الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: سَوْق الأحاديث المُدَّعى معارَضتُها للعقل:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبةٌ من الإِيمان) متفق عليه
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع النَّاس إليه فيها أَبصارهم وهو مؤمن) متفق عليه
(2)
.
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من اقتنى كلبًا إلَّا كلب ماشية أو ضاريا
(3)
نقص من عمله كل يوم قيراطان) متفق عليه
(4)
.
وعن أَبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائمٌ رأيتُ النَّاسَ يعرضون عليَّ وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعُرض علي عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه وعليه قميص يجرُّه،
(1)
أخرجه البخاري كتاب "الإيمان" باب "أمور الإيمان"(6 - رقم [9])، ومسلم كتاب "الإيمان" باب "بيان عدد شعب الإيمان "(1/ 63 - رقم [35]) واللفظ لمسلم، ولفظ البخاري (بضع وستون)
(2)
أخرجه البخاري في: كتاب"المظالم" باب "النُّهبى بغير إذن صاحبه"(492 - رقم [2475])، ومسلم في: كتاب"الإيمان"،باب"بيان نقصان الإيمان بالمعاصي "(1/ 76 - رقم [57])
(3)
الضَّاري: الكلب المُعوَّد بالصيد ="النِّهاية"لابن الأَثير (544)
(4)
أخرجه البخاري في: كتاب"الذبائح والصيد"، باب"من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد أو ماشية"(1185 - رقم [5482])،ومسلم في: كتاب"" باب"الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه"(3/ 1201 - رقم [1574])
قالوا: فما أوَّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدِّين) متفق عليه
(1)
.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى، أو فِطْرٍ إلى المصلى فَمَرَّ على النساء، فقال:(يا معشر النساء تصدقن فإني أُرِيتُكُن أكثرَ أهلِ النَّار) فقلن: وبِمَ يا رسول الله؟ قال: (تُكثِرن اللَّعن، وتَكْفُرن العَشِير
(2)
ما رأيتُ من ناقصاتِ عَقْلٍ، ودينٍ أذْهَبَ للُبِّ الرجلِ الحازم مِن إحداكنّ) قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: (أليس شهادةُ المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟) قلن: بلى. قال: (فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُم؟) قلن: بلى. قال: (فذلك من نقصان دينها) متفق عليه
(3)
.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أَضعف الإيمان)
(4)
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (مامن نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلاّ كان له من أمته حواريون
(5)
وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما
(1)
أخرجه البخاري في: كتاب"الإيمان"،باب "تفاضل أهل الإيمان في الأَعمالِ"(8 - رقم [23])،ومسلم في: كتاب"فضائل الصحابة"باب"من فضائل عمر رضي الله عنه "(4/ 1859 - رقم [2390])
(2)
العَشِير: أي الزوج. والعشير: المُعاشر، كالمُصادق في الصديق؛ لأنها تُعاشره ويُعاشرها، وهو فَعيل من العِشْرَة؛ وهي: الصحبة=النِّهاية (617)
(3)
أخرجه البخاري في: كتاب "الحيض"،باب"ترك الحائض الصوم"(65 - رقم [304])، ومسلم في: كتاب""،باب"نقصان الإيمان بنقص الطاعات"(1/ 86 - رقم [79]) واللفظ للبخاري
(4)
رواه مسلم في: كتاب "الإيمان"،باب " باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد"(1/ 69 - رقم [49])
(5)
حواريون: جمع حواري، أي: خُلْصانه وأنصاره=انظر: "النهاية"(240)
لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)
(1)
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ بين الرُّجل وبين الشِّرك و الكُفر ترك الصلاة)
(2)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أسلم المرء فحسن إسلامه، يكفر الله عنه كلَّ سيئةٍ كان زلفها، وكان بعد ذلك القصاص: الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف، والسيئة بمثلها إلَاّ أن يتجاوز الله عنه)
(3)
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجُلٍ من الأَنصار، وهو يَعِظُ أَخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(دعه فإنَّ الحياء من الإيمان) متفق عليه
(4)
.
