الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثَّالث: دفع دعوى المعارض العقلي عن أحاديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم
-:
وأما الجواب عن المعارض الأوّل، وهو: دعوى أنَّ إثبات الحديث يلزم منه بطلان النبوة ..
فيقال: لا يلزم عند التحقيق من إثبات تلك الأحاديث بطلان النُّبوّة إلاعندّ من سوّى بين معجزات الأَنبياءِ وبين ما تأتي به السَّحرة والكهان، ولم يثبت فرقًا يعود إلى جنس كلٍّ منهما، ولا فرقًا يعود إلى قصد الخالق، ولا قدرته و لا حكمته.
وأمَّا على قول أهل السُّنّة والجماعة فإنّه لا يلزمُ؛ إذْ الفرق عندهم أجلى من الشَّمس بين آيات الأَنبياء وسحر السّحرة والكُهان في الحدِّ والحقيقة، ومن سوّى بينهما فقد قدح في معجزات الأَنبياء من حيثُ أراد تنزيههم، إذْ جعل الباب واحدًا لا فرق بين آيات الأنبياء ولا سحر السَّحرة، ولذا حتى يسلم باب النبوَّة عند المعتزلة أَنكروا خرق العادة لغير نبي، والتزموا لذلك إنكار السِّحر، وكرامات الأولياء وكلّ ما هو خارق للعادة
(1)
، فخالفوا بذلك مجموع علْمين: الأدلَّة الشّرعيَّة والبراهين العقليَّة الحسيّة الدَّالة على إثبات السحر وأَثره.
وأمّا الأَشاعرةُ فقد شاركوا المعتزلة في أَصلهم الفاسد، وفارقوهم بأن أَثبتوا أَنَّ للسحر حقيقةً وأَثرًا، وجوّزوا أَن يجري على يدِ النبي ماهو من جنس سحر السَّحَرة، وجعلوا الفرق بين آيات الأَنبياءِ وسحر السحرة،
(1)
انظر: "شرح الأصول الخمسة"للقاضي عبدالجبار (568 - 572)، و"النبوات "لابن تيميَّة (1/ 484)
هو مُجرد ادِّعاء النبوّة، وتحدِّي النبي بالإتيان بمثل ما جاء به، وتقريع مُخالفه بتعذُّر مثله عليه
(1)
.
وهذا التفريق باطلٌ؛ إذ حقيقته عدم اختصاص المعجزة بما يُميزها عن غيرها، ثم إنّ في تسويتهم بين جنس آيات الأنبياء وسحر السحرة= سْلبٌ لدلالة تلك الآيات أن تكون دالة بنفْسها على صدق الأَنبياء، فإنّ خاصّية الدليل ما يستلزم المدلول ويختصُّ به، فإن وقعت الشَّركة بينه وبين غيره، لم يعد دليلًا، والأوجه الدّالة على بطلان ما فرق به الأَشاعرة بين آيات الأنبياء وسحر السحرة، لا يفي المقام بذكرها
(2)
.
وما ادَّعاه المعتزلة، ومن وافقهم كأبي بكر الجَصَّاص من أنَّ في ثبوت حديث عائشة رضي الله عنها-وغيرها من الأحاديث الدَّالة على أنَّ للسحر حقيقة =إبطالًا لمعجزات الأنبياء، إذ يستوي حينئذٍ ما يأتون به، وما يأتي به السَّحرة؛ فدعوى غير صحيحة؛ إذ الفرق بين آيات الأَنبياء التي هي خارجة عن مقدور الإنس والجنّ الخارقة لسنن الله الكونية، التي اختصَّ الله بالقُدرة عليها، وسحر السحرة الذي لا يخرجُ عن كونه من العجائب لخروجه عن نظائره وعما اعتاده النَّاس=واضحٌ جلي، ويمكن بيان الفرق بينهما بغير ما ذكر، في الوجوه التَّالية:
الأول: أَن النَّبيَّ صادقٌ فيما يُخْبِرُ به عن الكُتُبِ، لا يكذب قطُّ، ومن خالفهم من السَّحرة والكُهان، لا بدّ أَن يكذب؛ كما قال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)} الشعراء.
(1)
انظر: "البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل" للباقلَّاني (93)، و"النبوات" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 225، 485)، و"حقيقة المعجزة وشروطها عند الأشاعرة " للدكتور عبد الله القرني.
(2)
انظر: "النُّبوَّات"(1/ 230 - 244)
الثَاني: مِن جِهَةِ ما يأمر به الأَنبياء ويفعلونه، وما يأمر به السَّحرة ويفعلونه؛ فإنَّ الأنبياء لا يأمرون إلَاّ بالعدل، وطلب الآخرة، وعبادة الله وحده، وأَعمالهم البرُّ والتقوى، ومخالفوهم يأمرون بالشّرك والظلم ويُعظِّمون الدُّنيا، وفي أَعمالهم الإِثمُ والعدوان.
