الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأوَّل: سوق حديث: (بال الشيطان في أُذنه)
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقيل: مازال نائمًا حتى أصبح ما قام إلى الصلاة. فقال: (بَالَ الشّيطان في أُذنِه)
قال ابن مسعود رضي الله عنه: «وايم الله لقد بال في أُذُن صاحبكم الليلة» ــ يعني
…
نفسه ــ متفق عليه
(1)
.
تمهيد:
تَباينت أنظارُ أَهلِ العلم في حقيقةِ البوْلِ المضاف في هذا الحديث إلى الشيطان، وانقسمت مواقفهم إلى ثلاثة مواقف:
الموقفِ الأوّلِ: مَنْ رأى أَن اللّفظ يحتمل الحقيقة والمجاز.
الموقف الثاني: مَنْ أجرى اللفظ على المَجَاز.
الموقف الثالث: مَنْ أجرى الحديث على ظاهره.
وممن تبنى الموقف الأول: جَمْهرةٌ من شرَّاح الحديث وغيرهم، كالقاضي عياض
(2)
، والنووي
(3)
، وابن حجر العسقلاني
(4)
، وزكريا الأنصاري
(5)
، وغيرهم.
(1)
أخرجه البخاري كتاب " التهجد " باب: " إذا نام ولم يُصلِّ بال الشيطان في أذنه "(225 - رقم [1144]-ط: دار السّلام) ومسلم كتاب " صلاة المسافرين "،باب"ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح"(1/ 537 - رقم [774]).
(2)
انظر " إكمال المعلم "(3/ 139 - 140).
(3)
انظر: شرح صحيح مسلم (6/ 64).
(4)
انظر: فتح الباري (3/ 37 - ط دار السلام).
(5)
انظر " منحة الباري "(6/ 213).
وأما الموقف الثاني؛ فذهب إليه: ابن قتيبة
(1)
، وأبو جعفر الطحاوي
(2)
، والخطابي
(3)
. ونُسب إلى إبراهيم الحربي؛ حيث ذكروا عنه في تفسير هذا الحديث قوله: (معناه: ظهر عليه - أي الشيطان - وسخر منه)
(4)
.
وأَمَّا الموقف الثالث؛ فهو ظاهر اختيار الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله؛ حيث قال مُبينًا الشرور التي يتسلط بها الشيطان على الإنسان: (ومن شرّه: أنه يبول في أُذن العبد حتى ينام إلى الصباح، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم .. )
(5)
.
والذي يترجَّحُ - والله أعلم - أَنَّ ما ذهب إليه الإمام ابنُ قيِّم الجوزيَّة رحمه الله والذي يمثل الموقف الثالث = هو ما ينبغي حَمْل الحديث عليه، وذلك للأسباب التالية:
السبب الأول: أن حَمْل بول الشيطان على الحقيقة هو الظاهر، ولا يصح العدول عن الظاهر إلا بدليل مانع يمنع من إجرائه على ذلك.
السبب الثاني: أنه ليس هناك ما يُحيل أن يكون بول الشيطان على حقيقته؛ فالأمر كما قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: (يَصحُّ إبقاؤه على ظاهره؛ إذ لا إحالة فيه، ويفعل ذلك استهانةً به)
(6)
وقد ثبت أن الشيطان يأكل، ويشرب، وينكح = إذا كان ذلك على الحقيقة، فكذلك البول.
ومنع الطحاوي رحمه الله وغيره، حمل ذلك على الحقيقة، وإجرائه له على
(1)
انظر " إكمال المعلم "(3/ 139) .
(2)
انظر: " مشرح مشكل الآثار "(1/ 603 - تحفة الأخيار) .
(3)
انظر " أعلام الحديث "(1/ 635) .
(4)
انظر " شرح صحيح مسلم "(6/ 64) .
(5)
" بدائع الفوائد "(2/ 797) .
(6)
" المفهم "(2/ 407) .
التوسع في اللُّغة؛ حيث قال: ( .. وذكر فيه بول الشيطان في أُذنه؛ أي: فَعَل به أقبح ما يُفعل بالنُّوّام = وليس ذلك على حقيقة البول منه في أُذُنه، ولكن على المَثَل والاستعارة في المعنى .. )
(1)
= لم ينصب عليه برهانًا، وليس في السِّياق ما يعضده هذا من جهة.
ومن جهة أخرى؛ فإن حمْل رحمه الله للبول المضاف إلى الشيطان على الاستعارة، والمَثَل؛ دون ذِكْر القرينة التي تكشف عن مُرادِ المُتكلِّم = يلزم منه أَن طْرد ذلك في الدلائل الأخرى التي أَضافت إلى الشيطان الضحك، والأكل، .. الخ
فإن التزمه رحمه الله ولا إخاله كان يَفْعل - فلا رَيْب في بطلان ذلك الالتزام. وإلا فيلزم في هذا الحديث حمله على ظاهره كما التزمه رحمه الله هو في غيره.
ولو ادّعى مُدّعٍ قيام قرينةٍ عند الإمام الطحاوي لم يُبْدها أَثناء تقريره = للزم من ذلك تصحيح كل تأويلٍ لم يُقِم صاحبُه عليه دليلًا؛ لإمكان قيامها عنده مع عدم كشفه عنها؛ وهذا قول لا أحد يُعظِّم الأدلة ويقدر لها قدرها يلفظ به.
فإن قيل: هذا عين الجمود على الظاهر؛ لاحتمال جريان الخطاب الشرعي على سنن العَرَب في التَوسّع في الاستعمال.
الجواب عن هذا الإيراد، أن يقال: إِنما يصح إطلاق الجمود في حال ما لو أَقام الشارعُ قرينةً في خطابه تُبيْنُ عن مراده، وتكشف عن مقصوده = ثم لم يَرْعها الناظر في كلامه. أَمَّا مع تخلية المقام من القرائن التي توجب الانتقال من هذا الظاهر إلى غيره = فلا جمود حينئذٍ؛ بل صيانةٌ لكلام الشارع.
(1)
" شرح مشكل الآثار "(1/ 603 - تحفة الأخيار) .