الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأوَّل: سوق الأَحاديث المُتعلِّقة بالرُّؤيا:
عن أَبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ
(1)
لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ. وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا، وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ. وَالرُّؤيا ثَلَاثَةٌ: فَالرُّؤيا الصَّالِحَةُ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ. فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ .. ) متفق عليه
(2)
.
وعن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرُّؤيا الصَّادِقةُ مِن اللّهِ، والحلْم مِن الشَّيطانِ) متفق عليه
(3)
.
وعن جابر رضي الله عنه، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! رأيت في المنام كأن رأسي ضُرب فتدحرج، فاشتددتُ على أَثَرِه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي:(لا تحدِّث الناس بِتَلَعُّبِ الشَّيطانِ بكَ في منامك) وقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعدُ، خطب، فقال:(لا يحدِّثَنّ أحدُكم بِتَلَعُّبِ الشَّيطانِ به في منامه) رواه مسلم
(4)
.
(1)
في معنى اقتراب الزمان قولان:
أحدهما: تقارب الليل والنهار في الاعتدال، وموجب صدق الرُّؤيا في ذلك الزمان = اعتدال الأمزجة فيه، فلا يكون في المنام أضغاث أحلام.
ثانيهما: أن المراد بذلك آخر الزمان المقارب للقيامة = انظر: "المفهم"(6/ 10 - 11).
(2)
أخرجه البخاري كتاب "التعبير" باب "القيد في المنام"(1473 - رقم [7017]) ومسلم كتاب: "الرُّؤيا" باب ""(4/ 1773 - رقم [2263]) واللفظ له
(3)
أخرجه البخاري في كتاب: "التعبير" باب "الرُّؤيا من الله"(1467 - رقم [6984]) ومسلم في كتاب "الرُّؤيا"(4/ 1771 - رقم [2261]) واللفظ للبخاري.
(4)
رواه مسلم كتاب "الرُّؤيا" باب "لا يخبر بتلعّب الشيطان به في المنام"(4/ 1776 - 1777 - رقم [2268]).
وعن عائشة أُمِّ المؤمنين رضي الله عنها، أنها قالت:(أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرُّؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصُّبْح) متفق عليه
(1)
.
بالنَّظَرِ في المسوق من الأحاديث، يتجلَّى من جُمْلتها ما يلي:
أولًا: أن رؤيا الأنبياء وَحيٌ لا يَعْتَورها أَضغاث الأَحلام
(2)
.
ثانيًا: أنَّ المُدرك في المنام أمثلةٌ للمرئيات لا عين المرئيات. ثم قد تكون من قبيل التخييل الذي لا يطابق الحقيقة الخارجية مطلقًا، وإن كان قد يطابقها من بعض الوجوه فهذه حق من جهة أنَّ لها تعبيرًا صحيحا. وقد تكون مطابقة لها، فتظهر في الخارج على وفق ما أُدْرِكَتْ في المنام
(3)
.
ثالثًا: أنَّ ما يراه النَّائمُ لا يخلو إمَّا أن يكون نَوْعًا من الوحي، وإمّا لا يكون. فإن كان من قبيل الوحي = فهي الرُّؤيا الصالحة، وإلا فقد تكون رؤيا شيطانية مثّلها الشيطان في ذهن النائم، أَو تكون من حديث النَّفس.
(4)
رابعًا: الرُّؤيا الصالحة من الرَّجل الصالح نوع من الوحي. وهي جزء من أجزاء النبوة؛ تكون صادقةً، لا كاذبةً
(5)
،ومعنى كونِها جزءًا من النُبوَّة =موافقتها النبوَّة في صدق الخبر عن الغيب؛ فهي إنباءٌ صادِقٌ
(1)
البخاري كتاب "بدء الوحي" باب (3)(1 - رقم (3)) ومسلم كتاب "الإيمان" باب "بدء الوحي"(1/ 351 - 352 - رقم [6982]).
(2)
انظر: "الأجوبة عن المسائل المستغربة"(254)، "الفصل في الملل والنحل"(5/ 124)،و"المفهم"(6/ 17)،و"التلخيص شرح الجامع الصحيح"للنَّووي (1/ 348).
(3)
انظر:"المفهم"(6/ 24)"بيان تلبيس الجهمية"(1/ 325 - 326)، و "مجموع الفتاوى"(11/ 638)، و"شرح صحيح البخاري" لابن بطال (9/ 517).
(4)
انظر: "المفهم"(6/ 8،11).
(5)
انظر: "المفهم"(6/ 14)، و "إعلام الموقعين"(2/ 323).
