متناقضًا)
(1)
وأمَّا كلام الرَّزاي في كتابه الذي أَشار إليه شيخ الإسلام، فهو قوله:(قد تقرر في بدائه العقول= أَنَّ مُسمَّى الشيء إذا كان مجموع أشياء، فعند فَوات أحد تلك الأشياء لابُدَّ وأَن يَفوتَ المُسَمَّى، فلو كان العمل جزءًا من مسمى الإيمان = لكان عند فوات العمل وجب ألَاّ يبقى الإيمان = لكنَّ الشافعي يقول: إن العملَ داخلٌ في مُسمى الإيمان ثم يقول: الإيمان باق بعد فوات العمل = فكان هذا مناقضة)
(2)
ثم رأى أن قول المعتزلة أسلم من جهة الأصول وأبعد عن التناقض من قول الإمام الشافعي رحمه الله فقال: (بلى. المعتزلة لمَّا قالوا: العمل جزء من مسمى الإيمان قالوا: إذا فات العمل لم يبقَ اسم الإيمان = فكان هذا القولُ منتظمًا بعيدًا عن التناقض)
(3)
ثم لمَّا رأى ما في رمي إمامه الذي ينتسب إلى مذهبه من الشناعة = أراد أن يلتمس مَخْرجًا لذلك التناقض - في ظنه- الوارد في كلام الإمام الشافعي، وذلك بأن جعل العملَ خارجًا عن مسمى الإيمان ثم جعل التفاوت في هذا الخارج، وهو العمل وأنَّ إطلاق اسم الإيمان على العملِ من باب المجازِ، فالعمل ثمرةٌ وسبب للإيمان الذي هو التصديق والإقرار.
قال الرّازي: (وللشَّافعي أن يُجيب فيقول: الأصل في الإيمان هو الإقرار والاعتقاد فأمَّا الأعمال فإنها من ثمرات الإيمان، وتوابعه، وتوابع
(1)
"المصدر السابق"(7/ 511)
(2)
"مناقب الإمام الشافعي" للرَّازي (148)
(3)
"المصدر السابق"(148)
الشيء قد يطلق عليها اسم الشيء على سبيل المجاز، وإن كان يبقى الاسم مع فوات تلك التوابع، كما أنَّ أغصانَ الشَّجرةِ قد يقال: إنَّها من الشجرة، مع إن اسم الشجرة باق بعد فناء الأغصان فكذا ههنا)
(1)
وقبل بيان بطلان دعوى الاستناد إلى هذه الضرورة، ومنع ورودها على مادلت عليه النصوص الشرعية من تفاوت الإيمان وقبوله للزيادة والنقص =أُورد أقوال المخالفين التي تدل على استقرار هذا الأصل عندهم إجمالًا.
يقول القاضي عبد الجَبَّار عند تفسير قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} الأنفال: (
…
ومنها: أنّه يدلّ على أنَّ الإيمان يزيد وينقص، على ما نقوله؛ لأنَّه إذا كان عبارة عن هذه الأمور التي يختلف التعبُّد فيها على المُكلَّفين، فيكون اللاّزم لبعضهم أَكثر مما يلزم الغير، فتجب صِحَّة الزِّيادةِ والنُّقصان، وإنّما كان يمتنع ذلك لوكان الإيمان خصلةً واحدةً، وهو القول باللِّسان، أو اعتقادات مخصوصة بالقلب)
(2)
فالزيادة والنقصان عند القاضي ليستا متعلِّقتين بحقيقة الإيمان، وإنما بالتكاليف التي يختلف التعبد فيها بحسب حال المُكلّفين، لذا امتنع عنده حصولهما لوكان الإيمان خصلة واحدة، وهذا مناقض لما عليه أهل السّنّة؛ إذ الزيادة والنقصان واقعتان في الأعمال كما أنهما واقعتان في قول اللِّسان وقول القلب.