* * *
تمهيد:
أَبانتِ الأَحاديثُ السالفةُ عن الحقيقةِ الشَّرعيَّةِ للإيمان، وأنّها حقيقةٌ مركَّبةٌ من قولٍ وعملٍ، والمراد بالقول قولُ القلبِ وهو تصديقه الجازم، وقولُ اللّسان، والمُراد بالعمَلِ عمل القلب والجوارح
(5)
،هذه الحقيقة جامعةٌ لِشُعَبٍ تقبل التفاوت، والزيادة والنقص، وعلى ذلك جرت أَقاويلُ أَهلِ السُّنَّةِ، وانعقد إجماعهم، وفي تقرير ذلك يقول الإمام البخاريُّ رحمه الله: (لَقيتُ أَكثر من أَلفِ رَجُلٍ مِن أَهل العلم: أَهلِ الحجاز ومكّةَ، والمدينةِ، والكوفة، والبصْرةِ، وواسط، وبغداد، والشَّامِ، ومِصْرَ، لقيتُهم كرَّاتٍ قرنًا
(1)
أخرجه مسلم في كتاب"الإيمان" باب"كون النهي عن المنكر من الإيمان"(1/ 69 - رقم [70])
(2)
أخرجه مسلم في: كتاب "الإيمان"،باب"بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة "(1/ 88 - رقم [82])
(3)
أخرجه البخاري في: كتاب"الإيمان"،باب"حسن إسلام المرء"(12 - رقم [41])
(4)
أخرجه البخاري في: كتاب "الإيمان" باب"الحياء من الإيمان"(9 - رقم [24])،ومسلم في: كتاب "الإيمان"،باب "بيان عدد شُعب الإيمان"(1/ 63 - رقم [36])
(5)
انظر: "مجموع الفتاوى "للإمام ابن تيمية (7/ 582)
بعد قرنٍ، أدركتُهم وهم متوافرون منذُ أكثر من ست وأَربعين سنة
…
= فما رأيتُ واحدًا منهم يختلفُ في هذه الأَشياءِ =أَنَّ الدِّين قولٌ وعملٌ
…
(1)
وقال الإمامُ الحميدي رحمه الله-أَثناء سَوقه لأصول السُّنة: (السُّنّة عندنا
…
أنّ الإِيمان قولٌ وعمل، يزيد وينقص، لا ينفع قول إلَاّ بعمل
…
)
(2)
وأقوالهم في ذلك متضافرة مبثوثةٌ في كُتُب الاعتقاد
(3)
، وأمَّا الإجماعُ فقد حكاه غيرُ واحد من الأئمة، كأبي الحسن الأشعري، حيث قال:(وأجمعوا على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وليس نقصانه عندنا شك فيما أمرنا بالتصديق به ولا جهل به لأن ذلك كفر وإنما هو نقصان في مرتبة العلم وزيادة البيان)
(4)
والإمام ابن عبدالبرِّ رحمه الله حيث قال: (أجمع أَهل الفقه والحديث على أَنَّ الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلاّ بنيّة، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية)
(5)
والإمام البغوي رحمه الله حيثُ قال: (اتفقت الصَّحابة والتَّابعون فمن بعدهم من علماء السُّنّة =على أَنَّ الأعمال من الإيمان
…
وقالوا: إنَّ
(1)
أخرجه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السّنة "(1/ 172)
(2)
"أُصول السُّنّة"للإمام الحميدي (2/ 546 - ملحق بالمسند) والحميدي (؟ -219 هـ):هو عبدالله بن الزّبير القرشي الأَسدي، أَبو بكر الحميدي المكِّي الحافظ الفقيه، من كبار أئمَّة الدِّين، من تصانيفه:"أُصول السُّنة"،و"المسند"=انظر:"تذكرة الحُفَّاظ"للذهبي (2/ 413)
(3)