عن الله لا كذب فيه، كما أن معنى النبوَّة الإنباء الصادق من الله الَّذي لا يجوز عليه الكذب
(1)
.
خامسًا: أن قصارى ما يؤخذ من الرُّؤيا الصالحة من الرجل الصالح البشارة أو النذارة، والاستئناس بها إن وافقت حجة شرعية.
(2)
سادسًا: الشرع خصّ حرْف "الرُّؤيا" بما كان مُتلَقّى من الله تعالى، وخصَّ حرف "الحلم" بما كان مُتلَقّى من الشيطان. وهذا تَصَرُّفٌ في اللَّفْظِ بالحَقيقةِ الشرعية. وأمَّا باعتبار الاستعمال اللُّغوي فكلٌّ منهما يشمله لفظ "الرُّؤيا"وبالعكس
(3)
. وقد دَلَّت الدلائل القرآنية، أيضًا، وما انبنى عليها وعلى السنة من إِجماع = على إثبات الرُّؤيا، وأنّها حقّ.
ومن تلك الدلائل:
قول الله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)} يوسف. ثم قال تعالى مخبرًا عنه: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} يوسف: 100
وقال تعالى مخبرًا عن رؤيا إبراهيم عليه السلام: {قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} الصافات.
وقال تعالى عن تحقق رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم في دخوله المسجد الحرام: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} الفتح.
وقد نقل الاتفاق على ذلك الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله فقال:
(1)
انظر:"شرح صحيح البخاري"لابن بطَّال (9/ 517) .
(2)
انظر: "القائد إلى تصحيح العقائد"(80 - 81) .
(3)
انظر: "عمدة القاري" للعيني (24/ 132)، و "فتح القدير"(4/ 59)، و "الإعجاز البياني في القرآن" لعائشة بنت عبد الرحمن (215 - 216) .
(الرُّؤيا الصَّادقةُ من الله، وأَنَّها من النُّبوَّة، وأَنَّ التصديق بها حقٌّ، وفيها من بديع حكمة الله ولطْفِه، مايزيد المؤمن في إيمانه =ولا أعلمُ خلافًا بين أهل الدِّين الحقِّ، من أهل الرأي والأَثَرِ، خلافًا فيما وصفتُ لك، ولا يُنكر الرُّؤيا إلَاّ أهل الإلحاد؛ وشرذمة من المعتزلة)
(1)
.
وبمقتضى هذه الدَّلائل أجرى أهل السنة والجماعة أَقلامهم عند تحريرهم لمسائل الاعتقاد بإثبات الرُّؤيا، وأَنَّها من الله تعالى؛ متى ما تميز صدقها وظهر. قال الإمام أحمد رحمه الله:(والرُّؤيا من الله عز وجل، وهي حَقٌ؛ إذا رأى صاحبُها شيئًا في منامِهِ ما ليس هو ضِغْثٌ، فقصَّها على عَالمٍ، وصَدَق فيها، وأوَّلها العالِمُ على أَصل تأويلها الصحيح، ولم يُحرِّف = فالرُّؤيا حينئذٍ حقٌّ. وقد كانت الرُّؤيا من الأنبياء وحيٌ = فأيُّ جاهلٍ أجهلُ ممن يطعن في الرُّؤيا، ويزعم أنَّها ليست بشيءٍ؟!)
(2)
.
وقال أبو عمرو الدَّاني رحمه الله
(3)
مقرِّرًا أقوال أهل السنة في الاعتقاد: (ومن قولهم: إن التصديق بالرُّؤيا واجب، والقول بإثباتها لازم، وأنها جزء من أجزاء النبوة، كما ورد الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. )
(4)
.
وقال الإمام الحافظ ابن منده رحمه الله: (ومن ينكر الرُّؤيا، ويزعم أَنَّها ليست بحقيقة = فهو من الجاحدين للنبوة. فنسأل الله تعالى الإيمان بالغيب، ونعوذ بالله من الشك والريب)
(5)
.
(1)
"التمهيد"(16/ 71) .
(2)
"طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (1/ 63) .
(3)
أبو عمر الداني (371 - 440 هـ):هو عثمان بن سعيد بن عثمان الأموي، مولاهم، أبو عمرو الأندلسي، القرطبي، ثم الداني. يعرف بـ "ابن الصيرفي". إمام حافظ من الأئمة القراء، من مصنفاته:"جامع البيان في القراءات السبع"، و " البيان في عَدِّ أي القرآن" =. انظر:"سير أعلام النبلاء"(18/ 77)، و "طبقات المفسرين" للداودي (1/ 373 - 375) .