الثالث: أَن السحر والكهانة، ونحوهما أَمورٌ معتادة معْروفةٌ لأَصحابِها، ليْست خارقةً لعادتهم، وآياتُ الأَنبياءِ، وآياتُ الأنبياء لا تكون إلَاّ لهم ولمن تَبِعَهم.
الرَّابع: أنّ الكهانة والسِّحرَ يناله الإِنسان بتعلُّمهِ، وسَعيه، واكتسابه وهذا مُجرَّبٌ عند النَّاس، بخلاف النُّبوَّةِ فإنّه لا ينالها أَحدٌ باكتسابه.
الخامس: أَنّ النبوَّة لو قُدِّر أَن تُنال بالكَسْبِ، فإِنَّما تُنالُ بالأَعمالِ الصالحةِ، والصدق، والعدل، والتوحيد. لاتحصلُ مع الكَذِبِ على مَن دون الله؛ فضلًا عن أَن تحصُلَ مع الكَذبِ على الله.
السادس: أنّ ما يأتي به السحرة والكهان يمكن أَن يُعارض بمثله، وآيات الأنبياءِ لا يمكن أحد أن يُعارضها بمثلها.
السابع: أَن تلك ليست خارقة لعادات بني آدم، بل كُلُّ ضَرب منها معتادٌ لطائفة غير الأَنبياء؛ وأمَّا آيات الأَنبياء فليست معتادة لغير الصادقين على الله، ولمن صدَّقهم.
الثامن: أَنَّ هذه قد لا يقدر عليها مخلوق؛ لا الملائكة، ولا غيرهم: كإنزال القرآن، وتكليم موسى، وتلك تقدر عليها الجنُّ والشَياطين.
التاسع: أَن النبيَّ قد تقدّمه أَنبياء؛ فهو لا يأمر إلَاّ بجنس ما أَمرت به الرُّسل قبله، فله نُظَراء يَعتَبِر بهم، وكذلك السَّاحر، له نظراء يعتبر بهم.
العاشر: أَن النبي لا يأمر إلَاّ بمصالح العباد في المعاش والمعاد، فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر؛ فيأمر بالتوحيد، والإخلاص، والصدق، وينهى عن الشّرك، والكذب، والظلم. فالعقول والفِطرُ توافقه؛ كما توافق الأَنبياء قبلَه؛ فيصدِّقه صريح المعقول وصحيح المنقول الخارج عما جاء به)
(1)
وأَمّا الكشف عن مدى مخالفة من أنكر حقيقة السحر؛ للضرّورة الحسِّية، فيقال: الأُمم بشتى دياناتهم، وأَعراقهم، واختلاف وديارهم يُثْبتون أنّ للسحر حقيقة، لما يُشاهدونه من آثاره في الواقع من عوارض تُلحق بالمسحور أَلمًا يجده في نفْسه، أَو تصيبه في عقله، أَو تُفرِّق بينه وبين أَهله، أَو تقتله، ولذا ترى الفقهاء يعقدون في مُصنَّفاتهم للسحر مسائل
(2)
، ويبحثون في حكم الآثار المترتبة عليه، فيبحثون مثلًا في التكييف الفقهي لمن قَتَلَ بسحره، والتكييف الفقهي أَيضًا في حكم الساحر من جهة ارتداده وكفره؛ فلو لم يكن للسِّحرِ حقيقة لما بلغ أَثرُهُ إلى حدِّ القتل، وإيقاع التفريق، وإزالة العقل، فالمشاحةُ في ذلك، وإنكاره يُعدُّ مخالفةً لما هو مقتضى الضّرورة الحسيّة.
