الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: سَوق دعوى المعارض العقلي على حديث (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان):
ومما أورده المخالفون من المعارضات العقلية على هذا الحديث؛ ما يلي:
أولًا: أنّ إبليس لو تسلّط على النّاس لينخسهم لامتلأت الدنيا صراخًا وعياطًا من نخْسِه:
وقد أبدى هذا الاعتراض: "أبو القاسم الزمخشري"، فقال:(أمّا حقيقة المَسّ والنّخس كما يتوهّم أهل الحشو = فَكَلَّا. ولو سُلِّط إبليس على النّاس لامتلأت الدُّنيا صُراخًا وعياطًا مما يبلونا به مِنْ نَخْسِه)
(1)
.
وتابَعه على هذا الاعتراض: "ابن الملك"؛ حيث مَنَع حمْل النخس على المسّ الحسّي، وأوَّله على أن المراد به هنا: الإغواء - كما تقدّم عند الزمخشري- وعِلّة منْعه: أن الحمْل على الحقيقة ممتنع عقلًا. وفي تقرير ذلك يقول: (ذهب الشارحون إلى أن المراد به: المسّ الحسّي
…
وفيه نظر؛ لأن استعاذتها تجوز أن تكون من الإغواء، لا من المسّ؛ ولأن الاستعاذة كانت بعد وضْعها، والمسُّ إنما كان بحال الولادة. على أنّ العقل يأبى مما قالوا؛ لأن الشيطان لو سُلِّط على النّاس بنخْسهم لامتلأت الدنيا صراخًا. والأوْجَهُ: أن المراد من المسّ الطمعُ في الإغواء، لا حقيقة المسّ.
فإن قيل: لو كانت كذلك لما اختصّ مريم وعيسى بالاستثناء؛ لأنّ المخلصين كلهم كذلك.
(1)
"الكشاف"(ص 170).
أجيب: بأن المعنى - والله أعلم -: إلاّ مريم، وابنها، ومَن في معناهما. وإليه أشار القاضي عياض.
أقول: هذا الجواب على تقدير أن يكون عدم مسِّ الشيطان من الفضائل؛ فإذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل وأعلى = كان الاتصاف به أولى. وأمّا إذا كان من خصائصهما فلا يلزم أن يوجد في نبينا عليه السلام؛ إذْ كم من مفضول موصوف بخاصّية لا توجد إلاّ في الفاضل منه!
فإنْ قلتَ: لو لم تثبت حقيقة المسّ لم يترتّب عليه استهلال الطفل =
…
أُجيب: بأن استهلاله تخييل لطمع الشيطان؛ كأنْ يمسّه بيده، ويقول: هذا ممن أُغْويه
…
)
(1)
.
فأنت ترى أن "ابن الملك" ما هو إلاّ مُشَقِّقٌ لاعتراض الزمخشري، ومفصّل لجوابه.
وقد ارتضى اعتراض الزمخشري من المعاصرين: "إمام حنفي"؛ حيث نقل كلام الزمخشري بمعناه، وأشار إليه
(2)
، وحمَل على ابن المنيِّر في نقده للزَّمَخْشري؛ كما سيأتي -إن شاء اللهُ- بيان غلطه في ذلك.
ثانيًا: أنّ الحديث مناقض لما ثبت في الطب؛ من أنّ سبب صُراخ كلّ مولود حين ولادته هو: دخول الهواء لأول مرة لرئته.
ثالثًا: أن زوجة عمران (أم مريم) ليست الوحيدة في الدنيا التي أعاذت وليدها وذرّيته من الشيطان الرجيم؛ بل كل مسلم تقيّ يفعل ذلك!
وفي تقرير هاتين الشبهتين يقول "إسماعيل الكردي": (لقد ثبت في
(1)
"مبارق الأزهار "(2/ 133 - 134) .
(2)
انظر: " إبليس في التصور الإسلامي"لإمام حنفي (ص 42 - 43) .
الطبّ أن سبب صراخ كل مولود حين ولادته هو: دخول الهواء لأوّل مرة لرئتيه، بعد أن كان يتلقى الأوكسجين من دَم أمّه عبر الحبل السّري. ولو لم يبكِ لاختنق.
ثم؛ هل زوجة ابن عمران (أم مريم) هي الوحيدة في الدنيا التي أعاذت وليدها وذريته من الشيطان الرجيم؟؟ أليس كلّ مسلم تقي يقول حين الجماع: (اللهم جنّبنا الشيطان، وجنّب الشيطان ما رزقتنا)؟ فلماذا لا يعيذُ الله مولوده -حسب الحديث- مِن نَخْسة الشيطان؟ وهل دعاء المسلمين جميعهم غير مقبول)
(1)
.
رابعًا: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشرّ مَنْ له تمييز، والمولود لا تمييز له، ولأنه لو تمكّن من هذا الفعل لجاز أن يُهلِك الصالحين.
المُدلي بهذه الشبهة؛ هو: " القاضي عبد الجبّار". وقد نسبها إليه الآلوسي في تفسيره
(2)
.
(1)
"نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث"(ص 279) .
(2)
"روح المعاني"(3/ 137) .