الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثَّاني: سوق دعوى المعارض العقلي على أحاديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم
-
تتلخَّصُ المعارضات العقلية على الأحاديث المسوقة فيما يلي:
الأول: وهي شبهة من ذهب إلى إنكار أنَّ للسحر حقيقة أَصلًا، بناءً على أَن إثبات ذلك ينشأ عنه عدم التمييز بين معجزات الأَنبياء، وسحر السَّحرة.
وهذا المسلك جنح إليه طائفة من المعتزلة، وأَبو منصور الماتريدي، وأَبوبكر الجصَّاص، والطَّاهر بن عاشور. وغيرهم ممن تأثَّر بمادّةٍ اعتزاليَّةٍ؛ فإنَّ ذلك مَبنيٌ على التسوية بين جنس معجزاتِ الأَنبياءِ، وجنس سحر السَّحرة وعدّهما من بابٍ واحدٍ.
وفي تقرير ذلك عند المعتزلة، يقول القاضي عبد الجبَّار:(وينقسم السِّحرُ، ففيه ما هو كفرٌ؛ وهو ما يدَّعون من أَنَّه يُمكنهم إحياء الموتى بالحيَل، وطي البلادِ، وأَن يزيلوا عن المصروعِ ما نزل به .. وإِنَّما صار ذلك كُفرًا؛ لأَنّ معه لا يمكنُ التمسُّك بالنُّبوات؛ لأَنّه متى جُوِّزَ في ذلك وإن كان فيه نقضُ عادةٍ، وكان من الباب الَّذي يتعذَّرُ على النَّاس فعلُ مثله أَن يكون من فعل السَّحرة =جُوِّزَ في الأَنبياء صلوات الله عليهم، أَن يكونوا مُحتالين، وإن كانوا فعلوا المعجزات، ولا يمكن معه العلمُ بالنُّبوات، ولا بالفرقِ بين ما يختصُّ الله بالقُدرة عليه وبين مقدور العباد .. )
(1)
فبيِّنٌ من كلام القاضي عبد الجبّار، ظنّه أنَّ في إثبات حقيقة للسحر، ما يلزمُ منه جَريَانُ ما ينقضُ العادة ويخرقها على يد السِّاحر،
(1)
"متشابه القرآن"(102)
فلا يُؤمَنُ أَن يُظنَّ بأن ما يأتي به الأَنبياء هو من قبيل ما جرى على يدِ هؤلاء المحتالين من السَّحرة؛ فيتعذَّرُ على ذلك الاستدلال على النبوة!
وما ضَربه من الأَمثلة مما يدِّعيه السحرة من إحياء الموتى .. إلخ يُبرهن على أنَّه يظنُّ أن في
إثبات حقيقة للسحر ما يقتضي أن يَجْري على يد السَّحرة ما هو من قبيل ما يعجز عنه الإنسُ والجن، لذا تجده في موضعٍ آخر يحصر أَثر السِّحر فيما لا يخرجُ عن الوجه الّذي يحتال أحدنا فيه من أَنواع المضرة، فأَنكر بذلك استطاعة السَّاحر أَن يُلحِق الضّرر بالمسحور على وجه لا يُباشر فيه الساحرُ المسحور بالأَذى، و لمَّا كان حديثُ عائشةَ دليلٌ بيِنٌ على خلاف ما ذهب إليه حيث دلَّ الحديثُ على تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بسحر لَبِيْدٍ دون مُباشرة من لبيد اليهودي له =سارع القاضي عبد الجبَّارُ إلى إنكار الحديث وعدم قَبوله.