لذا يقول الإمامُ ابن قتيبة متعجِّبًا من قالة هؤلاءِ: (ونحن نقول: إنَّ الَّذي يذهب إلى هذا، مُخالفٌ للمسلمين، واليهود، والنَّصارى، وجميع أَهل الكتاب، ومخالفٌ للأمم كلِّها: الهند -وهي أَشدُّها إِيمانًا بالرُّقى-، والرُّوم، والعرب في الجاهليّة والإِسلام .. )
(3)
(1)
"النبوات"(1/ 558 - 5560) بتصرّف، وانظر أَيضًا ذات المصدر (2/ 1074 - 1090)
(2)
انظر على سبيل المثال: "المغني" لابن قدامة (11/ 455)، و "روضة الطالبين" للنووي (1589)، و"البيان شرح المهذَّب " للعمراني (9/ 67)
(3)
"تأويل مختلف الحديث"(210) وانظر: "الحجّة في بيان المحجّة"للأَصبهاني (1/ 521)
ويقول أَبو العبَّاس القرطبي: (وبالجملةُ: فهو أَمرٌ مقطوعٌ به بإخبار الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم عن وجوده، ووقوعه. فمن كذَّب بذلك؛ فهو كافرٌ، مُكِّذبٌ لله ولرسوله، منكرٌ لما عُلمَ مُشاهدةً وعِيانًا. ومنكر ذلك: إن كان مستسرًّا فهو زنديق، وإن كان مُظْهرًا فهو مرتدَّ)
(1)
والذي ينبغي الإِشارةُ إليه: أَنَّه مع إنكار أهل العلم على المعتزلةِ ومن تأثَّر بهم في إنكار أَن يكون للسحر حقيقة =إلَّا أَنّه ينبغي أَن يُعلم أَنّ هناك فرقًا بين أن يكون كلُّ صور السِّحر هي من قبيل التخييل الذي لا حقيقة فيه، وبين أَن يكون سحر التخييل ضَربًا من ضروب السِّحر مع وجود مع ما هو حقيقة لا خيال فيه.
فالّذي يُنكره أَهل السُّنّة ومن وافقهم هو الأوَّل لا الثَّاني، فأهل السُّنَّة والجماعة يُقرِّرون أَنّ السحر منه ما هو تخييل، ومنه ما هو حقيقة، ومن قال من أهل العلم: إن السحر حقٌّ، ثم ذهب يستدلُّ على حقيقته بمثل قوله تعالى {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)} طه. فمراده -والله أَعلم - أَن هذا النَّوع من السحر خيال بالنِّسْبَة لما يقع في العين من تحرُّك العِصّي والحبال، حقيقة من جهة ما يقع في قلب النَّاظر إليها من الرَّهبة، والخوف، والاشتباه في أَمره، ومما يدلُّ على ذلك قوله تعالى:{قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)} الأعراف.
فَوصْفُ الله لما جاؤوا به بالعِظَم، هو بالنسبة لما أحدثه تخييلهم، وصنيعهم من أَثرٍ في أَنفُسِ الحاضرين الّذين خُيِّل لهم تحرُّك تلك العصي والحبال وكأنّها تسعى حقيقة. لا أَن التخييل هو في نفس الوقت كان حقيقة، فإنَّ هذا لايقوله أحد؛ إذ هو جمع بين النقيضين، وذلك ممتنع عقلًا.
(1)
"المفهم"(4/ 569)
وبعد الكَشْفِ عن فساد الأَصل الّذي أَنكر المخالفون الحديثَ بسببه =يَسْتَبِين بطلان ردِّهم للحديث، فالحديثُ صحيح لا مطعن فيه لا من جهة إسناده، ولا من جهة متنه، وكلُّ من حاول الطعن فيه من جهة الصناعة الحديثية فقد رام نقض الإجماعَ.
وبيان وجه ذلك:
أَنّ الحديث مما اتفق الشيخان على إخراجه، وما أخرجاه قد أجمعت الأُمّة على تلقيِّه بالقبول
(1)
سوى أَحرفٍ يسيرة جرى بعض الحفَّاظِ على انتقادها أكثرها متعلِّق بالإسناد، ولم يكن هذا الحديث من تلك الأحرف التي استدركها الحفّاظ على البخاري ومسلم.
ومحصّل ذلك: أَنَّ من طعن في هذا الحديث بعد انعقاد هذا الإجماع =فقد وقع في الضَّلالة بعد الهدى لمخالفته سبيل المؤمنين، وعلى رأْسهم الأئمة الأَثبات الّذين هم أعلم النَّاس بما يصحُّ وما لا يصحُّ أن يُنْسَبَ للرسول صلى الله عليه وسلم،. يقول الإمامُ ابن قيِّم الجوزية في الكلامِ على هذا الحديث:(هذا الحديث ثابتٌ عند أَهل العلم بالحديث، مُتلقًّى بالقَبولِ بينهم، لايختلفون في صحته، وقد اعتاص على كثيرٍ من أَهل الكلام وغيرهم، وأَنكروه أَشدَّ الإنكار، وقابلوه بالتكذيب .. وقد اتَّفق أَصحابُ "الصحيحين " على تصحيح هذا الحديث بكلمةٍ واحدة، والقِصَّة مَشْهورةٌ عند أَهل التفسير، والسُّنن، والحديث، والتَّاريخِ، والفقهاء، وهؤلاء أَعلمُ بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَيامه، من المُتكلِّمينَ)
(2)
لذا دَرَجَ أَهل العلمِ على أَنَّ الطاعن في هذا الحديث سواء من جهة
(1)
انظر: "علوم الحديث"للإمام ابن الصَّلاح (28 - 29)، و"نزهة النظر"للإمام ابن حجر (74 - 76)، و "فتح المُغيث" للحافظ السَّخاوي (1/ 92 - وما بعدها)
(2)
"بدائع الفوائد"(2/ 740)
سَنَده أَو متنه = حقيق بوصف: "الابتداع"
(1)
و"الزَّيغ"
(2)
ولا يكون هذا الوصف منهم، إلَاّ لمُناقضته الدَّلائل، وخروجه عمَّا اتَّفقوا عليه.
أَمَّا دعواهم أن في الحديث زعزعة الثقة بما يبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم:
فيقال: ليس في إثبات سحر النبي ما يؤدي إلى القول بتجويز ذلك.
وبيان ذلك: أنّ عصمته صلى الله عليه وسلم في التَّبليغ قد انتصبت البراهين القطيعة على تحقّقِها، وليس ثبوتُ الاعتقادِ بذلك متوقفًا على نفي لحوق السحر به، فالعصمة ثابتةٌ بدلائلِها متحقِّقةٌ ببراهينها في جميع الحالات، ومنها الحالةُ التي هي مَحلُّ النِّزاع.
وفي بيان ذلك يقول الإمام المازري: (وقد أنكر بعض المبتدعةِ هذا الحديث من طريق ثابتة وزعموا أنَّه يحطُّ منصب النبوءة ويشكِّكُ فيها وكُلُّ ما أَدَّى إلى ذلك؛ فهو باطل، وزعموا أنَّ تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع ولعلَّه يتخيل إليه جبريل عليه السلام، وليس ثم ما يراه، أَو أَنَّه أُوحي إليه وما أُوحي إليه = وهذا الذي قالوه باطل وذلك أنَّ الدليلَ قد قام على صرفهِ فيما يبلغه عن الله سبحانه، وعلى عصمته .. )
(3)
ثم إنَّه يقال: إما أن يكون لدى النَّافين براهين ودلائل على عصمة الرَّسول صلى الله عليه وسلم من الخطأ في التبليغ، أوْ ليس عندهم ما يثبتون به ذلك إلَاّ نفيهم لكونه صلى الله عليه وسلم سُحِرَ.
فإن كان الأوَّل: فليس هناك ما يحمل على الطَّعن في الحديث الذي يُثبت ذلك؛ إذ ثبوت عصمته صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم ليس متوقفًا على نفيهم لهذا الحديث.
(1)
انظر: "المعلم"للإمام المازري (3/ 93) وجُلُّ من جاء بعده ارتضى وصفه ونقل كلامه، انظر: على سبيل المثال انظر: "إكمال المعلم " للقاضي عياض (7/ 86)، و"شرح صحيح مسلم "للإمام النووي (14/ 174)، و"فتح الباري"للإمام ابن حجر (10/ 287)
(2)
انظر: "المفهم"(5/ 570)
(3)
"المُعْلِم"للمازري (3/ 93)
وإن كان الدَّليلُ اليتيمُ على عِصْمتهِ، هو نَفْيُ السِّحرِ عنه؛ فهذا باطلٌ لأنَّ قولَهم هذا يستلزم الدَّور؛ إذ معنى ذلك أن يكون الدَّليلُ على عصمته من تضرّره بالسِّحر صلى الله عليه وسلم =هو امتناع السحر عليه. وهذا هو الدَّور بعينه.
ثم إنَّه يقال أَيضًا: إنَّ غاية ما لحقه صلى الله عليه وسلم من أذى السحر لا يعدو أَن يكون عَرَضًا من الأَعراض التي تعتري البشر، ومرض من الأمراض لم يتعد أثرُها الجوارح.
ومع جلاء هذه الحقيقة لمن جمع الرِّوايات وحقق فيها، إلَاّ أنّ العجبَ لا ينقضي حين ترى العلاّمةَ محمدَ رشيد رضا-عفا الله عنه- يغضّ الطَّرف عن حاصل تلك الرِّوايات، وعمّا رقمه أَهل العلم في بيان الحديث، ليعلن تأْبِّيه عمَّا قرّروه في ذلك قائلًا: (ونرى أَكثرَ العلماء قد اسْتقرَّ جوابهم على أَنَّ السِّحر الّذي وقع هو عبارةٌ عن التأثير في جِسْمه صلى الله عليه وسلم دون نَفْسِه الشَّريفة الزَّكيّة العلويَّة
…
لكنَّ الرِّوايات كلَّها مُصرحةٌ بأنَّ تأثير السِّحرِ المزعوم كان في نفسه، وإِدراكه، وتصوّره صلوات الله وسلامه عليه، لا في جسَدِهِ .. وليعْلَم القُرَّاء أَن أَمثال هذه المشكلات في الرِّوايات لا يهتدي إلى تحقيق الحقِّ فيها إلَاّ الذي يُعطي عقله حُرِّية الاسْتقلال فيما قاله أَصنافُ العلماء
…
)
(1)
و المُنْصِفُ سيحاكم الشيخ محمد رشيد إلى دعواه، وسيقيمُ البرهان أَن أَهل السُّنّة ومن تبعهم من أهل العلم قد أعطوا عقولهم حُرِّية الاستقلال في بحثهم لهذا الحديث، فلم يقعوا فريسة لتهاويل المنكرين فبرهانُ أَهل العلم على ما حرَّروه في هذه المسألة أنَّه قد جاء في الحديث قول عائشة رضي الله عنها:(سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنّه يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله)
فقولها: حتى إنّه ليفعل الشيء وما فعله، هو إخبار عمّا علمته من حاله وخبره صلى الله عليه وسلم، فالتخييل يقع في البصر لا في الإِدراك، وإدراكه صلى الله عليه وسلم ينفي وقوع ذلك
…
منه، ومما يدلُّ على ذلك، ما جاء في الرِّواية الأُخرى -التي سيقت في أول البحث -:(حتى كان يرى أنه يأتي النساء و لا يأتيهن)
وقد جاء من مرسل سعيد بن المسيب وعروة بن الزُّبير: (سُحر النَّبيُّ حتى أنكر بَصَرَه)
(2)
فحصيلة هذه الرِّوايات لا تخرج في دلائلها عن أن يكون ما عرض له إمَّا صلى الله عليه وسلم مجرَّدُ تخييل عارضٍ، أَو خَاطرٍ طارئ، أنه قد جاء إلى عائشة وهو عالم أنه لم يجئها، وأنّ هذا الخاطر يعاوده على خلاف عادته
(3)
.
و قد يَرْقى هذا الخاطرُ إلى الظنِّ وهذا الظن ليس مُطَّردًا، وإِنَّما في أَمر خاص من أُمُور الدُّنيا، وهو كونه كان يظن أنه يأتي أهله ولم يكن يفعل ذلك.
ولذا قال الحافظ ابن حجر: (وقد قال بعض العلماء: لا يلزم من أَنَّه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزمَ بفعله ذلك وإِنَّما
(1)
"المنار والأزهر"(101)
(2)
أخرجه عبدالرزَّاق في "المصنَّف" كتاب "الطب" باب"النشرة"(11/ 14 - رقم [19764])، وانظر إكمال المعلم (7/ 87)
(3)
"الأنوار الكاشفة"للمُعلِّمي (249)
يكون من جِنْس الخاطر يخطرُ و لا يَثْبت .. )
(1)
وصدور الظنِّ منه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلّقُ بأمر الدُّنيا ليس بمتتنع وليس هو مما يقدح في عصمته فقد ثبت مثل هذا الظنِّ في واقعة تأبير النَّخل حيث ظنَّ أنّ النخل لايحتاج إلى تأبير
(2)
.
وكظنِّه صلى الله عليه وسلم بعد أنَّ صلى ركعتين أَنَّه صلَّى أَربعًا
(3)
؛ فكما أَنَّ هذا الظن الوارد عنه في قضيتي تأبير النَّخل، والسَّهو لايقدح في عصمته صلى الله عليه وسلم =فكذلك ظنّه بسبب أَثر السِّحر بأنّه يفعل الشيء ولا يفعله لا يقدح في أَمر العصمة. فتجويز الأَوّل دون الثَّاني تحكُّم.
وقد أَوردوا على جهة الاعتضاد لتدعييم دعواهم لإبطال ماثبت في الصحيحين، ما احتجّوا به من الآيات كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} المائدة. من جهة أَنَّ الواردَ في الحديث لا يقوى على معارضة القرآن.
فيقال: ردُّ الحديث لمخالفته للقرآن، لا يتأتَّى إلَاّ بعد توفَّر شَرْطَين:
الأول: أن تكون الآية دلالتها قطعية، والحديث لم يَرْقَ إلى درجة القطعيَّة في دلالته، فيقدم الأوَّل من جهتين: الأولى: لقطعية ثبوته، والثانية: لقطعيَّة دلالته.
الشرط الثاني: أن يتعذَّرَ الجَمْعُ بين الدليلين، فإن لم يتعذّر فقد
(1)
"فتح الباري"لابن حجر (10/ 278)
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب "الفضائل" باب"وجوب امتثال ماقاله شرعًا
…
" (4/ 1835 - رقم [2361])
(3)
أخرجه مسلم كتاب "المساجد" باب "السهو في الصلاة، والسجود له"(2/ 403 - رقم [573])
تقرر في الأُصول أَنَّ الجمع مقدم على الترجيح
(1)
فإذا أمكن الجمع بين الدليلين فليس من السَّائغ إعمال أحدهما جزافًا، فإنَّ حقيقة ذلك رغبة عن السُّنّة التي هي بيان للقرآن بنصِّ كتاب الله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (44)} النحل؛ فضلًا عنْ أنّ ذلك نَظَر للشَّريعة بعين النَّقصِ لا الكمال؛ فمن الثابت أنّ الدَّلائل لا تتناقض، والعدول إلى الترجيح مع إمكان الجمع ليس من طرائق المحققين من أهل العلم.
وما تقرر في علم الأصول من اشتراط ذينك الأمرين حتى يصح المصير إلى الترّجيح =لم يكن مُتحقِّقًا فيما استدلُّوا به، و وجْهُ ذلك: أنَّ الآية ليست نصًّا في الدَّلالة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الإصابة بالسحر؛ ذلك لكون الآية فيها إجمال هذا الإجمال لا يتّضح بيانه إلَاّ بتقدير محذوف دل عليه السِّياق، وهو المعروف عند الأُصوليين بدلالة " الاقتضاء"، ولولا هذا التقدير لفُهم من الآية ما هو خلاف المقصود منها قَطعًا؛ إذ يستحيل أن يكون المقصود بها أَنَّ الله يعصمه من أَشخاص النَّاس؛ إذ كيف يقال ذلك وهو في الأَصل مُرْسَلٌ إليهم فوجب حينئذ المصير إلى التقدير وهذا المقدر لا يخلو:
إمَّا أن يكون أَذى النَّاس، وهذا غير صحيح؛ لأنَّ كلَّ من له أَدنى اطلاع على سيرته صلى الله عليه وسلم يعلم أنَّه صلى الله عليه وسلم، قد ناله من الأَذى كالشَّتم، وإدماء عقبه صلى الله عليه وسلم، وكسر رباعيته، وتأثره من سمِّ اليهودية، وغير ذلك من صنوف الابتلاء التي أراد الله له بها رِفعة المنزلة، وجعله قدوة للسَّائرين على سنته ودربه.
(1)
انظر: "شرح الكوكب المنير"لابن النجار (4/ 609)، و"المستصفى"للغزالي (2/ 395)
فإذا ثبت عدم عصمته من الأذى، فإن السحر مندرج تحت مسماه بلا شك.
وعلى فرض تقدير المحذوف هو الأذى، وأنَّ الله عَصَمه من أَذى النَّاس فإنّه يُحمل على أَذى مَشروط، وهو الأَذى المانع من التبليغ، لا مُطلق الأَذى كما اختاره المحققون من أهل التفسير
(1)
، ويكون ما ثبت في الحديث مخصِّصًا للآية
(2)
، والآية كما اختار ابن كثير مدنية، وهي من أَوَاخر ما نَزَلَ على الرسول صلى الله عليه وسلم، فتكونُ حادثةُ السِّحرِ فيما يظهر-والله أعلم- قبل نزولها فلا تعارض حينئذ؛ لأنَّ بعد نزول الآية عصمه الله من السحر ومن غير ذلك من صُنُوفِ الأَذى، وأمَّا قبل ذلك فلا.
وإن كان المقدَّر هو العصمة من " القتل" كما هو اختيار بعض أَهل التَّفسير
(3)
فحينئذ انْتقضت معارضتهم الحديث بالآية هذا من جهةٍ، ومن جهة أخرى مما يدلُّ على عدم قَطعيَّة دلالة هذه الآية أنَّ الله تعالى، ذكر أَنَّ نبيَّه معصوم من النَّاس، ولفظ " الناس"حسبما تقرَّر في الأُصول من أَلفَاظ العموم
(4)
، ودَلالةُ العامِّ على أَفرادهِ ظنيَّة، كما في قوله تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} آل عمران: 173. ومن المعلوم أَنَّ لفظ " الناس" أريد به في الآية نعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه. وقيل غيره
(5)
وعلى كُلٍّ فليس المقصود به قطعًا جميع الناس.
(1)
انظر: "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (2/ 92)، وبدائع الفوائد (3/ 1174) وبه يُعلمُ عدم صواب ما اختاره الإمام ابن عطيَّة الأَندلسي رحمه الله حيثُ جعل مدار العصمة على القتل والأذى اللاحق بجسمه صلى الله عليه وسلم، دون أَقوال الكُفّار فيه بالقَصْبِ والشَّتم =وهذا خلاف ما صحَّ في السِّير من إلحاقهم الأذى ببدنه صلى الله عليه وسلم.
(2)
انظر: "دفاع عن الصحيحين" للحَجْوي (112)
(3)
كالزَّمخشري. انظر: "الكشَّاف"(301)
(4)
انظر: " البحر المحيط" للزركشي (3/ 95)، و"إرشاد الفحول " للشَّوكاني (1/ 460)
(5)
انظر "زاد المسير"لابن الجوزي (241)
وكذا (النَّاس) في الموضع الثَّاني مراد به خصوص كفار مكة، (لا جميع النَّاس في أقطار الأرض ولو أنَّنا حملنا "الناس" على جميع الناس لكان أوَّلُ الآية يدفع آخرها، فلو كان جميع الناس قالوا هذا القول فمن هم المَقول لهم. فتأْويلُها على بعضِ النَّاسِ هو المُتعيِّن)
(1)
وعلى ذلك يتأتي الجمع بين الآية والحديث، بأن يقال: الآية من العام الذي أُريد به الخصوص، فيُستثنى منها ما قام به لبيد بن الأَعصم من سحر النبي صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا الجواب عن قولهم: إنَّ السحر من عمل الشيطان وأَثَر من آثار النُّفوس الخَبيثةِ؛ فمحال أن يؤثِّر ذلك على جسد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
فيقال: ليس هناك دليلٌ من النَّقل أَو العقل يمنعُ من تسلّط الشيطان على النبي صلى الله عليه وسلم بالأَذى، كيف والدّليل على خلاف ما قرَّروه؛ فقد ثبت أنَّ الشيطان تفلّت بشهاب من نار يريد أن يرميه به وهو في الصلاة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(ألعنُك بلعنة الله)
(2)
؛ بل هو الذي تسلَّط بالوسوسة على أبينا آدم عليه السلام حتى أَخرجَه من الجنَّة، كماقال تعالى:{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)} الأعراف.
وقد تسلَّط على جسد نبي الله أَيُّوب فمرض، فقال تعالى:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} ص.
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (وهذا لا ينافي أَنَّ الشيطان لا سلطان له على مثل أيوب؛ لأن التسليط على الأهل، والمال، والجسد من جِنْس الأَسباب التي تنشأ عنها الأعراضُ البشرية:
(1)
"الدفاع عن الصحيحين"للحَجْوي (113)
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب "المساجد "، باب "جواز لعن الشَّيطان أثناء الصلاة"(1/ 385 - رقم [542])
كالمرض، وذلك يقع للأنبياء فإنهم يصيبهم المرض، وموت الأهل وهلاك المال؛ لأسباب متنوعة، ولا مانع من أن يكون جملة تلك الأسباب: تسليط الشيطان على ذلك للابتلاء
…
)
(1)
فإذا جاز تسلطه على نبي الله أَيوب عليه السلام؛ فما المانع من جواز تسلّطه على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فتسلُّط الشيطان على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى نبي الله أَيوب عليه السلام ليس في العقل ما يمنعه وليس فيه غَضٌّ من منصب النبوة، والدَّلائل الشرعية تدل عليه إمَّا نَصًّا أَو ظاهرًا.
وأمَّا تأويل ابن عاشور رحمه الله لحديث عائشة بنفي أَن يكون لسحر لبيد أَثَر في المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإِنَّما غاية ما في الأمر مصادفة عمل لبيد لعارض ألمَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم =فظنّ النّاس أنّ سحره أثر فيه، وإلاّ لم يكن شيء من ذلك ألبتَّة!! =فهو تأويل متكلَّف ليس عليه أَثَارة من دليل.
وفي ذلك يقول: (وقد تمسّك جماعةٌ لإثبات تأثير هذا النوع من السِّحر .. وينبغي التَّثبُّت في عباراته ثمَّ في تأويله، ولا شكَّ أَنَّ لبيدًا حاول أَن يسحر النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان اليهود سحَرَةٌ في المدينة، وأَنّ الله أطلع رسوله على ما فعله لبيد لتكون معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم في إِبطال سحر لبيد، وليعلم اليهود أَنَّه نبي لا تلحقه أَضْرارُهم، وكما لم يؤثِّر سِحر السّحرة على موسى= كذلك لم يؤثر سحر لبيد على رسول صلى الله عليه وسلم، وإِنَّما عرض للنبي صلى الله عليه وسلم عارضٌ جَسدي شفاء الله منه فصادف أَن كان مُقارنًا لما عمِله لبيد بن الأعصم من محاولة سحره، وكانت رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم إنباء من الله له بما صنع لبيد، والعبارة عن صورة تلك الرُّؤيا كانت مُجملة؛ فإنَّ الرَّأي رموز، ولم يَرد في الخبر تعبيرُ ما اشتملت عليه، فلا تكون أَصلًا لتفْصيل القصَّة)
(2)
.
(1)
"أَضواء البيان"(4/ 852)
(2)
"التحرير و التنوير "(1/ 634)
ولا أَدري ما الّذي ألجأ الإمام ابن عاشور -غفر الله له - إلى ركوب الصَّعب والذّلول لينفي أَثر سحر لبيد، ومن تأمَّل الحديثِ دعاه هذا التأمّل إلى لَفْظِ أَلفاظ هذا التأويل وعدم قَبوله، وذلك للأَسباب التالية:
الأَّول: أَنّ النبي صلى الله عليه وسلم حينما شَعر بأثر السحر عليه دعا ربَّه فكان من دلائل استجابة الله له أن أرسل له ملكين، فكان مما ذكراه والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع أَنه مطبوب، وأَنَّ علة ذلك سحرُ لَبِيْدٍ، فكان المرضُ الّذي أَصاب النبي صلى الله عليه وسلم مرتَّبًا على ذلك السبب الذي صنعه لبيد وسرى أَثره بإرادة الله تعالى =فكيف يقال بعد ذلك: إن المرض كان مُصادفة ومقارنًا لما عَمِلَه لبيد!، ودعواه بأَنَّ ما رآه صلى الله عليه وسلم في الرُّؤيا من نصِّ المَلَكين على سبب مرضه لا يعتمد عليه؛ لكون الرُّؤيا جرت مجرى الرُّموز =لا برهان عليها، وسياق القِصَّة يُبطل ذلك. ومما يوضِّح أنَّ الرُّؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن رموزًا بل هي جَليَّة:
الثَّاني: أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم علم أَنَّ ربَّه أجاب دعاءه، وذلك بإخباره بعلَّة مرضه بواسطة الملكين اللَّذين أَخبراه بما صنع لبيد، ودليل استفادة النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الرُّؤيا علة مرضه =قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:(أَشعرت أَن الله قد أَفتاني، فيما اسْتفتيته) وهذا يكشف استفادة النبي صلى الله عليه وسلم من خَبر الملكين، وإِيقانه بأَنَّ الله أَجاب دعوته، وإلَاّ فما الجدوى من إخبار الله تعالى له صلى الله عليه وسلم بعمل لبيد الّذي قد منع الله أَثره، وترْكه سبحانه بيان ما هو أعظم، والحاجة إليه أَشد =وهو بيان سبب مرض نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فانظر كيف قاد التنزيه البارد لجناب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الطعن في كمال علمه تعالى وحِكْمتِه، وتجهيل النبي صلى الله عليه وسلم في فَهْمِهِ وحُسن ظنِّه بربِّه، فمثل هؤلاء كمن رام أَن يبني قصرًا فهدم مِصْرًا!!
ثمَّ إنَّ الرُّؤيا لم تكن من قبيل الرّموز التي لا تفهم إلاّ له صلى الله عليه وسلم، وبرهان ذلك:
الثَّالث: أَنّها لو كانت كذلك؛ لانْتفَت حكمة سَوق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الرُّؤيا لعائشة رضي الله عنها، فلولا أَنَّها من قبيل الرؤى البيِّنة في نَفْسِها لمن سَمعها =لما قصَّها على عائشة رضي الله عنها دون تعبير لها.
هذا على فرضِ التسليم، بأَنَّ ما رآه المصطفى صلى الله عليه وسلم هو من قبيل الرُّؤيا، لا اليقظة =وإلاّ فليس في الروايات -التي وقفتُ عليها- ما يثبت ذلك، بل لو قيل أَنّ ما رآه صلى الله عليه وسلم كان في اليقظة لَمَا بَعُدَ.
الرَّابع: أَن يقال: التأْويل فرع الإحالة والاستبعاد، وقد سبق بيان أليس في الحديث ما يستحيلُ عقلًا، أَو يمتنع شرْعًا؛ كيف وفي إِثبات ما تضمَّنه الحديث من الفرائد واللطائف، والعِبر، ما لا يتسنى إيراده في هذا المقام، فإذا انتفتِ الإحالةُ، وزال الامتناع =بطَل التأويلُ؛ إذ كلُّ فَرعٍ لا ينبعثُ من أَصْلٍ؛ فهو باطل.
الخامس: أَن يقال: إصابة النبي صلى الله عليه وسلم بسحر لبيد بن الأَعصم لا يخرجُ بحَسَبِ القِسْمَة العقليَّة الحاصرة عن أحد أمور ثلاثة: إمَّا الامتناع، أو الوجوب، أو الإمكان، فأمّا الامتناع فقد تبيّن فساده، وأمَّا الوجوب فلا يتأتَّى هنا، فلم يبق إلَاّ الإمكان، فمن أدخل ما هو ممكن في حيِّز الامتناع مع تقرر إمكانه؛ فهو مُبطل.
فتبيَّن بذلك وَهن التأويل الذي ذهب إليه ابن عاشور وغيره، وأَنَّ الحديث يدلُّ دلالة لا يعتورها غموض في بلوغ أَثر السِّحر إلى جسد النبي صلى الله عليه وسلم واعتلاله-بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم من أَثَرِهِ.