(4)
"الرسالة الوافية"(96) .
(5)
"جزء فيه ذكر أبي القاسم بن أحمد الطبراني"(45) .
وإنما عدَّ الإمام ابن منده إنكار أن يكون للرُّؤيا حقيقةٌ من الجحد للنبوة؛ لعلتين:
الأولى: أن الرُّؤيا نوع من الوحي الذي يتلقاه النبي عن الله تعالى؛ حقيقة قطعية لا يتطرق إليها الخطأ = فالطعن في هذا النوع طعن في النبوّة.
الثانية: أن إنكار أن يكون للرُّؤيا حقيقة لغير الأنبياء = تكذيب لخبر النبي الصادق ببقاء نوع من الوحي يقع لغير الأنبياء. وتكذيب خبر النبي يستلزم عدم صدقه، وهذا عين المناقضة للنبوّة.
ومع ثبوت هذه الحقيقة وقيام أَوضح البرهان عليها = إلا أنَّ هناك طوائف من أَهل البدع وغير المتشرعين - من أهل الطبِّ، وغيرهم- نازعوا في هذه الحقيقة. وهذه المنازعة تكمن في اختزالها في معنى واحدٍ؛ إمّا بنفْي الجانب الغيبي المدلول عليه شرعًا في تفسيرها للرؤيا، أو بمنحها بُعْدًا غيبيًا؛ لكنّه في حقيقة الأمر إمّا أنه يفتقر إلى البرهنة الشرعية التي تصحح هذا التفسير، أَو أَنَّه مصادم للبراهين الشرعيَّة - كما سيأتي بيان ذلك -
فأما الفريق الأوَّل: فيتجلى نفيه للجانب الغيبي من خلال مقولاته التي فسّر بها حقيقة الرُّؤيا؛ ومن ذلك: اختزال الرُّؤيا في كونها مجرد خواطر تخطر للنائم. وهذا ما نُقل عن النَّظَّام
(1)
.
- أو تعليل حدوثها بأنه فِعل الطبائع. كما نسب إلى "معمر"
(2)
من المعتزلة وأهل الطب
(3)
.
(1)
انظر "مقالات الإسلاميين"(433) .
(2)
المصدر السابق، الصفحة نفسه. ومعمر (؟ -215 هـ):هو أبو المعتمر مُعَمَّر بن عمرو بن عبَّاد البصري السُّلمي مولاهم العطَّار، من رؤوس المعتزلة، له مقالاته الشَّنيعة =انظر "السير"(10/ 546) .
(3)
انظر: "المفهم"(6/ 18) .
- وذهب طائفة من المعتزلة والأَشاعرة إلى أَنَّ الرُّؤيا خيالات باطلة
(1)
.
-وممن شكَّكَ من المعاصرين في صِحَّة أحاديث هذا الباب= الدُّكتور علي الوردي حيث قال: (تُروى عن النبيِّ محمد أَحاديث عديدة في الأحلام، وكُلُّها تُشيرُ إلى أنَّ الرُّؤيا الصادقة وحيٌ من الله
…
ونحنُ لا نعلمُ على وجه اليقين مدى صحة هذه الأحاديث المروية عن النبي، فَمِن الممكن أن تكون مكذوبة عليه. وقد أكثر نقلة الحديث من الكذب على رسول الله كما هو معروف =ومهما يكن فقد شاعت تلك الأحاديثُ بين المُسلمين، وأَصبحت عند كثيرٍ منهم مُقدَّسةً لايجوزُ الشَّكُّ فيها. وذهب بعضهم من جرَّاء ذلك إلى أنَّ الاعتقاد بأنَّ الذي يكفرُ بالرُّؤيا يكفرُ بالنُّبوَّةِ؛ إذ أنَّ الرُّؤيا والنُّبوّة ينبعان في نظرهم من منبعٍ واحد)
(2)
وذهب بعض علماء النَّفْس إلى أن الرُّؤيا خيالات ورموز تُركّب في نفس الحالم. مَردُّ هذه الخيالات إلى مثيرات؛ إمّا عضوية داخلية من داخل النفس الإنسانية، كأن يحلم المصاب بعسر الهضم -مثلًا- بِعَدُوٍّ يأخذ بخناقه = أو مثيرات خارجية؛ كتأثير أشعة الشَّمس الساقطة على عيني النائم في رؤيته لحريق يحدث له = أو إثارة الرغبات التي يُمْنَع من ممارستها أثناء اليقظة.