وفي ذلك يقول عند تفْسيره لقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} الفلق
(وهذا القولُ لا يدلُّ على أَنَّ النَّفاثاتِ في العُقَدِ، اللاتي كن يعقدن على الخيوط وينفُثن عليه، كُنّ ضارَّاتٍ بالنَّاس على غير الوجه الذي يصحُّ من أَحدنا أَن يحتال فيه من أَنواعِ المَضرَّةِ؛ على ما تقوله الحشوية في أَنَّهنّ كن يسحرن النَّاس، وأَنَّهن سحرن النبي صلى الله عليه،
…
فلا يدلُّ ذلك على أَنَّ للعبدِ سَبيلًا إلى ما يذكرونه في السِّحرِ)
(1)
وقال أبو منصور الماتريدي: (الأَصلُ أنَّ الكهانة محمولٌ أَكثرها على الكذب والمُخادعة والسِّحر على الشُّبه والتخييل)
(2)
بل بالغ أَبوبكر الجصَّاص -عفا الله عنه- فنسب الحديثَ إلى كونه من وضع المُلحدين!! كلُ ذلك بناء على أَصله الفاسد؛ حيث ظنّ أنَّ في إثبات أَن للسحر حقيقة وأَثرًا يستلزمُ إبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام؛ لتعذُّر الفرق حينئذٍ بين المعجزة والسحر، وأنَّ ذلك يقتضي أنّهما من باب واحد. لذا يقولُ مقرِّرًا ذلك: (وقد أجازوا من فعل الساحر ما هو أطم من هذا وأفظع وذلك أنهم زعموا أن النبي عليه السلام سحر، وأن السحر عمل فيه، حتى قال فيه: أنه يتخيل لي أني أقول الشيء وأفعله، ولم أقله ولم أفعله، وأنَّ امرأةً يهودية سحرته في جُف طلعة ومشط ومشاقة
(3)
حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنها سحرته في جف طلعة وهو تحت راعوفة البئر فاستخرج وزال عن النبي عليه السلام ذلك العارض، وقد قال الله تعالى مكذبًا للكفار فيما ادعوه من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال جلَّ من قائلٍ:{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)} الفرقان. ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبًا بالحشو الطغام واستجرارًا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها، وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة، وأنَّ جميعه من نوع واحدٍ، والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى:{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} طه فصدّق هؤلاء من كذّبه الله وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله)
(4)
الثَّاني: أنَّ في إثبات الحديث زَعْزعةُ الثِّقةِ بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم، خصوصًا فيما يتعلق بأْمرِ التبليغ؛ إذ لو جُوِّز أنَّه سُحرَ، وأنَّه كان يُخيّلُ إليه أنه يفعل الأَمر، ولا يفعله فليس هناك عندئذ ما يمنع من جريان هذا التخييل فيما يبلّغُهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم = فتسقطُ عند ذلك الثِّقةُ بالدِّين.
(1)
"المصدر السّابق"(708)
(2)
"التوحيد"للماتريدي (209)
(3)
وردت في إحدى الرِّوايات بهذا اللفظ، و المَشاقة: وهي الواحدة من مشاق الكتَّان، وقيل هي: المشاطة من الشَّعر =انظر: "المفصح المفهم"لابن هشام الأنصاري (241)، "المفهم"للقرطبي (5/ 572)
(4)
"أحكام القرآن"للجصَّاص (1/ 70)
وفي ذلك يقول الشيخ محمد رشيد رضا مُبيِّنًا موقف شيخه محمد عبده: (أنكر الجصَّاص الحديث المروي في ذلك، وكذلك الأُستاذ الإمامُ لمعارضته للقرآن، أَو ما فيه من الشبهة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم حتى في أمر التبليغ، مع أنَّه مرويٌ في الصحيحين؛ لأنَّ من علامة الحديث الموضوع مخالفته للقطعي من القرآن وغيره)
(1)
الثالث: أَنّ السحر من عمل الشيطان، وأَثَرٌ من آثار النُّفوسِ الخبيثة، و لا يقع تأثيرهم إلَاّ على الأنفس الضعيفة، وأَصحاب الطبائع الشهوانيَّةِ ومحال أن يؤثر ذلك على جَسَدِ خير البريَّة صاحب النفسِ الزكيَّة.
(2)
وفي طيِّ هذه الشُّبه تفاريع من الشُّبه النَّقلية التي ظنُّوا أَنَّها عاضدةٌ لدعواهم، وسيأتي في ثنايا هذا البحث الإشارةُ لبعض ما استدلُّوا به لتدعيم ما ذهبوا إليه.
***
(1)
تفسير المنار (9/ 59 - هامش)، وانظر له أَيضًا:"المنار والأَزهر"(97)
(2)
انظر: "تفسير المنار"(9/ 59)، و"السنة النبوية" للغزالي (76)، و" تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة (209)