انظر: "أَصل السُّنّة واعتقادُ الدِّين "لابن أَبي حاتم الرَّازي (20 - ضمن روائع التُّراث)، و"السُّنّة"للإمام عبدالله ابن الإمام أحمد (1/ 307)،و"شرح أصول اعتقاد أهل السُّنة" للإمام اللالكائي (2/ 911 - 933)،و"الشَّرح والإبانة"للإمام ابن بطة (176 - 178)،و"شرح السُّنة"للمُزني (77 - 78)،و"أُصول السُّنّة"لابن أبي زمنين (207)،و"المُختار في أُصول السُّنة"لابن البنا (93)،و "شرح السُّنة"للبربهاري (31 - 32) وغيرها
(4)
رسالة إلى أهل الثَّغر (272)
(5)
التمهيد (15/ 41)
الإيمان قولٌ، وعملٌ، وعقيدةٌ، يزيدُ بالطَّاعة، وينقصُ بالمعصية، على ما نطق به القرآن في الزِّيادة، وجاء في الحديث بالنُّقصان في وصْفِ النِّساءِ)
(1)
والإمام أَبي الحسن ابن القطَّان رحمه الله حيث نقل الإجماع على ذلك، فقال:(وأجمعوا أَنّ الإيمان يزيد بالطاعة)
(2)
ومستند هذا الإجماع: جُمْلة من الأدلة من الكتاب والسُّنة تدل على وقوع التفاوت في حقيقةِ الإيمان؛ فمن ذلك:
1 -
التنصيص على زيادة الإيمان ونقصانه:
ففي هذه الآيات ردٌ على من منع تفاوت الإيمان، وتفاضله، ودخول الأعمال فيه، وفي تقرير ذلك يقول الإمام محمد بن علي القَصَّاب مُبينًا أوجه الردِّ على المانعين من حصول التفاوت في الإيمان، وكون العمل منه:
(أحدهما: أنه ذكر الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة وجعلها من الإيمان وذلك أنه ذكر قبل "إنما المؤمنون" التقوى وإصلاح ذات البين،
(1)
شرح السنة (1/ 38 - 39) والبغوي (ت 516 هـ): الحسين بن مسعود بن محمد بن الفرَّاء البغوي الشافعي، محي السُّنّة أبو محمد، إمام حافظ له إشراف على المذاهب ونظر، بورك له في تصانيفه، ورُزق فيها القبول التَّام، ومنها:"شرح السُّنّة"،و"معالم التنزيل"، و"التهذيب"=انظر:"السير"(19/ 439)
(2)
"الإقناع في مسائل الإجماع"لابن القطَّان (1/ 8) وابن القطان (562 - 628 هـ):هو علي بن محمد بن عبدالملك بن يحي الحميري الكتامي الفاسي، قاضي الجماعة المعروف بـ=ابن القطَّان، أحد الأئمة الحفّاظ النقاد، صاحب بصر بصناعة الحديث، من تصانيفه "بيان الوهم والإيهام"،و"النَّظر في أحكام النظر"=انظر:"تذكرة الحُفَّاظ"(4/ 1407)
ثم نَسَقَ في هذه الآية عملًا بعد عملٍ وذكر فيها التوكل، وهو باطنٌ.
الثاني: أنه ذكر زيادة الإيمان بتلاوة الآيات عليهم وهم ينكرونه.
الثالث: أنه لم يُثبت لهم حقيقةَ الإيمان إلَاّ باجتماع خصال الخير من الأَعمال الظاهرة و الباطنة، وهم يثبتون حقيقة بالقول وحده.
الرابع: أنَّه -جل وتعالى- قال بعد ذلك كله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ} الأنفال: 4 وقد أثبت لهم الإيمان بشرائطه وحقيقته، وهم لا يجعلون للمؤمن في إيمانه إلَاّ درجة واحدة، ولا يجعلون للإيمان أجزاء
…
)
(1)
فوقوع التفاضل في الأعمال الظاهرة =يقتضي التفاضل في موجب ذلك وسَببه الذي في القلب
(2)
.
وقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} المدثر: 31
وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [آل عمران 173].
