الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: دفع دعوى المعارض العقلي عن أحاديث الرُّؤيا:
ما ذهب إليه جمهور المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة = لا يصح؛ من جهتين:
الأولى: مناقضته للضرورة النقلية:
فقد تقدم أنّ برهان القول بصحة الرُّؤيا دلالةُ الكتاب والسُّنَّة، والإجماع عليها، والمقصود هنا بالرُّؤيا الصالحة -بلا ريب -؛ أي: الرُّؤيا بالعُرف الشَّرعي، لا الإطلاق الُّلغوي =بل إنَّ اتفاق العقلاء في كل ملّةٍ على صحّة الرُّؤيا، فليس هذا مخصوصًا بأهل الإسلام
(1)
.
الثانية: مناقضة قولهم للضرورة العقلية الحسّيَّة.
فإن المشاهدة أوضح برهان على صدق الرُّؤيا لتحققها وحصولها، وخَطَلِ قول النافين، وبُعْدِهم عن الصواب.
قال القاضي ابن العربي رحمه الله: (وربَّما ظَنَّ الجاهلُ أَنَّ حالةَ النَّوم حالةُ تخيُّلٍ = وهذا جهل عظيم .. والمشاهَدةُ تدفع قَوْلَه؛ فإِنَّ المرء يرى الرُّؤيا نائمًا، ويرى تفسيرها يقظةً. وهذا ما يدركه التقيُّ. وتتأتَّى من الكافر كما تتأتَّى من المؤمن)
(2)
.
الجهة الثالثة: أَنَّه ليس مع المُنْكِر إلَّا النَّفي المَحْض.
والنَّفي ليس بعلمٍ -كما تقدم مرارًا-. فكيف إذا قام برهان المشاهدة على نقيضه؟! ثم إن منشأ الغلط عند هؤلاء النافين: أَنَّهم تَطلّبوا كُنْهَ إدراكِ النفس للرؤيا؛ وهذا لا يتأتّى؛ لأنّه (إذا كانت النفس قد
(1)
انظر "قانون التأويل" لابن العربي (140).
(2)
المصدر السابق (139).
غُيِّب عنا علم حقيقتها، فبالأحْرَوِيّةِ ألاّ نعلم ما غُيّب عنا من إدراكاتها)
(1)
.
ثم إنَّ دعوى المعتزلة بانتفاء الإدراك لانتفاء شرطه = مُسلَّمٌ؛ متى كان ما اشترطوه يُعدّ شَرْطًا حقيقيًا لحصول الإدراك، أَمَّا إذا لم يكن كذلك، فدعوى لزوم توفر هذه الشروط = دعوى تفتقر إلى برهان يصدقها.
وزيادة في البيان: فإنَّ ما اشترطه المعتزلة من شروط لتحقق الإدراك لا يصلح كثير منها لتحقق الإدراك في حال اليقظة؛ فَضْلًا عن حَالِ النَّوم. فاشتراط المقابلة -مثلًا- ليس شرطًا لا يتحصل الإدراك مطلقًا إلا به، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا تستبقوني بالركوع، ولا بالسجود فإني أراكم من خلفي كما أراكم من بين يديّ)
(2)
.
وكذلك ما اشترطوه من انبعاث الشعاع؛ فإنَّ هذا الشَّرْطَ مَبنيٌ في الأَصْلِ على اعتقادهم أَنَّ العين هي التي تبعث أَشعَّتها على المرئي، فيتحقق الإدراك. وهذا بحسب ما بلغت إليه معارفهم. والعلم الحديث يبرهن على خلاف ذلك؛ فالعين جهازٌ بصري، ليس مصدرًا لانبعاث الشعاع، وإنما مُسْتقبِلٌ للإثارة المضيئة
(3)
. هذا إذا سُلّم لهم بأَنَّ الإدراك المُتَحَقِّق في الرُّؤيا لا سبيل إليه إلا بالعين الباصرة -وسيأتي بيان ذلك-.
وأما ما ذكره بعض الأشاعرة من امتناع الرُّؤيا بدعوى أَنَّ النَّوم والإِدراك لا يجتمعان، فيقال:
(1)
"المفهم"(6/ 6) .
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب "الأذان" باب "إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف"(144 - رقم [718]) ومسلم كتاب "الصلاة"، باب "تحريم سبق الإمام بركوع وسجود أو نحوهما"(1/ 320 - رقم [426]) .
(3)
انظر: "موسوعة الشباب"(247 - العدد (8)) .
إِنَّ النَّوم وإنْ تسلَّط على الجوارح فأصابها بالرُّكود؛ فلا يلزم من ذلك أن يسري أثره إلى القلب والروح. فيتحصّل حينئذٍ الإدراك بجزءٍ لم يحلّه النوم، فيبطل بذلك دعوى مخالفة الضرورة.
وفي تقرير ذلك يقول ابن العربي رحمه الله: (خلق الله العبد حيًّا، دَرَّاكًا، مُفكّرًا، قادرًا في أحسن تقويم، ثم رَدّه أسفل سافلين، ثم سَلَّط عليه السّهو والغفلة؛ ليتبين قصور هذه الفضائل التي فيه، حتى لا يقول: أنا، أنا. وسلّط عليه النوم؛ وهذه آفة تُدْرِكُ الحواسَّ، وركودٌ يقوم بالجوارح؛ لا يلحق القلب، ولا الروح، ولا النفس منها شيءٌ. ولذلك؛ فإن الرُّؤيا حقيقةٌ، وعلمٌ صحيحٌ)
(1)
.
ويقول أبو العباس القرطبي رحمه الله: (إنْ قِيل: كيف يقال: إن الرُّؤيا إدْراكٌ مع أنّ النوم ضد الإدراك؛ فإنه من الأضداد العامة، كالموت، فلا يجتمع معه إدراكٌ؟
فالجواب: إن الجزء المُدْرَك من النائم لم يحلّه النوم، فلم يجتمع معه، فقد تكون العين نائمةً، والقلبُ يقظانَ)
(2)
.
ومما يبرهن على ذلك قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ عينيّ تنامان، ولا ينام قلبي)
(3)
(4)
والمقصود بيان عدم مناقضة ما دلَّت عليه أحاديث الرُّؤيا لبرهان العقل.
وأَمَّا دعوى أَنَّ عادة الله لم تَجْرِ بحصول الإدراك في المنام = فمُكابرة تنقضها المشاهدة.
(1)
"المسَالك في شرح موطأ مالك"(1/ 427) .
(2)
"المفهم"(6/ 8) .
(3)
أخرجه البخاري كتاب "صلاة التراويح" باب "فضل من قام رمضان"(396 - رقم [2013]) ومسلم كتاب "صلاة المسافرين وقصرها" باب "صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم "(1/ 509 - رقم [738]) .
(4)
"المفهم"(6/ 8) .
وبعد الفراغ من بيان أوجه الفساد في المعارضات العقلية المدّعاة على أحاديث الرُّؤيا؛ يتصدى النظر لإجمال القول في بطلان مسالك الخارجين عن الجادّة في حقيقة الرُّؤيا. فإنّ ما ذهب إليه القائلون بأنّ الرُّؤيا مجرد خواطر، أو أثر من فعل الطبائع، أو الأخلاط، أو حاصل بعض المثيرات الخارجية، أو العضوية الداخلية = فإنّ هذا -إنْ صَحَّ- في بعض ما يراه النائم، لا يقتضي ذلك نفْي أن تكون بعض الرؤى من الله؛ بِأَنْ يُطْلِعَ اللهُ النائم على بعض الغيب والأمور المستقبلية = وأن يكون بعضُها حُكمًا من تلاعب الشيطان بالنائم. فإن ذلك متحقق كما سبق.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: (من أراد فهْم أنَّ الرُّؤيا لا تكون إلا عن أَخلاط = فهو باطل؛ بما ثبت عن الصادق فيما ذكرناه من الأحاديث: أن الرُّؤيا منها ما يكون من الله؛ وهي المُبشرة والمُحذِّرة .. وليس في قوَّةِ الطبيعة أن تُطْلِع على الغيب بالإخبار عن أمورٍ مستقبلةٍ تقعُ في المستقبل؛ على نحو ما اقتضته الرُّؤيا بالاتفاق بين العقلاء. ومن أراد فهم: أن الأخلاط قد تكون سببًا لبعض المنامات = فقد يُسلّم ذلك على ما قررناه. ثم يبقى نظرٌ آخر، وهو: أنه لو كان ما رتبوه صحيحًا للزم عليه ألاّ يرى من غلب خِلْطٌ من تلك الأخلاط إلا ما يناسبه، ونحن نشاهد خلافه، فيرى البلغمي النيران، والصعود في الارتفاعات. وعكس ذلك الصفرواي = فبطل ما قالوه بالمُشاهدةِ. والله وليّ المعاضدة)
(1)
.
يبقى نظر ثالث يضاف إلى ما ذكره القرطبي رحمه الله؛وهو: أن قضية الأخلاط وما ينشأ عنها حسبما تقرر في الطب القديم؛ إنما كانت بحسب
(1)
المصدر السابق (6/ 19)، وانظر "الروح" لابن القيم (44)
ما بلغته معارفهم، فيبقى تصحيح وجودها مُرْتَهَنًا بما توصّل إليه الطب الحديث. وهو أمرٌ يحتاج إلى مزيد فَحص.
ثم إن ما ارتآه "فرويد" في تعليل نشوء الأَحلام = غير سديد؛ إذ عَدّ الدور الأكبر في نشوئها للرغبات الجنسية المكبوتة. وهذا ما لم يبرهن عليه أولًا.
ثانيًا: أن المشاهدة تخالف ذلك؛ إذ ليس كلّ الأحلام تدلّ بالضرورة على الرغبات الجنسية.
ثالثًا: أَن فرويد يُقِرّ أنّ من مثيرات الأَحلام ما هو ناشئ عن مصدر عضوي؛ كعسر الهضم مثلًا. وهذا ممّا يدلّ على عدم تماسُك تفسيره.
رابعًا: أنه لم ينكر أنّ من الأحلام ما ينشأ عن الشعور ذاته، ومِنْ ثَمّ لا علاقة له باللاشعور. وهذا أيضًا مما يوهن نظريته. لكن الإشكال يكمن في تمييز إمكانية النابع من كليهما
(1)
.
أما ما ذهب إليه الراغب الأَصفهاني وابن خلدون - رحمهما الله - من نسبة حدوث الرُّؤيا إلى فعل النّفْسِ الناطقة = فقول يفتقر إلى توقيف من الشارع. والسلامة في ترك الخوض فيما غُيِّبَت عنّا أسبابه.
وأما المازري فقد قَصَرَ نُبوع الرُّؤيا على خلق الله تعالى دون توسط أسباب في ذلك، وعلى قوله هذا تكون الرُّؤيا المُحزنة من الله أيضًا، وهذا ما تنفيه الأدلة؛ حيث أَضافت ذلك إلى الشيطان. والذي دعاه إلى هذا القولِ نَفْيُه أن يكون للأسباب أثرًا في مسبّباتِها، جَرْيًا على ما قرر الأشاعرة في ذلك.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (وهذا موضعٌ اضطرب فيه الناس .. فمِن قائلٍ: إن هذه المرائي عُلوم علقها الله في النفس ابتداءً بلا سبب.
(1)
انظر: "موسوعة اليهود واليهودية" للدكتور عبد الوهاب المسيري (3/ 453) .
وهذا قول منكري الأسباب، والحِكم والقُوى
(1)
= وهو قول مخالف للشرع، والعقل، والفطرة)
(2)
.
وبعد التعريج على هذه الأقوال يبقى بيان ما في قول الطَّرَفِ الغالي في إثبات الرُّؤيا من الخطأ، ويتمثل ذلك فيما تقلّده "صالح قبّة" من المعتزلة؛ حيث جَعل ما يراه الحالم هو عين الواقع، فمن رأى في المنام أنه في البصرة فهو في البصرة فيها حقيقة. وهذا القول -كما ترى- مخالف للضرورة الحِسِّيَّة؛ إذ نرى النائم في مَكَانِهِ لم يتزحزح عنه، بل إن النائم يرى في منامه من تلاعب الشيطان به أنه مقطوع الرأس وهو حي، وهذا ما يمتنع تحققه في الواقع؛ لأن قطع الرأس لا تتحقق بعده الحياة.
(1)
في الأصل: والحكم القوي. ولعل الصواب ما هو مثبت.
(2)
"الروح"(45) .