وبمثل ماقرّره القاضي عبدالجبَّار قالت الإِباضيَّة -وهي امتداد للمُحَكِّمة الأولى من الخوارج-،لذا يقول أبو محمد عبد الله السَّالمي:
(1)
"المصدر السابق"(149)
(2)
"مُتشابه القرآن"للقاضي عبد الجبار (312 - 313)
(وذهب أصحابُنا إلى أنَّ الإيمانَ يزيدُ ولا ينقص، وبيان ذلك: أنَّ الإيمانَ عندنا هو الوفاءُ بجميعِ الواجبات، فمن وجب عليه فرضٌ لايكون مؤمنًا حتى يؤديَه على وجهه ثم يزيد الإيمان بزيادة التكاليفِ، ولا يصح نقصُه لأنَّ نقصَه إخلالٌ ببعض الواجبات، وقد تقدم أنَّ التاركَ لبعض الواجبات عليه خارجٌ عن الإيمان فالترك لبعضه ترك لجميعه أي: لا ينتفع ببعض إيمانه في الآخرة)
(1)
وقد يُظنُّ أنَّ المعتزلةو الإباضيّة يوافقون بعضَ أَهل السُّنة الذين أَثبتوا الزيادة في الإيمان ولم يثبتوا النقص كمثل ما ثبت عن الإمام مالك رحمه الله من إثباته الزيادة، وسكوته عن النقص =ولكن هذا الظنّ غير مسدد، بل الخلاف بين أَهل السنّة ومخالفيهم خلاف معنوي حقيقي، وليس هناك توافق ألبتَّة، وبيان ذلك بتوضيح قضيتين:
الأولى: أنَّ أَهل السُّنّة قد انعقد الإجماع عندهم على أَنَّ الزيادة في الإيمان هي زيادة في حقيقته، لا في أَمر خارج عنه، وكذلك النقص.
وأَمَّا المعتزلة والإباضية فقد جعلوا الزيادة فيما يتعلق بالتكاليف التي هي أوامر الله تعالى، لا أَن الزَّيادة واقعةٌ في حقيقة الإيمان المتعلقة بالعبد، وهذا هو الفارق الحقيقي بين قول أهل السنّة وأَقاويل غيرهم من أهل البِدَع.
الثانية: أنّه على فرض أنّ الرِّواية عن الإمام مالك بتوقفه في القول بنقصان الإيمان، هي آخر ما ثبت عنه في ذلك =فإنّ من المعلوم بداهةً أَن القولَ بالتوقف يخالف الجزم بنفي النقص في الإيمان، فإنّ ما أورده الإِمامُ ابنُ عبدِ البرِّ في سياق ترجمته للإمام مالك، يدلُّ النّاظرَ على أنّ الإمام مالك لم يجزم بنفي النقص، قال الإمام الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله:
(1)
"بهجة الأنوار شرح أنوار العقول في التوحيد"للسَّالمي (124 - 25)
(
…
أخبرنا ابن وهب، قال: سئل مالك بن أنس عن الإيمان، فقال: قولٌ وعملٌ، قلت: أَيزيدُ وينقصُ؟ قال: قد ذكر الله سبحانه في غير آي من القرآن أَنّ الإيمان يزيدُ، فقلت له: أَينْقُصُ؟ قال: دع الكلام في نُقصانِهِ وكفَّ عنه، فقلتُ: فبعضُه أَفضل من بعض؟ قال نعم)
(1)
فالإمامُ مالك كما هو ظاهرُ الرِّواية كفَّ عن القول بالنقصان في الإيمان، ولم يجزم، وعلة توقفه كما هو ظاهر السياق؛ أَن النَّقْصَ لم تنطقِ الآياتُ بذكره، فلم يُرِدِ الخوض فيما لم يُصرَّح بذكره في القرآن، وبرهان ما سبق، أنَّه رحمه الله، لمّا سئل عن الزيادة، أجاب بأن الله قد ذكر ذلك في غير ما آية أن الإيمان يزيد، فمستنده في القول بالزيادة هو مادلت عليه النصوص، ومستنده بالتوقف عدم وقوفه على ما يدل على الزيادة، ولذا قال شيخُ الإسلام:(وكان بعضُ الفقهاءِ من أَتباع التابعين، لم يوافقوا في إطلاق النقصان عليه؛ لأنّهم وجدوا ذكر الزيادة في القرآن، ولم يجدوا ذكر النقص، وهذا إحدى الرِّوايتين عن مالك)
(2)
ومن هنا يتبيَّن سبب توقف الإمام مالك رحمه الله، وأنّه انطلق في توقفه من منطلق التمسك بالوارد، والكفّ عمّا لم يرد، وأمَّا الاعتلال بأنَّ توقفه ناشئ عن القول بأن النقص في التصديق يستلزم ذهاب جميعه وأنّه خَشي أن يتأوَّل عليه موافقة الخوارج
(3)
=فهذا ما لا يدلُّ عليه سياق كلامه، ثم إنّ التصديق مما يقبل التفاوت كما سيأتي بيان ذلك -إن شاء الله-.