إلى غير ذلك من الأدلَّة المصرحة بزيادة الإيمان ونقصانه.
2 -
دلالة الأدلة على زيادة الهدى، والسكينة، وغير ذلك:
فالهدى والسكينة عملان من أعمال القلب يقع فيهما التفاضل، والتفاوت، والزيادة والنقص، فمن ذلك:
(1)
"نُكت القرآن"لابن القصَّاب (1/ 461 - 462)
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى"(7/ 563)
قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} مريم: 76
وقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)} الكهف
ومن الأدلة كذلك الدّالة على تفاوت الإيمان:
3 -
ما جاء مصرحًا به في الحديث - الذي سبق سوقه - أنّ الإيمان شُعب:
فحديث الشُّعَب حجة واضحة على تفاوت الإيمان لكونه شُعَبًا متفاوتة متعددة، يقول الإمام الخطّابي: (فقد ثبت
…
أنَّ الإيمانَ اسمٌ ينشعبُ إلى أُمور ذات عدد جِمَاعُها الطاعةُ، ولهذا صار من صار من العلماءِ إلى أَنَّ النَّاسَ متفاضلون في دَرَجِ الإِيمان، وإن كانوا متساوين في اسمه)
(1)
4 -
ومن الأوجه الدّالة على تفاوت الإيمان =أحاديث الشَّفاعة.
فهي من أوضح الدلائل على وقوع التفاضل كماجاء في الحديث الصحيح حديث الشفاعة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ومثقال ذرة)
(2)
.
(1)
"أعلام الحديث"(1/ 142)
(2)
أخرجه البخاري كتاب"الإيمان" باب" زيادة الإيمان ونقصانه"(13 - رقم [44]) ومسلم كتاب "الإيمان " باب " أدنى أهل الجنة منزلة"(1/ 182 - رقم [193]) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
فهذا الحديث -وغيره من الأحاديث المتضافرة المتواترة التي سيأتي بيانها في المبحث القادم بإذن الله-عَلَمٌ على تبعُّض الإيمان، وتفاوته في القلوب، وأنه ينقص حتى لا يبقى منه إلاّ ما يزن شعيرة، أو ما يَزِن ذرة كما هو منطوق الحديث.
يقول الإمام ابن خزيمة رحمه الله: (مع البيان الواضح أنَّ النَّاسَ يتفاضلون في إيمان القلب ضد قول من زعم من غالية المرجئة أن الإيمان لا يكون في القلب، وخلاف قول من زعم من غير المرجئة أنَّ الناس إنما يتفاضلون في إيمان الجوارح الذي هو كسب الأبدان فإنهم زعموا أنهم متساوون في إيمان القلب الذي هو التصديق وإيمان اللسان الذي هو الإقرار
…
)
(1)
إلى غير ذلك من الأوجه الدَّالة على تفاوت الإيمان، وتفاضله.
وقد خالف في هذه الحقيقة طائفتان:
الأولى: المرجئة. بجميع فرقها الّذين اتفقوا على إخراج العمل عن مُسمى الإيمان، والمنع من وقوع التفاوت فيه
(2)
.
والأُخرى: الوعيدية. بفرقتيها الخوارج والمعتزلة. ومحصّل مواقفهم من هذه الأحاديث، إمَّا ردّها معتلِّين في ذلك بكونها أخبار آحاد لاتفيد اليقين، وإمَّا تعطيلها عن دلالتها بتسليط التأويل عليها.
