الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأوَّل: سوق الأحاديث الدالة على أن شدة الحر والبرد من النار:
عن أَبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النَّار إلى ربِّها، فقالت: يا ربِّ أكل بعضي بعضًا، فَأَذِن لها بِنَفَسينِ: نَفَس في الشتاء، ونفَس في الصَّيف؛ فهو أَشدُّ ما تجدون من الحرِّ، وأشدُّ ما تجدون من الزَّمهرير) متفق عليه
(1)
.
وفي روايةٍ لمسلم: (فأَذِن لها في كلِّ عام بِنَفَسَين: نَفَسٍ في الشتاء، ونَفَسٍ في الصيف)
(2)
.
وعن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: أَذّن مُؤذنُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بالظُّهر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَبْرِدْ
(3)
أَبْرِدْ). أو قال: (انْتظِر انْتظِرْ) وقال: (إنّ شِدَّة الحَرِّ من فيح
(4)
جَهَنَّم؛ فإذا اشتد الحرُّ فأبردوا بالصلاة) متفق عليه
(5)
.
* * *
(1)
أخرجه البخاري في كتاب: " مواقيت الصلاة "، باب " الإبراد بالظهر في شدة الحر "(122 - رقم [537])،ومسلم في كتاب:" المساجد ومواضع الصلاة "، باب " استحباب الإبراد بالظهر "(1/ 431 - رقم [617]).
(2)
المصدر السابق.
(3)
(أَبْردْ أبْردْ): أي أَخِّر إلى أن يبرد الوقت = ينظر " فتح الباري "(2/ 22).
(4)
فيح جهنم: أي من سعة انتشارها وتنفسها، ومنه مكان أفيح أي متسع، وهذا كناية عن شدة استعارها = فتح الباري (2/ 24).
(5)
رواه البخاري كتاب " مواقيت الصلاة " باب " الإبراد بالظهر في شدة الحر "(111 - رقم [535] ط/دار السلام) ومسلم في كتاب: " المساجد ومواضع الصلاة " باب " استحباب الإبراد بالظهر "(1/ 431 - رقم [616]).
تمهيد:
تُدار المسائل التي انطوى عليها هذان الحديثان في قضيتين:
الأولى: بيان معنى كون شدة البرد والحر من جهنم.
الثانية: بيان معنى شكوى النار إلى ربِّها.
فأما القضية الأولى:
فقد اختلف أهل العِلْم في معنى كون شدة البر والحَرِّ من جهنم؛ من حيث حمل الحديث على الحقيقة أو المجاز = على قوليْن:
القول الأوَّل: أَن شدة البرد والحر الحاصلان في الأرض من جَهنَّم حقيقة.
القول الثاني: أن ذلك من مجاز التشبيه؛ أي: كأن الزمهرير وشدة الحر من جَهَنَّم.
والقول الأول: ذهب إليه جَمْهرةٌ من المحققين
(1)
.
قال القاضي عياض رحمه الله: «اختُلف في معنى قوله: (اشتكت النار إلى ربها .. ) الحديث، وقولِهِ:(فإن شدة الحرِّ من فيح جهنَّم) فحمله بعضهم على ظاهره. وقال: شكواها حقيقة [و]
(2)
أن شدة الحر من وهج جهنم حقيقة؛ على ما جاء ما في الحديث، وأن الله أذن لها بنفَسين: نَفَسٍ في الصيف، ونَفَسٍ في الشتاء
…
وقيل: إنه كلام خَرَج مخرج التشبيه والتقريب
…
وكلا الوجهين
(3)
ظاهر، والأول أَظهر، وحمْلُه على الحقيقة أولى)
(4)
.
(1)
انظر: " التمهيد " لابن عبد البر (1/ 263)، و" إكمال العلم " للقاضي عياض (2/ 582 - 583)، و" المسالك شرح موطأ مالك " لابن العربي (1/ 456)، و" شرح صحيح مسلم " للنووي (5/ 120)، و" المفهم " للقرطبي (2/ 244)، و" فتح الباري " لابن رجب (3/ 70)، و" فتح الباري " لابن حجر (2/ 24) .
(2)
ما بين المعقوفتين زيادة ليستقيم بها الكلام.
(3)
يعني الحقيقة والمجاز.
(4)
" إكمال المعلم "(2/ 582 - 583) .
وقال الإمام النَّووي بعد نقله كلام القاضي عياض: (قلتُ: والصواب الأوَّل؛ لأنه ظاهر الحديث. ولا مانع من حمله على حقيقته = فوجب الحكم بأنه على ظاهره - والله أعلم -)
(1)
.
والقول الثاني: أن الحديث خرج مخرج التشبيه؛ أي: كأنه نار جهنم في الحرِّ، فاحذروه واجتنبوا ضرره. وكذا يقال في شدة البرد.
وهذا القول ذهب إليه الخَطَّابي، ونقله عنه ولم يتعقبه ابن الملك
(2)
.
والَّذي يترجح - والله أعلم - ما ذهب إليه أَصحاب القول الأول من حَمْلِ الحديث على الحقيقة. والمصير إلى ذلك هو الأقوى من جهة النظر؛ خصوصًا شهادة الرِّوايات بعضها لبعض، وتعاضدها في نسبة شدة الحر والبرد إلى جهنَّم. وسيأتي بسط القرائن المرجحة لهذا القول حين التعرُّض للقضية الثانية.
القضية الثانية: بيان معنى اشتكاء النَّار إلى ربِّها وإذنه لها بنفَسين.
وهذه القضية أيضًا انسحب عليها خلاف أهل العلم؛ تبعًا للقضية الأولى على قولين:
الأول: وهو حَمل الحديث على حقيقته، وأنَّ شكوى النار بلسان مقالها لا بلسان حالها، وأَن النَفَسَ المضاف إليها هو تنفُّس حقيقي يناسب خِلْقتها.
والقائلون بهذا القول قد تقدم الإشارة إليهم، وسيأتي النقل عن بعضهم.
القول الثاني: أَنَّ شكوى النار وتنفسها = مجاز، لا حقيقة؛ فالشكوى بلسان حالها لا مقالها، على جهة التوسّع في الاستعمال، كما قال الشاعر:
(1)
" شرح صحيح مسلم "(5/ 120) .
(2)
انظر " مبارق الأزهار "(1/ 302) .
شكا إليَّ جملي طول السُّرى
…
صَبْرٌ جميل فكلانا مبتلى
(1)
وكما قال عنترة:
*وشكا إليَّ بِعَبْرةٍ وتَحمْحُمِ*
وكقول العرب: قالت السماء فهطلت.
(2)
وأَما نَفَسُها فهو كناية عن الحرِّ والبرد في ابتدائِه، وامتِدادِه، وقوتِه، وضَعْفِهِ
(3)
.
وممن قال بهذا القول: البيضاوي. حيث نقل عنه الحافظ ابن حجر قَولَه: «شكواها: مجازٌ عن غلَيانها. وأكْلُها بعضها بعضًا: مجازٌ عن ازدحام أَجزائها. وتنفُّسها: مجاز عن خروج ما يبرز منها)
(4)
.
وممن ذهب إليه أيضًا: ابن الجوزي. حيث قال: (تشبيه الحرّ والبرد في ابتدائه، وامتداده، وقوته، وضعفه؛ بالنّفَسِ = من أَحسن التشبيه)
(5)
.
والذي يَظْهر رجحانُه -من جهة النظر -: القول الأوَّل؛ للقرائن التالية:
القرينة الأولى: أن الأصل حمل الكلام على الحقيقة عند انتفاء القرائن الناقلة له عن هذا الأصل إلى المجاز؛ وخصوصًا أن الحديث خبَرٌ عن أَمر مُغيَّب لا يقع للحسِّ إدراكه؛ ليصح القول إن قرينة المعاينة تَصرف الخطاب من الحقيقة إلى المجاز عند من يُصحّحون القول بالمجاز. أو من حقيقة إلى أخرى عند من لا يصحّح ذلك.
(1)
انظر:" التمهيد "(1 / -273)، و" المفهم "(2/ 244) .
(2)
انظر: المصدرين السابقين.
(3)
انظر " كشف مشكل الصحيحين " لابن الجوزي (3/ 370) .
(4)
" فتح الباري "(2/ 26) .
(5)
" كشف مشكل الصحيحين "(3/ 370) .
القرينة الثانية: أنّ ورود ذكر الشكوى في الحديث وتفسيرها، والتعليل له، وقصْر النَّفَسِ على نَفَسَين اثنين فقط =كل ذلك حارسٌ مِن توهمِّ جريان الخبر على غير ظاهره الحقيقي؛ و كلّ ذلك مما يُضعف جانب القول بالمجاز؛ لخروجه عن المألوف في استعماله.
(1)
القرينة الثالثة: أنه لا مانع يمنع من إجراء الحديث على ظاهره؛ لصلاحية قُدرة الرب لذلك.
وقد جاءت الأدلة بما يَشْهدُ لهذا المعنى؛ ومن ذلك: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يَخْرجُ عُنُقٌ من النَّار يوم القيامة، لها عينان تُبْصران، وأُذنان تسمعان، ولسان ينطق؛ يقول: إني وُكِّلت بثلاثةٍ: بكل جبارٍ عنيدٍ، وبكل من دعا مع الله إلهًا آخر، وبالمُصوِّرين)
(2)
.
وكذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تحاجّت الجنة والنار، فقالت النَّار: أوثرتُ بالمتكبرين والمتجبّرين. وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسَقَطُهم؟ .. )
(3)
الحديث.
وغيرها من الدلائل المعضدة لهذا المعنى.
فلهذه القرائن كان القول بإجراء الحديث على ظاهره هو أَسعد القولين بالصواب. قال الإمام ابن عبد البر: (وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (اشتكت
(1)
انظر " فتح الباري "(2/ 26) .
(2)
أخرجه أحمد (2/ 95)،والترمذي كتاب "صفة جهنم"،باب"ما جاء في صفة النار"(4/ 604 - رقم [2574])،وصححه الألباني في"السلسلة الصحيحة"(2/ 39) .
(3)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب " التفسير " باب " قوله تعالى {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} " (1039 - رقم (4850) ط/السلام) ومسلم في كتاب:" في الجنة ونعيمها " باب:"النَّار يدخلها الجبَّارون، والجنة يدخلها الضعفاء"(4/ 2186 - رقم [2846]) .
النَّار .. ) فإن أَهل العلم اختلفوا في ذلك: فحمَله بعضهم على الحقيقة، وحمَله منهم جماعة على المجاز
…
والقول الأول [أي: القول إنه على الحقيقة] يعضده عموم الخطاب، وظاهر الكتاب، وهو أولى بالصواب. والله أعلم)
(1)
.
لذا قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (
…
فالمحقّقون من العلماء على أنّ الله أَنطقها بذلك نطقًا حقيقيًا؛ كما يُنْطِق الأيدي، والأرجلَ، والجلودَ يوم القيامة، وكما أنطق الجبال وغيرها من الجمادات بالتسبيح، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما يُسمع نُطْقُه في الدنيا)
(2)
.
(1)
" الاستذكار " لابن عبد البر (1/ 102) .
(2)
" فتح الباري " لابن رجب (2/ 70) .