(1)
"الانتقاء في فضائل الأئِمة الثلاثة الفقهاء"للإمام ابن عبد البرِّ (69) وقد روي عنه أَيضًا من طريق ابن القاسم، نقلها عنه ابن عبد البرّ في التَّمهيد (15/ 55)،و القاضي عياض في= =ترتيب المدارك (2/ 43)،وانظر: الرِّواية الأخرى المُثبتة لنقص الإيمان"شرح صحيح البخاري"لابن بطال (1/ 57)
(2)
"مجموع الفتاوى"(7/ 506)
(3)
انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطَّال (1/ 57)
وهذه الشُّبهة لم تختص -كما تقرر من قبل- بالوعيديَّة؛ بل إنَّ المرجئة تُسلّم بهذا الأصل أَيضًا؛ لذا يُقرِّر أبو المعالي الجويني ذلك بقوله: (فإن قيل: فما قولكم في زيادة الإيمان ونقصانه؟
قلنا: إذا حملنا الإيمان على التصديق فلا يفضل تصديق تصديقًا، كما لا يَفْضُل علم علمًا، ومن حَمَله على الطاعة سرًّا وعلنًا، وقد مال إليه القلانسي= فلا يبعد على ذلك إطلاق القول بأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية = وهذا مما لانؤثره)
(1)
فقوله: (فلا يفضل تصديق تصديقا، كما لا يفضل علم علما) دليلٌ واضح على استقرار تلك الشبهة عنده وهي استحالة وقوع التفاوت في حقيقة الإيمان.
وأمَّا سيفُ الدِّين الآمدي فقد أَبان عن أنَّ من جعل الإيمانَ خصلةً واحدةً، فإن الزيادةَ والنقص لا تتواردان عليه إلا من جهات أُخرى خارجة عن حقيقته، وانظر إليه حين يقول:(ومن فسَّره بخصلة واحدة من تصديق، أو غيره فإنَّه لا يقبل الزيادةَ والنقصان، من حيث هو خَصْلةٌ واحدةٌ، اللَّهم إلا أن ينظر إلى كثرة أعداد أشخاص تلك الخصلة وقلتها في آحاد الناس =فإنَّه يكون قابلًا للزيادةِ والنُّقصان على ماحققناه من قبلُ)
(2)
ويقول الرَّازي: (الإيمانُ عندنا
(3)
لايزيد ولاينقص؛ لأنه لمّا كان اسمًا لتصديق الرسول في كلِّ ماعُلم بالضَّرورة مجيئُهُ به = وهذا لا يقبل
(1)
"الإرشاد"للجويني (399)
(2)
أبكار الأفكار (5/ 23 - 24)، و الآمدي (551 - 631 هـ):هو علي بن أبي علي بن محمد الثعلبي، المعروف بـ أَبي الحسن سيف الدِّين الآمدي، أُصوليٌّ مُتكلِّم، من تصانيفه:"الإحكام في أصول الأحكام"،و"منائح القرائح"=انظر: طبقات الشَّافعية (8/ 306)
(3)
أي عند الأشاعرة
التفاوت فمسمى الإيمان لايقبل الزيادة والنقصان)
(1)