ومن أمثلة هذا التأبي: ماتراه عند الجويني؛ حيث أبى قبول حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة)
(3)
؛لكونه خبرَ آحادٍ. وفي ذلك يقول: (وأَمَّا الحديث فهو من الآحاد، ثُمَّ هو متروك. والعرب تسمي
(1)
كتاب التوحيد (2/ 703 - 702) وابن خزيمة (223 - 311 هـ):هو محمد بن إسحاق بن المغيرة بن صالح، أبو بكر السُّلمي النيسابوري الشَّافعي، إمام الأئمة الحافظ الحجّة الفقيه، كان يُضرب به المثل في سعة العلم والاتقان، من تصانيفه:"الصحيح"،و "كتاب التوحيد"= انظر:"سير أعلام النُّبلاء"(14/ 365)،و"طبقات الشافعية"(3/ 109)
(2)
انظر: "مقالات الإسلاميين"لأبي الحسن الأَشعري (132)، و"البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان"للسّكسكي (33)
(3)
تقدم تخريجه في المطلب الأوَّل
الشيء إذا دلّ عليه، أو كان منه بسبب
(1)
فالحديث عنده ليس بحجة؛ لكونه خبر آحاد، واشتغاله بتأويله مع صراحة الحديث=إنما هو على ما جرى عليه المتكلمون من أنّ ذلك على سبيل التبرع! لذا أعمل أَبو العبَّاس القُرطبي التأويل على حديث الشُّعَب، فلم يعدّها -أي الشعب- من حقيقة الإيمان، وإنّما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم عليها إيمانًا من باب التوسُّع المعروف في لغة العرب. وفي ذلك يقول:(الإيمان في هذا الحديث يراد به الأعمال، بدليل أنه ذكر فيه أعلى الأعمال، وهو قول: لا إله إلا الله، وأدناها أي أقربها = وهو إماطة الأذى، وهما عملان فما بينهما من قبيل الأعمال، وقد قدمنا القول في حقيقة الإيمان شرعًا ولغة، وأن الأعمال الشرعية تُسمى إيمانًا مجازًا وتوسعًا؛ لأنها تكون عن الإيمان غالبًا)
(2)
ويقول ابن الملك: (لمَّا كانت الأعمال الصَّالحة خُلُقًا لأَهل الإيمان، وإّنها مِن جُمْلة الدلائل عليه =أُطلِق اسم الإيمان عليها مجازًا)
(3)
ويقول القاضي عياض رحمه الله في شرحه لحديث الجهنميّين: (وقوله: "من وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان " و"من خير" و" أدنى أدنى" على ماوردت في ألفاظ الحديث. قيل: من اليقين. والصحيحُ: أنَّ
(1)
"الإرشاد" للجويني (398 - 399)
(2)
"المُفهم"لأَبي العبَّاس القرطبي (1/ 216) والقرطبي (578 - 656 هـ):هو أحمد بن عمر بن إبراهيم الأَنصاري المالكي، مُحدِّث من كبار الأئمة، من تصانيفه "مختصر الصحيحين"، و"المُفهم في شرح مختصر مسلم"=انظر:"شذرات الذَّهب"(7/ 473)
(3)
"مبارق الأزهار "لابن الملك (2/ 379)
معناه شيء زائد على مجردِ الإيمان؛ لأن مجرد الإيمان الذي هو تصديق لايتجزأُ، وإنما يكون هذا التجزؤُ لشيء زائدٍ عليه
…
)
(1)
.
وفي شرح حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على رَجُلٍ من الأَنصار يعظُ أَخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (دَعْه فإنَّ الحياء من الإِيمان)
(2)
يقول الكرماني مُجيبًا على من استشكل عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم الحياء شعبة من الإيمان:
(فإن قُلتَ: فإذا كان الحياء بعض الإِيمان، فإذا انتفى الحياء انتفى بعض الإِيمان، وإذا انتفى بعض الإِيمان = انتفى حقيقةُ الإِيمان؛ فيلزم أَن الشخص إِذا لم يستحِ يكون كافرًا.
قلتُ [القائل الكرماني]:المرادُ من الإيمان، هو الإيمان الكامل. والتقريبُ ظاهر =نعم لو قيل: الأَعمالُ داخلةٌ في حقيقة الإيمان =لكان مُشْكلًا)
(3)
بل إنَّ أنور شاه الكشميري أَخذ يطعن في الأحاديث المُصرِّحة بالتفاوت، وأنَّ ما دل عليه القرآن كاف في تقرير هذه المسألة، وفي ذلك يقول: (واعلم أن إطلاق الإيمان على الأعمال مما لا يمكن إنكاره، فقد
(1)
"إكمال المعلم"للقاضي عياض (2/ 825) والقاضي عياض (476 - 504 هـ) هو: عياض بن موسى بن عياض بن عمرو، أبوالفضل اليَحْصَبي الأندلسي، ثم السبتي، أحد أعلام المالكية استبحر من العلوم، وسارت بتآليفه الرُّكبان، ومن مؤلفاته "مَشَارق الأَنوارِ"،و"الشِّفا"=انظر:"سير أعلام النُّبلاء"(20/ 212)
(2)
سبق تخريجه في المطلب الأوَّل.
