الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: سَوْق دعوى المعارِض العقلي على حديثَيْ شقّ صدر النبي صلى الله عليه وسلم وإسلام شيطانه
.
حاصل الاعتراضات العقليَّة على هذين الحديثين تتلخَّص في الأمور التالية:
الأول: أنّ قبول حديث "شق صدره صلى الله عليه وسلم، وانتزاع حظِّ الشيطان منه"؛ يلزم منه الجَبْرُ، ونفْي الاختيار للنبي صلى الله عليه وسلم؛ إذِ انتزاعُ حظّ الشيطان منه، لا يُفهَم منه إلَاّ سلبُ حريّة الإرادة والاختيار الثابتة لكل أحدٍ.
الثاني: أنّ لازمَ إثبات هذين الحديثين؛ الوقوع في التناقض؛ ذلك أن الحديث الأول يُفهم منه إزالة حظّ الشيطان بالمرّة؛ فلم يعد يوسوس له. وفي حديث إسلام شيطانه صلى الله عليه وسلم يلزم منه رجوعه بالوسوسة والتسلّط عليه.
الثالث: أن الحديث من الأخبار الظنّية، ومفادُه مما يجري مجرى العقائد؛ لأن موضوعه الغيب؛ وهذا الباب لا يُقبَل فيه إلاّ القطع، ولا يفيد فيه إلاّ اليقين؛ لا الظّنّ.
الرابع: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وُلِد مختونًا مسرورًا، فلِمَ لمْ يُولَد كذلك مُبرَّءًا قلبُه من حظّ الشيطان، دون حاجة إلى شقّ صدرٍ، أو غيرِه.
هذه جملة الاعتراضات التي ساقها أصحابها على هذا الحديث.
فأمّا الاعتراضان الأوّلان، فيقول "حسن حنفي" في تقريرهما: ( .. فإذا كان الله قد قرن بكل إنسانٍ شيطانًا، وأنّ الله تعالى أعان النبي على شيطانه؛ فأسلَم، فلا يأمره إلاّ بخير = فذاك أيضًا قضاءٌ على حرية الفعل الإنساني أصلًا، وبالتالي يضيعُ الاستحقاق، ووضع النبي في مرتبة أعلى من سائر البشر أقربُ إلى " الملائكة " منهم إلى سائر الخلق = فيستحيل
التكليفُ، وبالتالي يستحيل الثواب والعقاب، ولا يرجع الفضل في العصمة حينئذٍ إلى الرسول، بل إلى الله. وتكون هذه الميزة له وحده دون سائر الأنبياء؛ مثل: دواود، وسليمان
…
وإذا كان الرسول قد تمّ شقّ قلبه من قبل؛ لا ستنزع الشيطان مرة قبل البعثة من كراماته، أو مرة بعد البعثة في بداية الإسراء والمعراج. فكيف يعود إليه من جديد؛ كي يخطئ النبي صلى الله عليه وسلم، فيعينه الله عليه، ويعصمه منه؟)
(1)
وفي تضاعيف كلامه عدّة أَغاليط؛ وذلك لاعتقاده أَنَّ مناطَ العِصمةِ = سلْبُ الاختيار المقتضي للجبر، وأنَّ هذا المناط يترتب عليه انتفاء استحقاق المصطفى صلى الله عليه وسلم للثواب والعقاب!!
وهذا غلطٌ بيِّنٌ.
وعلّةُ ذلك: أن خصيصة العصمة التي مُيِّز بها الأنبياء والرسل عن غيرهم لاتقتضي سلْب الاختيار الذي هو مناط استحقاق الثواب؛ بل حقيقتها مزيدُ عنايةٍ وحفظٍ، وتفضُّلٍ من الله لأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام. هذا الحفظ يستلزم التصوُّن عن مقارفة الذنوب المخلّة بمقام الرسالة وجانب التبليغ. فالتصوُّن ليس جبْرًا؛ كما فهم " حسن حنفي "؛ بل هو فِعْل الرسول الصادر عن اختياره وإرادته، وبه يكون استحقاق الثواب. والثواب والحفظ من مواقعة الذنوب المخلّة هما محض فضْلٍ من الله تعالى على أنبيائه ورسله.
وممّا يبرهِنُ على تمام قُدَرِهم صدورُ الخطأِ منهم الذي لا يقدح في جانب التبليغ والرسالة، وهذا هو نتيجة اجتهادهم الذي هو من فعلهم؛ مما يدلّ على تمام قدرتهم واختيارهم في الاجتهاد؛ الذي يقع أحيانًا مخالِفًا لمراد الله تعالى، فيأتي حينئذٍ التوجيهُ الربّاني الكاشف عن
(1)
من العقيدة إلى الثورة (4/ 212 - 213)
خطأ ما ذهب إليه النبي في اجتهاده؛ لأنهم لا يُقَرّون على خطأٍ أبدًا.