ويُقرّرُ المُهلَّبُ بن أَبي صُفرة امتناع وقوع التفاوت في التصديق، فيقول:(التصديق وإن كان يُسمّى إِيمانًا في اللُّغةِ، فإنَّ التصديقَ يكمل بالطَّاعاتِ كُلِّها، فما ازداد المؤمن من أَعمال البِرِّ كان من كمال إيمانه، وبهذه الجُملة يزيد الإيمان وبنقصانها ينقص. .فمتى نقصت أَعمال البرِّ نقص كمال الإيمان، ومتى زادت زاد الإيمان كمالًا، هذا توسُّط القول في الإيمان، وأمَّا التصديق بالله وبرسُلِهِ =فلا يَنْقُصُ)
(2)
والمَنْعُ من التفاوت سببُهُ كما نقل ذلك المُلَّا علي القاري عن كتاب "الوصية" المنسوب للإمام أَبي حنيفة
(3)
رحمه الله: (ثم الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنَّه لا يُتصوَّرُ زيادةُ الإيمانِ إلَاّ بنُقصانِ الكُفر، و لا يتصور نقصان الإيمان إلَاّ بزيادةِ الكفر= فكيف أن يكون الشخصُ الواحدَ في حالة واحدة مؤمنًا كافرًا)
(4)
بل إِنَّ الإمامَ ابن حزم رحمه الله مع ردِّه على المرجئة، والوعيدية، وذهابه إلى أنّ الإيمانَ حقيقةٌ مركبةٌ مِن اعتقادٍ، وقولٍ، وعمل، وأَنَّ
(1)
"محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين"للرَّازي (570 - 571)
(2)
"شرح صحيح البخاري"لابن بطَّال (1/ 56 - 57)، والمُهلَّب (؟ -435 هـ) هو: المهلب بن أحمد ابن أَبي صُفرة الأسدي الأندلسي، إمام حافظ محدث من الفُصحاء الموصوفين بالذّكاء، من تصانيفه "شرح البخاري"=انظر:"السير"(17/ 579)، و"شجرة النور الزكيّة"(1/ 114)
(3)
وهي من الرَّسائل التي لا تصحُ نسبتها إليه، وذلك لأمرين:
…
الأول: كونها رويت بسندٍ مُسلسل بالمجاهيل.
الثاني: ما تضمنته من مسائلَ كثيرةٍ مُخالفةٍ لمعتقد أَهل السُّنّة، ولما انضبط من اعتقاده رحمه الله خصوصاً فيما سطره عنه الإمام الطحاوي في العقيدة الذائعةانظر تفصيل ما أجمل من ذلك في طيات كتاب:"براءة الأئمة الأربعة"للدكتور عبدالعزيز الحميدي (76 - 79)
(4)
"شرح الفقه الأكبر"لمُلَّا علي القاري (185)
مرتكب الكبيرة لا يُسلب عنه الإيمان بسبب مقارفته لها= ذهب إلى المنع من وقوع الزيادة والنقص في التصديق كما هو مذهب المخالفين لأَهلِ السُّنَّة والجماعة، وقصر التفاوت على غير التصديق، فالتصديق -عنده- لا يمكن بحال أن يقبل التفاوت استنادًا إلى ذات الشُّبهةِ.
يقول رحمه الله: (والتصديق بالشيء أي شيء كان، لايمكن ألبتَّة أن يقع في زيادة ونقص=وكذلك التصديق بالتوحيد والنبوَّة، لا يمكن ألبتة أن يكون فيه زيادة ولا نقص؛ لأنَّه لايخلو كل معتقد بقلبٍ، أَو مقر بلسانه بأي شيء أقرَّ أَو أي شيء اعتقد= من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها:
-إما أن يصدق بما اعتقد وأقرَّ.
-وإما أن يُكذِّب بما اعتقد.
