الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
وبعد
…
فإني أحمد ربي على إعانته لي، وتيسيره إتمام مفاصل هذه الرِّسالة؛ فله الحمد في الأولى والآخرة.
وقبل استتمام القول فيها فإنَّه يُحْسُنُ لَفْتُ النَّظَرِ إلى جُملة من النَّتَائِجُ الكُلِّيَّةِ، ونُبَذِ من التَّوصياتِ العِلْميَّةِ.
فأمَّا النَّتَائِجُ فَيُبْرَم القولُ فيها في القَضايا التَّالية:
القضية الأولى: أَنَّ دعوى مُنَاقَضَةِ الدَّلائلِ النَّقليَّةِ للضَّرورةِ العقليَّة = مَفْهُومٌ بلا ما صَدَق. ومنشأُ هذه الدَّعوى النَّكِدَةِ هو اختراع الخصومة بين برهان النَّقل وبرهان العقل، والبراهينُ لا تتناقض.
القضية الثانية: أنَّ ما يُسمِّيهِ بعض أتباع الطوائف الكلامية: ضوابط لما يقبل التأويل من النصوص، وما يمتنع تسليط التأويل عليه = هو أمرٌ لا تجد له - في كثير من الأحيان - تحقيقًا في تصرُّفاتهم التطبيقية. فالضابط الحقيقي عند هؤلاء هو: عدم جَرَيان النَّصِّ على خلاف معقول الناظر منهم.
القضية الثالثة: أنَّ الأصلَ الجامع، والقاسمَ المُشترَكَ بين الطَّوائف الكلاميَّة والمستغربين من علمانيين وغيرهم = هو الانحرافُ في فَهْم وظيفة العقل. والجنايةُ على الدلائل النقلية تبعًا لذلك.
وأَمَّا حقيقة الفارق بينهما: فَأَنَّ الأُولى - أَعني: الطَّوائف الكلاميَّة -
قَصْدُ تنزيه الشَّريعَةِ عن مُنَاقَضة الضرورة العقلية في الجملة = واقعٌ لهم بالقصد الأول. والإلحادُ في النُّصوص والجنايةُ عليها ليس مرادًا لهم؛ بل وقع نتيجة لانحرافهم في التنظير = وأَمَّا الأخرى. أعني: طائفة العلمانيين - فإنَّ الإلحاد في النصوص، والجناية عليها، والكفر بمصدرها = واقع بالقصد الأول لهم.
القضيَّة الرابعة: أنَّ قبولَ ما دلَّت عليه ظواهر الأخبار بالمعني الذي سبق تحرير معالمه = يُعدُّ فحولةً فكريةً، وعِصمةً شرعيَّةً، وسابلةً لا ينتهجها إلا الراسخون في العلم، الذين انعقدت قلوبهم على يقينٍ بصدقِ ما دلَّت عليه السُّنن. وأمَّا التمحُّل عن الظواهر؛ بالاعتساف في تأويلها، واستنطاقها ما لم تدلَّ عليه، أو ردُّها = فمَهْيَعُ العجَزَةِ؛ مِمَّن كلَّت أفهامُهم، وعَشِيتْ أبصارُهم عن دَرْكِ المقاصد النَّبويَّةِ.
القضيَّة الخامسة: أَنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعة لا ينفُون وقوعَ المحارةِ في الأفهام، والاستشكال لبعض ما دلَّت عليه النُّصوص؛ وإنَّما الذي يأْبَونَهُ: تَرتيب التَّسارُع في الإبطال لتلك الدَّلائل على انقداح الاستشكال. والبَونُ بين النَّهجين واضحٌ.
القضيَّة السَّادسة: أَنَّ ما يقع من بعض أهل العلم المنتسبين للسُّنَّة والجماعة من رَدٍّ لبعض الأحاديث، أو تأويلها = ليس منهجًا مطَّرِدًا، وليس مَبنِيًّا - في أكثر ذلك على إحالة عقليَّةٍ؛ وإنَّما يعتقد النَّاظِرُ منهم في الدَّليل المُعيَّن مخالفته لما هو أقوى منه من الدَّلائل النَّقلية الأخرى، أو الكُليَّات الشرعيَّة، فيأخذ بالأقوى من الدَّلائل بحسب ما استبان له. أو يكون مَردُّ الخطأ عنده نابعًا من تقصيرٍ في تحقيق: مناط الحديث؛ فيلتبس على من لم يعلم مدْركَه = التحقيق: بالتَّأويل.