(3)
"الكواكب الدَّراري في شرح صحيح البخاري"للكِرماني (1/ 121) و الكرماني (717 - 786 هـ):محمد بن يوسف بن علي بن عبد الكريم الكرماني الشَّافعي، طاف البلاد، ودخل مصر والشّام والحجاز والعراق، ثم استوطن بغداد وتصدى لنشر العلم بها نحو ثلاثين سنة، كان مقبلًا على شأنه مُعْرضًا عن أبناء الدُّنيا، من مؤلفاته:"شرح صحيح البخاري"=انظر: "شذرات الذهب"(8/ 505)
تواتر به الحديث، لكن القرآن على خلافه، فإنه ينبي أن الإيمان هو التصديق وحده من غير أن يعتبر من العمل
…
بقي الجواب عن إطلاق الإيمان على الأعمال في الحديث، فلا ننكر أنه أيضًا إطلاق، لكن لا ينحصر فيما قالوه
(1)
، بل يجوز أن يكون من إطلاق الكل على الجزء كما فهموه، ويجوز أن يكون من باب إطلاق المبدأ على الأثر كما فهمنا، المبدأ هو الإيمان، والعمل أَثره ولو انحصر الأمر في أن الحديث أطلق الإيمان على الأعمال، والقرآن جعلها له، يعطفها عليه = كان اتِّباع القرآن، والتأويل في الحديث هو الأَوْلى.
فالحقيقة أدّاها القرآن، والحديث ورد على اعتبار؛ لأن القرآن يؤدي الحقيقة ويوفي حقها، والحديث قد يرد على المصالح ويراعيها أيضًا = فإن شئت أخذ الحقيقة كما هي فلا تجدها إلاّ في القرآن. . .)
(2)
فهذا النصُّ يلوحُ منه كيف أنَّ الحمية للمذهب - وإن كان باطلًا - تحمل صاحبها على ارتكاب الشناعات.
والمأْخذُ الذي انطلقت منه هاتان الطائفتان =كان مأْخذًا عقليًّا استولد لوازمَ متناقضة التزمت كلُّ فرقةٍ هذه اللَّوازمَ، واستدلَّ لها أَصحابُها بشبهاتٍ مُركَّبةٍ من دلائلَ عقليةٍ ونقلية= وليس الغَرَضُ في هذا المقام استقصاء هذه الشبهات واللوازم على جهة التفصيل وإبطالها. بل الذي نُصب البحثُ لأَجله هو بيان المستند الذي ارتكز عليه المخالفون في باب الإيمان، والذي كان سببًا لردِّ، أو تأويل وتعطيل تلك النُّصوص عما أَبانت عنه = ودفعه على وجه تحصل به الغاية.
(1)
يعني: ما ذهب إليه السلف الصالح.
(2)
"فيض الباري"للكشميري (1/ 53 - 58) وأَنور شاه الكشميري (1292 - 1353 هـ):هو محمَّد أنور شاه الكشميري الدِّيوبندي كان مُتقلِّدًا مذهب الماتريدية في الأُصول، ولمذهب الحنفيَّة في الفروع، درَّس في دار العلوم بـ"ديوبند" الكتب السِّتة، من مُصنَّفاته:"العَرف الشذي على جامع الترمذي "،"مُشكلات القرآن"=انظر: ترجمة له في تقدمة "مجموعة رسائل الكشميري" للشيخ عبدالفتَّاح أبي غُدَّة (7 - 24)