ومن أنصار هذا المذهب: الدكتور فاخر عاقل؛ حيث قرر ذلك بقوله: (إذا نام الإنسان هبطت فعالية دماغه إلى مستوى واطٍ. وقد تتوقف تمامًا خلال النوم العميق جدًّا
…
والأحلام تشبه التخيل والإبداع في أنها عناصر ذكريات جمعها الحالم من هنا وهناك، ثمّ ركّبها بعضها مع بعض، وأنشأ منها حوادث لم تمرّ به قط. وكثيرًا ما تكون غريبةً، أو
(1)
انظر: "شرح المواقف" للجرجاني (2/ 145) .
(2)
"الأحلام بين العلم والعقيدة" للوردي (37 - 38) .
مستحيلةً .. ثمَّ إن النفس النائمة ينقطع الاتصال بينها وبين العالم الخارجي، أو على الأقل يخفّ الاتصال بينها وبين العالم الخارجي إلى حد كبير أثناء النوم. وبسبب انقطاع هذا الاتصال - أو خِفّته على الأقل- فتأخذ الرسائل الواردة عن عضويتها ومن حياتنا الداخلية أهمية أكبر. ولذلك فقد تعبر النفس عن الرسائل الواردة من أَجهزتها الهضمية، أو التنفسيّة، أَو الدَّمويَّة، أو شعورنا بشكل أحلام .. ويمكننا أن نحصر أسباب أحلامنا في ثلاثة:
1 -
المثيرات الخارجية.
2 -
المثيرات العضوية الداخلية.
رغباتنا التي لم ترضها حياة اليقظة .. )
(1)
ويعلل المذكور التنبؤ بالمستقبل من خلال الحلم بقوله: (لا غرابة في أنْ ينبئ الحلم عما قد يحدث في المستقبل. ونجد تحليل ذلك فيما شرحناه سابقًا عن الرسائل التي تصل النفس من العضوية واللاشعور
…
وقد يقفز الحالم أو مَنْ حوله إلى استنتاجات يوصلون بها أنفسهم إلى مرتبة الولاية، أو النبوة)
(2)
.
ويقول الدكتور رشاد علي عبد العزيز موسى مبينًا حقيقة الأحلام: (الحلم شكل فريد من السلوك. وهو يحدث بطريقة غير إرادية، وبدون تعمُّد. والحلم لا يظهر في صورة واضحة ذات معنى دائمًا؛ بل يظهر في صور خيالات هلوسية، يغلب عليها الطابع البصري، تشابه الصور الحقيقية في واقع الحياة إلى حدٍّ كبير)
(3)
.
والأصل الذي تتمركز حوله مقولات علماء النفس المعاصرين في الأحلام هو = نظرية التحليل النَّفْسي التي ولّدَها "سيجموند فرويد". فالأحلام هي قطب
(1)
"اعرف نفسك - دراسات سيكولوجية"(220 - 222) .
(2)
المصدر السابق (224) .
(3)
"سيكولوجية الأحلام"(11) .
رَحَى هذه النظرية
(1)
. ويُقرُّ "فرويد" بتنوع بواعثها وميراثها؛ إلا أنه يجعل الباعثَ المهيمن لها هو الرغبات الجنسية المكبوتة، والبحث عن اللّذة؛ التي أطلق عليها اسم "اللبيدو"
(2)
.
فهذه الرغبات هي التي تغذّي الأحلام وتفسرها. ويُعلَّل حصول ذلك بانفلات هذه الرغبات المكبوتة في "اللاشعور" من رقابة "الشعور"، فتتبدّى للنائم في حلمه على هيئة رموز ذات مدلول جنسي؛ لها معنى ظاهر، ومعنى كامن؛ هو في حقيقته المعبر عن اللاشعور الذي يقوم بتوجيه سلوك الفرد اليومي. هذا المعنى الكامن لا يتوصل إلى كُنْه الحالِم، وإنما الطبيب المفسر الذي يُخضِع هذه الرموز لأدواته.
فنشوء الأحلام عند أتباع مدرسة التحليل النفسي يعتمد على مثيراتٍ مادية، يختلف أصحابه في أعظمها أثرًا في تكوين الأحلام. واختزال تفسير الأحلام في هذا الأنموذج، يقضي على الجانب الغيبي المدلول عليه بالشرع؛ كما هو مبين.