نعم؛ قد يقع التَّصريح من بعض العلماء بأن مَأْخذ الردِّ مخالَفةُ الحديث لدلالة عقليَّةٍ قاطعةٍ، لكن ردُّ الأحاديث بهذا المأخذ - لندور
وقوعه من المنتسبين للسُّنَّة والجماعة - لا يمكن أن يُعدَّ قانونًا مَنْظومًا من كُلِّيات منهج أَهل السُّنَّةِ والجماعة، ولا يُعرف الردُّ بهذا المسْلك عن أئمة أهل السُّنَّة، وإنَّما وقع من بعض المتأخِّرين من أهل العلم. والردُّ بهذا المسْلك أصالةً = لا يكون إِلَّا غَلَطًا مَحْضًا، وعُدولًا عن السَّنِن الأَبْيَنِ الذي سار عليه أهل السُّنَّة والجماعة.
وعليه فإنَّ هذه المنقولات عن أعيان أهل العلم المُنْتَسبين للسُّنَّةِ والجماعة التي تَرِدُ مشاغبة لما اسْتقرَّ عليه الإجماعُ، أو دَلَّت عليه النُّصوص، والتي يتقاطع فيها قولُ من عُلمت إمامته في الدِّين بقولِ أَصناف المبتدعة؛ فيقع الاتفاق في النتيجة أَو لوازمها، ويقع الافتراق في الأصل المعرفي المنطلق منه = تستلزمُ من النَّاظر أمورًا:
الأول: تحقيق: نِسْبَةِ القول إلى قائله.
الثَّاني: بيان مأْخذ المخالفة.
الثالث: بيان الاختلاف في المقاصد عند التوافق الجزئي؛ لدفع مَعرَّة التوافق الكُلِّي.
الرابع: بيان الحق في المسألة، وحصول المخالفة ممن ينتسب للسُّنَّة لا يستلزم ترك الحق البينِّ لقوله؛ فإنَّ الحقَّ لا يُترك للباطل، وأَيضًا لا تدعو إلى كتمان المخالفة والصدع بمناقضتها للدَّلائل الشرعيَّة.
القضيَّة السَّابعة: أنَّ المتأمل في جملة المسائل العقديَّة التي قرَّرتها السُّنَّة والتي خاض المخالفون لأهل السُّنَّة فيها بغير مستندٍ شرعيٍّ = يجد السُّنَّة لم تنفرد بالدلالة عليها؛ بل اشتركت الدَّلائل القرآنية، والإجماع القطعي في تثبيتها؛ فيتحصَّلُ عندئذٍ بُطلان دعوى المخالفين والمبطلين لتلك الأحاديث، بحجة أنها أخبارُ آحاد. وقد سبقت البرهنة على حُجِّية خبر الآحا، وإفادتِه عند التجرُّد من القرائن = الحقَّ في الظَّاهِرِ.
القضيَّة الثامنة: أنَّ من أعظَم ما امتار به أهل السُّنَّة والجماعة على غيرهم من الطوائف = إصابة النَّظرةِ الشُّموليَّةِ للدَّلائل الشَّرعيَّة. وهذه النظرة مُبتَنَاةٌ على اليقين القاضي بامتناع مُناكَدةِ صحيح المنقول الصريح المعقول. والانحطاطُ عن رتبة هذه النظرة عند كل مخالف لهم = إنَّما يتأتَّى من التقصير في فقه العلاقة بين هذين الدَّليلَيْن.
القضيَّة التاسعة: أنَّ من أعظم أسباب انحسار هيبة الأخبار في القلوب، وتوليد المعارضات عليها = إحدى فاقِرَتَيْن:
الأولى: إمَّا سُقْمٌ في فقه دلالات النَّص؛ فينشأ لدى الغالِط معنًى شائهٌ، يكون لازمه معارضةَ البراهين العقلية.
أو
السبب الآخر: استبطانُ بدْعَةٍ تكون هي الأصلَ، والنَّصُّ تبعًا لهذا الأصل؛ فيحصلُ من ذلك التجاسُر على النصوص بالتأويل لها، أو التأبِّي عن قبولها، وإنكارها.