ثم؛ إن الدلائل الشرعية قد أبانت عن حصول التوبة منهم عليهم السلام عند صدور الخطأِ. ومن المعلوم بالبداهة أن التوبة والخطأ المتاب منه؛ كلاهما فعل صادر عن اختيارٍ؛ وإلاّ فكيف يتاب من عملٍ صدَر عن جبْرٍ لا عن اختيار؟!
قال سبحانه حاكيًا عن آدم عليه السلام: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} البقرة. وقال تبارك وتعالى حاكيًا عن خليله إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)} إبراهيم.
وقال عن نبيه سليمان عليه السلام: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} ص.
(1)
فإذا كان الخطأ الصادر عن اجتهاد صادرًا عن قصد واختيار، لا جبْرٍ واضطرار فكذلك الحال بالنسبة لما يتعلق بالطاعات وفعلهم لها، وكذا المعاصي وتركهم إياها؛ فإن التَّرْكَ كان بامتناع منهم؛ كما قال تعالى في شأن يوسف عليه السلام:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} يوسف. فامتنع بإرادته عن مقارفة السوء؛ لرؤيته برهان ربه. فالامتناع من جهته، وتوفيقه لذلك، مع صَرْفِ السوء عنه؛ هو فضلٌ من الله، ولُطْفٌ برسوله عليه السلام:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
وهذا المعنى - أعني: ثبوت اختيار الأنبياء عليهم السلام، وانتفاء الجبر عن أفعالهم مع تحقق العصمة لهم في الوقت نفسه - ظاهرٌ بيِّنٌ. وتكلُّف
(1)
انظر: رسالة في التوبة، للإمام ابن تيمية (1/ 269 - 270= ضمن جامع الرسائل) و: منهاج السنة (3/ 373)، و: مسائل من الفتاوى المصرية (المجموعة الرابعة / 41=ضمن جامع= =المسائل)
الأدلّة عليه ممّا قد يوهم خفاءه، وعدم جلائه؛ وإِنَّما المقصود هو الكشف عن هذا الوضوح لمن غامَ أُفُقُه، وأضحت الدلائل الجليّات في منزلة المعمّيات، والحقائق الواضحات كالمشتبهات!
وأمّا زعمُه أنّ مقتضى هذه العصمة: أن يوضَع النبي صلى الله عليه وسلم في منزلةٍ أعلى من سائر البشر
…
إلخ.
فيقال: هذا ما يعتقدُه أهل الإيمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضلُ الخلق؛ كما أخبر هو عن نفسه، فقال:(أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ فمن سواه إلاّ تحت لوائي، وأنا أول من تنشق الأرض عنه ولا فخر)
(1)
والبراهين الدالّة على تفضيله على جميع الخلق كثيرة، قد بَسَط الكلامَ عليها الأئمة رحمهم الله
(2)
، وجهْلُ " حسن حنفي "؛ لا يضرّ، ولا يقْدحُ في صحّتها وثبوتها.
ولا يلزم من ثبوت إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم نفْيُ وقوع ذلك لغيره من الأنبياء والرسل؛ لكن يبقى الأمر متوقفا على ثبوته؛ فإن لم يثبت عُلِم اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عن سائر إخوانه عليهم السلام، ولا يبعُد ذلك في حقِّه صلى الله عليه وسلم مع كون الدليل نصّ بذلك -؛ لأمرين:
(1)
أخرجه أحمد في "المُسند"(3/ 367 - رقم [10604])، و الترمذي في "جامعه"كتاب "التفسير"، باب "ومن سورة بني إسرائيل"(5/ 288 رقم-[3148])، وابن ماجه في "السنن" كتاب "الزهد"، باب "ذكر الشفاعة" (2/ 1440 - رقم [4308]) و قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وحسّنه بشواهده الألباني في "السِّلسلة الصحيحة"(4/ 100 - رقم [1571])
(2)
انظر - على سبيل المثال -: "الفتاوى الحديثية"لابن حجر الهيتمي (253)، و"رسالة في تفضيل نَبيِّنا على سائر الأَنبياء عليهم السلام"لابن كمال باشا، و"الدلائل العقلية على ختم الرسالة المحمدية"، للعلامة محمود شكري الآلوسي (434 - 447)، و:"خصائص النبي صلى الله عليه وسلم "، لابن الملقّن، و:"دلالة القرآن المبين على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل العالَمين"، لعبد الله الغماري، و "كشف الغُمّة ببيان خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمّة"لأَبي الحسن مصطفى بن إِسماعيل (33 - وما بعدها)
الأول: لِمَا تقرّر من تفضيله على جميع البشر؛ فيكون " إسلام شيطانه " زيادةً في التفضيل، وتكرمةً له صلى الله عليه وسلم.
الأمر الآخر: أنه عليه الصلاة والسلام مبعوثٌ للثقلين، وكان الرسول من قبلُ يُبعَثُ إلى قومه خاصّة فلا يبعد أن يكون تخصيصه بذلك - صلى الله عليه وسلم - زيادةَ عنايةٍ وحِفْظٍ؛ لمُعاناتِه دعوةَ الخلق جميعًا. فتكون هذه المزية لزيادة تكليفه عن تكاليف باقي الرسل عليهم السلام. وثبوت اختصاصه بذلك لا يلزم منه التنقُّص من قدْر إخوانه من سائر الأنبياء عليهم السلام؛ فاعتقاد هذا اللازم لا يقوله مسلم، وقد قال الله تعالى مثبِتًا أصل الفضل:
…
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} البقرة: 253، وقال:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} الإسراء: 55
فثبوت التفضيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتضي نَفْي الفَضْلِ عن غيره من رسل الله عليهم السلام. وهذا الاعتراض، لايفتقر إلى جواب لظهوره؛ وإِنَّما جرى الكلام فيه للكشفْ عن أَغاليط " حسن حنفي ".
ثمّ إنّه أعْمَل يدَ التحريف في حديث شقّ الصدر؛ بأن جعل شق صدره صلى الله عليه وسلم لاستنزاع الشيطان، في حين أن لفظ الحديث:" حظ الشيطان ". وفرقٌ بين اللفظين؛ كما هو واضح.
وإِنَّما صنَع ذلك ليتمَّ له غَرَضُه؛ من اختلاق التناقض بين هذا الحديث، وبين حديث إسلام شيطانه صلى الله عليه وسلم. وهذا صنيع من لا ينشد الحقَّ، ويبتغي الهُدى.
ولزيادةِ نفْي التناقض المدَّعَى؛ يقال:
إنّ هذه العلقة المستخرَج من قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم التي قيل له عندها: " هذا حظّ الشيطان " - فيما يظهر - والله أعلم: هي منفذ ، ومركز إغواء الشيطان في بني آدم، فبانتزاعها منه صلى الله عليه وسلم ينظّف طريق الوحي إلى قلبه، ويأمن النبي صلى الله عليه وسلم من تسلُّط الشيطان عليه بالإغواء والتضليل؛ لكن انتفاء
منْفذ الشيطان ومركز تسلُّطِه لا يعني التخلُّصَ من قرينه، ولا انتفاء الوسوسة؛ فالوسوسة باقيةٌ بعد استخراج حظ الشيطان منه صلى الله عليه وسلم، والإغواءُ مُنتَفٍ؛ إلى أنْ أعانَه اللهُ عليه فأَسْلَمَ.
وهذا المعنى: - وهو: إسلامُ شيطان النبي صلى الله عليه وسلم محْمُولٌ على روايةِ جمهور الرواة أنّ " أسلمَ " بفتح الميم؛ أي: صار الشيطانُ مسلمًا
(1)
وقد ذهب سفيان بن عيينة رحمه الله إلى أن (فأسلمُ) هي بضم الواو لا بفتحها؛ فيكون المعنى = (فأسلمُ أنا من شرِّه) وذلك بناءً على أن الشيطان لا يُسلِم.
وما ذهب إليه الجمهورُ قوي؛ لأمرين:
الأول: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فلا يأمرُني إلاّ بخير)، فما تحاشى منه ابن عيينة من "إسلام الشيطان" يلزمه في قوله:(فلا يأمرني إلا بخير) فأمرُ الشيطان له عليه الصلاة والسلام بالخير يزول به اسم " الشيطان " عنه؛ لكونه أسلم، كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنّ مما يدفع اختيار ابن عيينة رحمه الله: ما جاء في حديث عائشة< السَّالف، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(نعم، ولكن ربّي أعانني عليه حتى أسلمَ)
(2)
فقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى أسلم) نفهم منه أن الإعانة ما زالت من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ لغاية إسلام شيطانه.
وهذا مُستفادٌ من جهتين:
الأولى: قرينة السياق؛ فالسياق يُفهَم منه ما سبق توضيحُه.
(1)
انظر: المُفهِم (6/ 402)
(2)
سبق تخريجه في المطلب الأَوَّل.
الثانية: أنّ " حتى " تقع في غالب استعمالاتها للغاية.
(1)
وأمّا جواب الاعتراض الثالث؛ وهو: أنّ الحديث خبرُ آحادٍ؛ وهو لا يفيد إلاّ الظنّ، ولا يقبل فيما يجري مجرى العقائد؛ كما ذهب إليه الشيخ محمد رشيد رضا.
(2)
فيقال: قد سبق بيان أنّ هذا التقسيم باطلٌ من أساسه، ويكفي في بطلانه ما تراه من ثماره الخبيثة؛ من ردٍّ للسُّنن، وجُرْأةٍ على توهين أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحاصل أنَّ هذا الحديث صحيح، رواه مسلم؛ مما يقوّي ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدفع إلى القول بإفادته الحق في الظاهر.
وذيول هذه المسألة قد سبقت عند الكلام على مسألة خبر الآحاد.
وأمّا عتراضهم: بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم وُلِدَ مختونًا؛ فلِمَ لم يولد كذلك مُبرَّءًا قلبُه من حظّ الشيطان؟
(3)
فيقال:
أولًا: هذا سؤال عن حكمة الباري في أفعاله، ومَنْ أسلَمَ قيادَه لربّ العالمين، واطمأَنّ قلبُه لكمال علمِ خالقِه، وتنَزُّه أفعاله عن العَبَث = فمُحالٌ أن يصدُر عنه مثلُ هذا السؤال المتضمّن للاعتراض على حكمته وأفعاله، واللهُ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} الأنبياء؛ بل يخضع خضوع مَن علِم قصورَه وعجزَه في جانب علْم الله وحكمته. وقد امتدح الله هذا الصنف من عباده بقوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} آل عمران: 7.
(1)
انظر: "مغني اللبيب" لابن هشام (166)، و "رَصْف المَباني" للمالقي (257)
(2)
انظر: "تفسير المنار"(3/ 2)
(3)
"مشكل أحاديث الصحيحين"(3/ 302)
وقال حاكيًا عن تسليمهم: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} البقرة: 285.
ثانيًا: مع تسليم أهل الإيمان بكمال حكمته سبحانه في أفعاله وخلقه؛ فقد تلمَّس بعض أهل العلم حكمة ذلك. يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله: (إن هذه الأمور جُعِلت لامتحان العقول؛ كما خلَقَ القلفة وأمر بقطعها، وحوَّل من قبلةٍ إلى قبلةٍ = فمن اعترض على تصاريف الليل والنهار؛ فهو سفيه. وإِنَّما يقع الاعتراض؛ لأنهم يحملون أمره على المُشاهَد، وإنّ مَنْ بَنى، ثمّ هدَم، ثم عاد فبنى كان مستدرِكا أمرًا لم يكن عَمِلَه. فمتى لم يكن مستدرِكا كان بالهدم عابثًا؛ الأمران لا يجوزان على الله تعالى. وأمّا المحقّقون فإنهم يُسلِّمون.
ثم؛ قد بان وجه الحكمة في هذا: أنّ ولادته مختونًا مسرورًا تُبيِّنُ إنعام الحق في حقّه؛ ولو خُلِق سليم القلبِ مما أخرِج في باطنه؛ لم يعلم بذلك. فالإعلام بإخراج شيء كان بقاؤه يؤذي = إنعامٌ آخر على أنّه خلق طاهرًا؛ لكنّه زِيْدَ تنظيف طريق الوحي، وتأكيد أمر العصمة)
(1)
وبعد تقديم الجواب عن هذا الاعتراض؛ يبقى النّظر في أن الجواب المتقدّم، وكذلك صحّة ورود ذلك الاعتراض = مَبْنيّان على فرْض التسليم بأنّه صلى الله عليه وسلم وُلِد مختونًا. أَمَا وقد ذكر المحقّقون من أهل العلم عدم ثبوت ذلك لعدم صحة الأحاديث الواردة في ذلك
(2)
= فلا وجه للاعتراض، ويكون جواب ابن الجوزي رحمه الله مُؤسَّسًا على جهة الفرْض بصحّة الرواية. والله أعلم.
(1)
"مشكل أحاديث الصحيحين"(3/ 302)
(2)
انظر: "زاد المعاد"لابن قيِّم الجوزيَّة (1/ 81)، وله أيضًا"تحفة المَودود"(124)