-وإما منزلة بينهما؛ وهي الشك، فمن المحال أن يكون إنسان مكذبًا بما يصدق به.، ومن المحال أن يشكَّ أحدٌ فيما يصدُّق به= فلم يبق إلا أنَّه يصدق بما اعتقد بلا شك ولايجوز أن يكون تصديق واحد أكثر من تصديق آخر؛ لأنَّ أحدَ التصديقين إذا [دخلته داخلة]
(1)
فبالضَّرورة يَدْري كل ذي حسِّ سليمٍ أنَّه قد خرج عن التصديق ولابدَّ، وحصل في الشك؛ لأنَّ معنى التصديق إنما هو: أن يقطعَ ويوقنَ وجود ما صدقَّ به= ولا سبيل إلى التفاضل في هذه الصِّفة)
(2)
(1)
في النسخة المطبوعة بتحقيق محمد إبراهيم نصر، وعبدالرحمن عميرة:(إذا دخلت داخله) ولعل صواب العبارة ما أثبته طبقًا لِما في النُّسخة القديمة من الفَصْل (3\ 193 - مصورة دار الفكر)
(2)
"الفَصْل في الملل والنحل"لابن حزم (3\ 232 - 233) وانظر: كذلك المرجع نفسه (3/ 237)
فثبوتُ النَّقصِ عند ابن حزم وغيره يقتضي سَرَيَان الشَّكِ في الإيمان. والشَّكُّ والتَّصديقُ لايجتمعان = فوجب عنده الذهاب إلى نفي التفاضل والتبعض في التصديق جملة.
فهذه النُّصوص تدل بجلاء على استناد المخالفين في هذا الباب -أعني نفي الزيادة والنقصان، والتفاضل في الإيمان- إلى ما ظنوا أنه عمل بموجب الضرورة العقليَّة، وهي استحالة الجمع بين النَّقيضينِ والتي كان ابتناء نفي التفاوت عليها.
ولمَّا رأى بعضهم أنَّ في نفي الزيادة والنقصان مخالفةً صريحة للأدلة الشرعية، وسببًا لورود اللوازم الباطلة عليهم =حاولوا صرف الزيادة إلى ما يمكن أن يقع فيه التفاوت كالأعمال والتي هي ثمرة عندهم، أَو إلى متعلقات الإيمان كما يقولون.
فالباقلاني رحمه الله مثلًا أراد أن يُوفِّقَ بين تلك الضرورة العقلية المدَّعاة وبين ما توافرت عليه الأدلة من إثبات الزيادة والنقص في حقيقة الإيمان فلم يجد بُدًّا من هذا التوفيق الذي أدَّاه في الواقع إلى مخالفة الحقائق الشرعية و الضرورة العقليَّة فقال: (لا ننكر أن نُطْلِق أَنَّ الإيمانَ يزيدُ ويَنْقص كما جاء في الكتاب والسُّنَّة.
لكن النقصان والزيادة يرجع في الإيمان إلى أحد أمرين:
- إما أن يكون ذلك راجعًا إلى القول والعمل دون التصديق؛ لأن
…
ذلك يتصور فيهما مع بقاء الإيمان فأما التصديق فمتى انخرم منه أدنى شيء بطل الإيمان
…
والأمر الثاني: في جواز إطلاق الزيادة والنقصان على الإيمان يتصور أيضًا من حيثُ الحُكم لا من حيث الصورة، فيكون ذلك أيضًا في الجميع من التصديق والإقرار والعمل، ويكون المراد بذلك في الزيادة
والنقصان راجعًا إلى الجزاء والثواب والمدح والثناء، دون نقص وزيادة في تصديق
(1)
.
ويقول أبو المعين النَّسفي
(2)
في بيان وجه الزيادة الحاصلة في الإيمان: (إذا كان الإيمان هو التصديق، وهو في نفسه مما لا يتزايد، وما لا يتزايد فلا نقصان له إلَاّ بالعدم، ولا زيادة عليه إلاّ بانضمام مثله إليه =فكان تأويل ماورد في الزيادة في الإيمان على مارُوي عن أبي حنيفة رحمه الله أنهم كانوا آمنوا في الجملة، ثم يأتي فرض بعد فرض فيؤمن بكل فرض جاء؛ فيزداد إيمانه بالتفسير مع إيمانه بالجملة، وإن كان بالجملة في التحقيق إيمان به. . . وكذا الثبات على الإيمان والدوام عليه في كل ساعة، إذ يوجد في كل ساعة مثل ما انعدم في الأولى، كما يوجد درهم، ثم يزداد عليه في كل ساعة درهم، لا أنَّ تلك الزيادة في نفسه إذ هو غيرمحتمل للتجزؤ، ويحتمل الزيادة عليه أن يزداد نوره وضياؤه في القلوب بالأعمال الصالحة وينقص ذلك بالمعاصي إذ الإيمان له نور وضياء
…
)
(3)
فالزيادة والنقص كما ترى عند مُرجئة المتكلمين لا ترجع إلى ذات
(1)
"الإنصاف"للباقلَّاني (57 - 58) والباقلاني (338 - 403 هـ):هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر البصري، أبو بكر الباقلَاّني، أصولي فقيه متكلِّم من كبار أعلام الأشاعرة، من تصانيفه:"الانتصار للقرآن"،و"الإنصاف"=انظر:"السير"(17/ 190)
(2)
أبو المعين النَّسَفي (438 - 508 هـ):هو ميمون بن محمد بن محمد بن معتمد النّسفي المكحولي الحنفي، أبوالمعين سيف الحق، من أبرز علماء الكلام الذين نصروا طريقة أَبي منصور الماتريدي، من مؤلفاته:"تبصرة الأدلة"،و"بحر الكلام"،و"التمهيد"=انظر:"الفوائد البهية"للكنوي (216)،و"الأعلام"(7/ 341)
(3)
"تبصرة الأدلة"للنَّسفي (2/ 809) وانظر: "شرح المسايرة" لابن أبي الشريف (307 - 308)، و"تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد"(50 - 51)،و"تأنيب الخطيب" للكوثري (109)
التصديق، بل هذا التفاوت راجع إما إلى القول والعمل، أو إلى الحكم المترتب على الإيمان من الجزاء والثواب.
- أو تكون راجعة إلى العدد بانضمام تصديق إلى تصديق.
- أو تكون زيادته راجعة إلى الثبات، والدوام عليه، زيادة عليه كل ساعة.
- أو تكون زيادته بأن يزداد نوره في القلب بزيادة ثمرته، وهو العمل الصالح.
- أو تكون زيادة الإيمان بمفصّل الشريعة بعد حصول الإجمال. كلُّ ما سبق من تأويلات لما دلّت عليه الأدلة المصرحة على وقوع التفاوت في الإيمان = هو محاولة منهم للخروج من ورطة المناقضة الصريحة للبراهين الصادعة بحصول التفاوت.
أَمَّا الأَصل الثَّاني الّذي استندوا إليه في مُناقضة الدَّلائل الدالة على تفاوت الإيمان =فهو استنادهم إلى الحدِّ المنطقي.
ذلك أَنَّ الحدَّ المنطقي يُشْترطُ فيه وجود حقيقة وماهيّة يستوي فيها جميع أفراد المعرَّف، مما يعني القضاء بامتناع تفاضل أَفراد النَّوع في الحقيقةِ والماهية.
وهذا القول نشأ حينما امتزج علم المنطق بعلم الكلام، فكان الغرضُ من مبحث الحدود في علم المنطق=هو إثبات الماهيَّةِ من حيث هي هي، وإثبات ذواتٍ مجردة، فحدُّوا (النوع) وهو- تمام الماهية - بما صدق في جواب (ما هو) على كثيرين متفقين بالحقيقة
(1)
فلابدَّ أَن يكون أَفراده متفقين في الحقيقة والماهيَّة، وإلَّا لانتقض الحدُّ، وامتنع حصول التَصوّر لتمام الماهيَّة.
(1)
انظر: "البصائر النُّصيريَّة"للسَّاوي (13)،و"آداب البحث والمُناظرة" للعلامة محمد الأمين الشنقيطي (48)
فوظّف المتكلمون ما تقرر في المنطق عند بيانهم لحقيقة الإيمان، حيث نظروا في آحاد من يطلق عليهم اسم الإيمان واستخلصوا قدرًا مُشتركًا، هذا القدر من اللوازم الذّاتيّة لماهيَّة الإِيمان، وجعلوا ما يخرج عن هذا القدر المُشتركِ مِن اللَّوازم العرضَيَّة الخارجة عن تمام الماهية، فاللازم الذي عدوه داخلًا في ماهية الإيمان بسبب نظرتهم المُغرقة في التجريد = هو التصديق، وجعلوا العمل من اللَّوازم العرضيَّة الخارجة عن الماهية.
ووَفْقًا لما تقرَّر عندهم في حدِّ النَّوع الّذي يمتنع فيه وقوع الاختلافِ والتفاوتِ في ماهيته =فإنَّهم منعوا وقوع التفاوت في حقيقة الإيمان فترى ابن أبي الشَّريف يقرِّر ذلك بقوله: (ولو سلَّمنا أنَّ ماهيةَ اليقينِ تتفاوتُ لا نُسلِّم أنَّه يتفاوت بمقوّمات الماهية أي أجزائها، بل بغيرها من الأُمور الخارجةِ عنها العارضة لها: كالألف للتكرار ونحوه
…
فقد اتفقنا معشر المثبتين لتفاوت الإيمان والنَّافين له =على ثبوت التفاوت في الإيمان بأمر معين، والخلاف في خصوص نسبته أي نسبة ذلك الأمر المعين إلى تلك الماهية بدخوله في مقوماتها، أو خروجه عنها =لا عبرة به لأنَّه ليس خلافًا في نفس التفاوت
…
)
(1)
وقد سرت هذه اللوثة إلى المشتغلين بالسُّنة، فالكرماني حينما تعرض لحديث (جبريل المشهور): (كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزًا يوما للناس فأتاه جبريل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وبكتابه،
(1)
"المسامرة شرح المسايرة"لابن أبي الشَّريف (309) وابن أبي الشَّريف (822 - 906 هـ):هو محمد بن محمد ابن أبي بكر بن أبي الشريف، المقدسي، أبو المعالي الشَّافعي، من مُصنَّفاته:"الفرائد في حَلِّ ألفاظ العقائد"،و"الدُّرر الَّلوامع بتحرير ألفاظ جمع الجوامع"=انظر:"الأعلام"(7/ 53)
ورسله، وتؤمن بالبعث)
(1)
.
=استشكل جوابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن سؤال جبريل بـ (ما) التي هي أداة للسؤال عن حقيقة الماهية عند أَصحاب المنطق، و التي لا يُجاب بها إلَاّ في ثلاثةِ أشياء محصورة، وهي "الجنس"، أو "النوع"، أو "الحد"
(2)
.
فقال (قوله: " أن تؤمن بالله" فإن قلت: ماوجه تفسير الإيمان (بأن تؤمن) وفيه تعريف الشيء بنفسه.
قلتُ [القائل: الكرماني]: ليس تعريفًا بنفسه؛ إذِ المرادُ من المحدود الإيمان الشرَّعي، ومن الحدِّ الإيمان اللغوي، أَو المتضمن للاعتراف)
(3)
فجعل جواب رسول صلى الله عليه وسلم خارجًا عن قوانين المنطق، وبيانًا للإيمان بيانًا لُغويًا ليس المراد منه ذكرَ حقيقةِ الإيمان الشرعية!
وما ذكره باطلٌ لأَمرين:
الأول: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد نزّهه الله تبارك وتعالى عن السَّيرِ على قوانين منطق اليونان، فليس مفتقرًا إلى استعمال شيء من أَساليبهم وقواعدهم التي هي في حقيقة أَمرها متولِّدة لدفعِ أَقيسةٍ سوفسطائية فاسدة، فليست في واقع الأمر تأثيلًا صحيحًا لإحراز المعرفة، لذا كان صلى الله عليه وسلم مُستغنٍ عنها بما شرعه الله جل جلاله له، وبما فطَرَه عليه من وفور العقل وكمال النَّظر.
الثاني: أنّ الأصل في كلام رسول صلى الله عليه وسلم الحمل على كونه بيانًا
(1)
أخرجه البخاري كتاب "الإيمان " باب "سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام"(14 - رقم [50]) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
انظر: "آداب البحث والمناظرة"للشنقيطي (47) .
(3)
" الكواكب الدَّراري في شرح صحيح البخاري"(1/ 194) .
للحقائق الشّرعية، وهذا اللائق به صلى الله عليه وسلم، فلم يُبعث لبيان الحقائق اللُّغويّة، بل هذا تعرفه العرب، وليسوا بحاجة إليها فهو أمرٌ مستقرٌّ عندهم، وإنّما افتقارهم إلى بيان مرادات الشارع منهم.
ولذا فقد أنكر هذا الوجه الّذي ذهب إليه الكرماني، غيرُ واحد من أهل العلم
(1)
، وجعلوا بيانه صلى الله عليه وسلم للإيمان من باب بيان الحقائق الشّرعية، فالإيمان تختلفُ دلالته بحسب التقييد والإطلاق، وهذا هو مُحصَّل النّظر في دلائل الكتاب والسُّنّة، فهو عند الإِفراد يكون عامًّا لِمَعْنَيَيَنِ إِيمان الباطن، وإيمان الظاهر، وعند التقييد كما في حديث سؤال جبريل عليه السلام، يطلق الإيمان ويُراد به مافي القلب من تصديق القلب وأعماله كالخشية، والمحبة، والتصديق، وغير ذلك. ويراد بالإسلام حينئذٍ الأعمال الظاهرة
(2)
.
و الغلطُ نفْسُهُ وقع فيه الحافظُ ابن حجر رحمه الله فجعل جوابَ النبي صلى الله عليه وسلم جوابًا عن متعلقات الإيمان، لا عن معنى لفظه، وإلاّ كان المنبغي أن تكون صورة الجواب بأن الإيمان هو: التصديق!
(3)
بل ترى القسطلاني يحاكم أَقوال رسول صلى الله عليه وسلم إلى ما تقرر اشتراطه في الحد المنطقي، حيث جعل قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم بعد بيانه للإيمان-:(صدقت) = مراعاة منه للحدِّ المنطقي حيث قال: (فإن قلت: لو كان حدًّا لم يقل جبريل عليه السلام في جوابه: (صدقت) كما في مسلم = لأنَّ الحد لا يقبل التصديق.
(1)
انظر: "الفتوحات الوهبية" للشبرخيتي (147)
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى"(7/ 551)
(3)
"فتح الباري"لابن حجر (1/ 157) وقد تابعه على ذلك الإمام زكريا الأنصاريانظر: "منحة الباري"(1/ 225)
أُجيب: بأنه إذا قيل في الإنسان أنه حيوان ناطق، وقُصد به التعريفُ =فلا يقبل التصديق كما ذكرتَ، وإن قُصد به أنَّه الذات المحكوم عليها بالحيوانية والناطقيّة؛ فهو دعوى وخبر فيقبل التصديق = فلعلَّ جبريلَ عليه السلام، راعى هذا المعنى فلذلك قال:(صدقت)
أو يكون قوله: "صدقت " تسليمًا، والحدُّ يقبلُ التسليم، ولا يقبل المَنعَ
(1)
.
فهذه أَمثلة تدل على مدى تمكُّن الأَثر المنطقي في نفوس الشراح حتى أصبحت قواعد المنطق تحاكم إليها النصوص الشرعية ويتعسَّف في توجيهها؛ لتوافق تلك القوانين.
وخلاصة القول: أنَّ المتكلمين استندوا في المنع من تفاوت الإيمان على ما تقرر في المنطق من لزوم تماثل أفراد النَّوع في الماهية، وأن التّفاوت إنَّما يكون في اللوازم العارضة والخارجة عنه.
فإذا تَبيَّن المنزع الذي لأجله أُبطلت دلالة النصوص المتقدم ذكرها والتي تدل على زيادة الإيمان ونقصانه، وعلى وقوع التفاوت في حقيقته = تسنّى بعدُ -بحول الله- إبطال الأصل وما تفرّع عنه من لوازم فاسدة.
* * *
(1)
"إرشاد السَّاري"للقسطلاني (1/ 139)