وأما الفريق الذي مَنَح الرُّؤيا بُعدًا غيبيًا لم يرد به النص = فيمثله: الراغب الأصفهاني وابن خلدون، اللذان أرجعا حدوث الرُّؤيا إلى فعل النفس الناطقة. وفي تقرير ذلك يقول الراغب الأصفهاني:(والرُّؤيا هي فعل النفس الناطقة، ولو لم تكن لها حقيقة لم تكن لإيجاد هذه القوة في الإنسان فائدة. والله يتعالى عن الباطل)
(3)
.
ويقول ابن خلدون
(4)
: (وأما الرُّؤيا فحقيقتها: مطالعة النفس الناطقة
(1)
انظر: "طريقة التحليل النفسي والعقيدة الفرويدية" لرولان دالبييز (37) .
(2)
انظر: "الأحلام" لفرويد (138)، و "طريقة التحليل النفسي والعقيدة الفرويدية"(604) .
(3)
"الذريعة إلى مكارم الشريعة"(146) .
(4)
ابن خلدون (732 هـ-807 هـ): هو ولي الدين، أبو زيد، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي، الإشبيلي أصلًا، التونسي مولدًا. حافظ، متبحر في سائر العلوم. ولي القضاء بالقاهرة وحَلب. يُعدّ من أئمة علم التاريخ والاجتماع. من مؤلفاته:"العبر" و"التعريف". انظر: "شجرة النور الزكية"(1/ 227 - 228) .
لذاتها الروحانية لمحة من صورة الواقعات، فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل كما هو شأن الذوات الروحانية كلها. وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية والمدارك البدنية، وقد يقع لها ذلك لمحةً بسبب النوم كما نذكر، فنقتبس بها علم ما تتشوّف إليه من الأمور المستقبليّة، وتعود بها إلى مداركها. فإنْ كان الاقتباس ضعيفًا وغير جليٍّ بالمحاكاة والمثال في الخيال لِتخلُّطِهِ؛ فيحتاج من هذه المحاكاة إلى التعبير. وقد يكون الاقتباس قويًا يُستغنى فيه عن المحاكاة؛ فلا يحتاج إلى تعبيرٍ لخلوصه من المثال والخيال .. )
(1)
.
والمراد بالنفس الناطقة في كلام الراغب الأصفهاني وابن خلدون = النفس الإنسانية
(2)
.
وممن فَسَّر الرُّؤيا تفسيرًا غيبيًا فيه مادة تناقض النصوص الشرعية = المازري رحمه الله؛ حيث فسر الرُّؤيا تفسيرًا ألغى فيه قانون السببية، اتساقًا مع المذهب الأشعري؛ الذي ينكر تأثير الأسباب في مسبباتها. وفي ذلك يقول:(والصحيحُ ما عليه أهل السنة: أنّ الله تعالى يخلق في النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها جعلها عَلَمًا على أمور أخرى خلقها، أو يخلقها في ثاني الحال، ومهما وقع منها على خلاف المعتقد فهو كما يقع لليقظان، وقد يختلف. وتلك اعتقادات تقع تارةً بحضرة المَلَك، فيقع بعدَها ما يسرّه، وتارةً بحضرة الشّيطان فيقع بعدها ما يضرّه. والعلم عند الله)
(3)
.
(1)
"المقدمة"(1/ 420) .
(2)
انظر: "كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي (3/ 1398) .
(3)
"المُعْلِم"(3/ 115 - 116) .
وقد غلا "صالح قُبَّة" من المعتزلة
(1)
في الرُّؤيا، فجعل ما يراه النائم في نومه صحيحًا؛ كما أنّ ما يراه الشيطانُ صحيحًا. فإذا رأى في بغداد أنه في إفريقيا، فقد اخترعه الله، وجعله في ذلك الوقت في إفريقيا
(2)
.
وسيأتي بيانُ ما في هذه المقالات من أوجه الغلط، بعد بيان المُعارض العقلي الذي أورده من أنكر حقيقة الرُّؤيا.
(1)
صالح قبة: من الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة، من تلاميذ النظام، له كُتب كثيرة، وخالف جمهور المعتزلة في مسائل، سُمي بـ"قُبَّة" لأنه قيل له: ما تنكر أن تكون في هذا الوقت بمكة جالسًا في قبة قد ضُربت عليك، وأنت لا تعلم ذلك لأن الله لم يخلق فيك العلم به هذا وأنت صحيح سليم غير مؤف؟ قال لا أنكر =فلُقِّب بـ"قبة"=انظر "طبقات المعتزلة"لابن المرتضى (73)،و"المقالات"(407) .
(2)
انظر: مقالات الإسلاميين (432) .