القضيَّة العاشرة: أهمية توظيف الحقائق العلمية المتعلقة بالكون في نصرة السُّنَّةِ؛ لا على وجه الإبانة عن معاني السُّنَّة بها، أو تحديد كيفيات ما غُيِّب عنَّا = وإِنما على سبيل الكشف عن صدق ما دلَّت عليه السُّنَّة فيما يتعلق بالعلوم الطبيعيَّة. هذا من جهةٍ، ومن جهة أخرى: بيانُ مَدَى قُصور علوم البَشَرِ، وأنَّها مهما بلغت في الاتساع تظلُّ رهينةَ الاستدراكِ، والتمحيص. .
أمَّا التوصيات فتتجلى في الآتي:
أولًا: أنَّه مع تحرير أئمة السلف وضبطهم لقيمة العقل ومجالاته التي يوظَّف فيها، ومحالفة التَّوفيق لهم في البرهنة على أصول الاعتقاد ومسائله؛ ممَّا يُورث لدى الناظر في صنيعهم عِلمًا ويقينا بسلامةِ ما أَصَّلوه، واتِّساتِه مع مقتضى الفطرة = إِلَّا أَنَّك تَلْحظ أنَّ كثيرًا من طلبة
العلم المتأخرين - ممَّن ينتسب إلى هذه المدرسة السَّلفيَّة المباركة - غُفْلٌ عن معرفة هذا البناء المُحكم الذي شاده أسلافُهم، وعن استلهام مناهِجهم في النَّظر في الدَّلائل، والتعامل مع واردِ الشُّبهات؛ للخلوص إلى صافيات الصواب، والنَّجاة من خافيات الخلْطِ والانحراف. والغفلةُ عن ذلك ساقت إلى تَزَعْزُعِ بعض هؤلاء أَمام سَيْلِ الشُّبهات، التي جَهِدَ أصحابُها على صَبْغها بالصبغة العقليَّة البرهانية، مع مناقضَةِ العقل لها = لذا؛ فإنه حَرِيٌّ بِكلٍّ من آنِسَ من نفْسه بصرًا، وفِقْهًا مُفَصَّلًا بأُصول الطريقة السَّلفيَّة، وخبرةً بما يناقضها = أَنْ يسعى جاهدًا في استثمار الدَّلائل الفِطْريَّة؛ للكشف عن الحقِّ، ونُصْرتِه، ودحْرِ الباطل، وإزهاقِه.
ثانيًا: ضرورةُ إقامةِ المحافل والمراكز العلميَّة، والمواقع الشبكية المختصَّة بالسُّنَّة؛ لتتوافر على إصدار الدِّراسات التي تعرِضُ علوم السُّنَّة؛ بخطابٍ برهانيٍّ، يُعْلَمُ به سلامةُ ما أصَّله أئمةُ الحديث وصيارفتُه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى رَصْدُ الشُّبهات والأطاريح الحديثة المُفَوَّقة للسُّنَّة بالجانب الأول، والشبهات المتعلقة بأصول الحديث ومصطلحه بالجانب الثاني والردِّ عليها وإبطالها.
ثالثًا: بدا للباحث أن هناك مسائل ما زالت تفتقر إلى إغناءٍ، وتحريرٍ، منها:
أ- دراسة الأحاديث النبوية المتعلقة بالطِّبِّ، ومدى دخولها تحت مسمى الوحي، والكشف عن اتِّساق وموافقة العلم التَّجريبي لها وعدم مناقضته لما دلَّت عليه السُّنَّة.
ب - دراسة التطور الوظيفي لمصطلح التأويل عند المخالفين لأهل السُّنَّة والجماعة وأثره في التعامل مع النُّصوص الشرعيَّة.
ج - أثر الآليات الغربية الموظَّفة في دراسة النُّصوص المُقَدَّسَةِ - عند
أَصحابها - على التيارات الفكرية المعاصرة، وأثر ذلك عليها في تَفْسير النُّصوص الشرعيَّة.
د- النظرة السَّلفيَّة الشُّموليَّة لظواهر النُّصوص، وضوابط تحصيل الظاهر الحقيقي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين