الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: سوق أحاديث الشفاعة
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: (إنّ الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغَ العرقُ نصفَ الأذنِ. فبينا هم كذلك؛ استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيشفع؛ ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذَ بحِلَقِ الباب. فيومئذٍ يبعثه الله مقامًا محمودًا، يحمده أَهلُ الجمع كلُّهم) رواه البخاري
(1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بِلَحْمٍ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ
…
-وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ-، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً، فَقَالَ: (أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِيَ، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ. فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ؛ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ. أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّى غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ؛ نَفْسِى نَفْسِى. اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ. فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا؛ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ.
أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ
(1)
كتاب "الزكاة" باب "من سأل الناس تكثراً"(294 - رقم [1475])
لَهُمْ: إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِى؛ نَفْسِى نَفْسِى. اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِىُّ اللَّهِ، وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ؛ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ. أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ - وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ- نَفْسِى نَفْسِى. اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى. فَيَأْتُونَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ؛ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ. أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا. نَفْسِى نَفْسِى. اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى صلى الله عليه وسلم. فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ، وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ؛ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ.
أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ - وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا - نَفْسِى نَفْسِى. اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَيَأْتُونِّى، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؛ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ. أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ فَآتِى تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّى، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَىَّ وَيُلْهِمُنِى مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِى، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ،
سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ) متفق عليه
(1)
.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ؛ لَا أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ) رواه مسلم
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ؛ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِىٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّى اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأُمَّتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِىَ نَائِلَةٌ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا) متفق عليه
(3)
.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ
…
هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ
…
-أَوْ قَالَ: بِخَطَايَاهُمْ - فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً؛ حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ،
…
فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ
(4)
، فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قِيلَ: يَا أَهْلَ
…
الْجَنَّةِ، أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ. فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ
(5)
تَكُونُ فِى حَمِيلِ
(1)
أخرجه البخاري كتاب "التفسير" باب "قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} الإسراء: 79 "(989 - 990 - رقم [4718]) ومسلم كتاب "الإيمان" باب "أدنى أهل الجنة منزلة فيها"(1/ 184 - 186 - رقم [194]) واللفظ لمسلم
(2)
كتاب "الإيمان" باب "أدنى أهل الجنة منزلة فيها"(1/ 188 - رقم [197])
(3)
أخرجه البخاري كتاب "الدعوات" باب "لكل نبي دعوة مستجابة"(1335 - رقم [6304]) ومسلم كتاب "الإيمان"، باب "قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أول الناس يشفع في الجنة" (1/ 189 - رقم [199]) واللفظ لمسلم
(4)
ضَبَائِرَ: الجماعات في تفرقة، واحدتها ضِبارة=انظر:"النهاية"(538)
(5)
الْحِبَّةِ: بزورالبقول وحَبَّ الرَّياحينوقيل: هونبت صغير ينبت في الحشيش = انظر: "النهاية"(181)
السَّيْلِ
(1)
) رواه مسلم
(2)
.
وعنه أيضًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ. وَلَمْ يَبْقَ إِلَاّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ؛ قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِى نَهْرٍ فِى أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ: نَهْرُ الْحَيَاةِ. فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ، أَلَا تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوْ إِلَى الشَّجَرِ؛ مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ، وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ؟
(3)
) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ! قَالَ: (فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ، فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ. هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ. ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ. فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا.
فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا، أَيُّ شَىْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: رِضَايَ، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا)
(4)
(1)
حَمِيلِ السَّيْلِ: هو ما يجيء به السَّيلُ من طِينٍ، أو غُثاء وغيره، فإذا اتَّفقت فيه حِبَّة واستقرَّت على شطِّ مجرى السَّيلِ؛ فإنَّها تنبتُ في يوم وليلة، فشَبَّه بها سُرعة عَود أبدانهم وأجسامهم إليهم بعد إحراقِ النَّار لها="النِّهاية"(233)
(2)
كتاب "الإيمان" باب "إثبات الشفاعة"(1/ 172،173 - رقم [185])
(3)
أي: ما يكون منها إلى الظل يكون أبيض، وفيه تنبيه على أن ما يكون إلى الجهة التي تلي الجنة يسبق إليه البياض المستحسن، وما يكون منهم إلى جهة النار يتأخر النصوع عنه فيبقى أصيفر وأخيضر إلى أن يتلاحق البياض ويستوى الحسن والنور ونضارة النعمة عليهم=انظر:"فتح الباري"(11/ 558)
(4)
أخرجه البخاري كتاب "التوحيد" باب "قوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة) "(1559 - رقم [7439]) ومسلم كتاب "الإيمان" باب "معرفة طرق الرؤية"(1/ 170 - رقم [183]) واللفظ لمسلم
عن أم سلمة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأبي سلمة بعد ما توفي،
…
فقال: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِى سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِى الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِى
…
عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ
(1)
، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِى قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ
…
لَهُ فِيهِ) رواه مسلم
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوّل منك؛ لِمَا رأيتُ من حِرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة: من قال: لا إله إلا الله؛ خالصًا من قلبه - أو: نفسه-) رواه البخاري
(3)
.
عن أَبي سعيدٍ الخُدْري رضي الله عنه:أَنَّهُ سمِع النَّبيَّ الله صلى الله عليه وسلم وذُكِر عندَهُ عَمُّهُ؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (لعلَّه تَنفَعُهُ شَفاعتي يومَ القيامةِ فَيُجْعلُ في ضَحْضَاحٍ مِن النَّار يَبْلُغُ كَعْبَيهِ يغلي منه دِماغُه) مُتَّفَقٌ عليه
(4)
.
* * *
تمهيد:
دلّت الأحاديث المتقدمة على إثبات أصل الشفاعة ومتعلقاتها. وبإطلاق النظر فيها؛ فإنها لا تخرج عن أربع متعلقات:
المُتعلَّق الأول: الشفاعة لأهل المَوْقف من هول الموقف. وهي المختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم دون سائر الخلق. وجرت تسميتها في القرآن بالمقام
(1)
الغابرين: الباقين=انظر: "شرح صحيخ مسلم "للنووي (6/ 223)
(2)
أخرجه مسلم كتاب "الجنائز" باب "إغماض الميت والدعاء له إذا حضر"(2/ 634 - رقم [920])
(3)
أخرجه في كتاب "العلم" باب "الحرص على الحديث"(27 - رقم [99])
(4)
أخرجه البخاري في كتاب "مناقب الأنصار"باب"قصة أبي طالب"(794 - رقم [3885])، ومسلم في كتاب "الإيمان" باب "شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب"(1/ 195 - رقم [210])
المحمود. كما قال تعالى {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} الإسراء
قال الإمام ابن أبي زمنين: (عَسَى من الله واجبة. والمقام المحمود: الشفاعة
(1)
.
المُتعلَّق الثاني: الشفاعة لأَهل الجنَّةِ. ويندرج تحتها أنواع من الشفاعات:
النوع الأول: الشفاعة لقومٍ أن يدخلوا الجنة بغير حساب
(2)
.
النوع الثاني: الشّفاعة لأَهل الجنة أن يدخلوا الجنة. وهذه مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
النوع الثالث: الشفاعة في زيادة الدَّرجات في الجنة لأَهلها وترفيعها
(4)
.
المتعلق الثالث: الشفاعة لأهل الكبائر. وينطوي تحتها نوعان:
النوع الأوَّل: الشفاعة في قوم استوجبوا النَّار بذنوبهم ألاّ يدخلوها، فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ممن أذن الله له أن يشفع فيهم. وهذا النوع وإن لم يدل على تعيينه دليل صريح؛ كما صَرَّح بذلك الإمام ابن قيمٍ الجوزية، حيث قال: (وهذا النوع -يعني: الشفاعة فيمن استحق دخول النار ألاّ يدخلها- لم أقف إلى الآن على حديثٍ يدلّ عليه. وأكثر الأحاديث صريحةٌ في أن الشفاعة في أَهل التوحيد من أرباب الكبائر إنما تكون بعد دخولهم النار. وأمّا أنْ يشفع فيهم قبل الدخول؛ فلا يدخلون
(1)
تفسير القرآن العزيز (3/ 34)
(2)
انظر: "إكمال المعلم"للقاضي عياض (1/ 824 - ط/الوطن) و"مجموع الفتاوى"(14/ 399)"إثبات الشَّفاعة" للذهبي (21)
(3)
انظر: "تهذيب السنن"(7/ 133) لابن القيم، و"إثبات الشفاعة"(21)
(4)
انظر: "إكمال المعلم"(1/ 824)،و"مجموع الفتاوى"(14/ 399)
= فلمْ أظفَرْ فيه بِنَصٍّ)
(1)
إلَّا أنَّه يَنْدَرِجُ تحت عمومات أحاديث الشفاعة، كقوله صلى الله عليه وسلم:(شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)
(2)
فإن شفاعته لأهل الكبائر من هذه الأمة تتناول شفاعته لهم لبعضهم: ألاّ يدخلها. ولِمَنْ دخَلَها: أنْ يخرج منها.
النوع الثاني: الشفاعة فيمن دخل النار من أهل الكبائر: أن يخرج منها.
(3)
المتعلق الرابع: الشفاعة لأبي طالب أن يخفف عنه. وهذه الشفاعة ليست مناقضةً للدَّلائل القُرآنيةِ التي تنفي نفْع الشفاعة للمشركين؛ لأنَّ الشّفاعةَ المنفيةَ شفاعةٌ مخصوصة بالتخليص من العذاب؛ فإن الشفاعة في الخروج من النار لا تتناول أهل الإشراك. وأبو طالب مات مشركًا، ثُمَّ إنَّه لا تعارض بين عامٍّ وخاص؛ لأَنَّ البناء والجمعَ حينئذٍ متأتٍّ
(4)
ولا خلاف بين أهل السنة والجماعة في الشفاعة وما يتعلق بها، وإنما وقع الخلاف في ترتيبها والزيادة في بعض أنواعها لقوة الدَّليل المُلْحِق لبعض هذه الأنواع.
والدلائل القرآنية تقضي بثبوت أصل الشفاعة: إمّا إثباتًا صريحًا، وإمَّا إثباتًا بالإشارة.
(1)
"تهذيب السُّنن"لابن قيِّم الجوزية (7/ 134)
(2)
أخرجه الترمذي كتاب "صفة القيامة"باب"ماجاء في الشفاعة"(4/ 539 - رقم [2435]) = =قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وأبو داود كتاب "السنة" باب "الشفاعة"(5/ 70 - رقم [4739])،والحاكم في "المستدرك" (1/ 69) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه بهذا اللفظ)
(3)
انظر: "إكمال المعلم"(1/ 824) و"التذكرة"للقرطبي (2/ 774) و"تهذيب السنن"(7/ 133) و"إثبات الشفاعة"(21)
(4)
انظر: "المُفْهم"(1/ 457)
فأما الإثبات الصريح؛ فإنه في سائر موارده جاء مشروطًا لا مطلقًا. ومن تلك الدَّلائل:
- قول الله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} النجم
- وقوله سبحانه: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)} طه
- وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} البقرة: 255
وبإنعام النظر في هذه الدلائل؛ يتحصل أنّ شَرْطَيْ الشفاعة المثبتة = هما:
أولا: إِذْنُ الله للشَّافع أن يشفَع. وانتفاء تحقق الشفاعة إلا بإذنه تعالى متفرِّعٌ عن أَصل؛ وهو: أن الشفاعة مُلْكٌ لله تعالى، لا يشاركه فيها أَحد من الخلق. وهذا الأصل مفهوم من قول الله تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)} الزمر: 43
فإذا تقرر أصل التفرد؛ لزِمَ أن يطلبها المخلوق من مالكها؛ لانتفاء
…
المشارِك، وامتناع المنازِع له سبحانه وتعالى.
الشرط الثاني: رِضا الله تعالى عن المشفوع له. وحقيقة هذا الرضا: أن يكون المشفوع له ممن أَخلص في التوحيد. ومن انتفى عنه هذا المعنى فلا يكون هذا الشرط منطبقًا عليه؛ فإن الله لا يرضى عن القوم الكافرين.
وهذا القَيْدُ مدلولٌ عليه بجملة آيات؛ منها: قول الله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} الأنبياء: 28
فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: (الذين ارتضى لهم شهادة أن لا إله إلا الله)
(1)
ومما يدل على هذا الشرط من السنة: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه)
(2)
فإذا انتفى عن الشفاعة هذان القيدان؛ فإنها حينئذٍ تندرج تحت الشفاعة الملغاة شَرعًا. وهذه الشفاعة الشركية هي التي تعلق بها أَهل الإشراك، وحقيقتها = اعتقادهم أَن للشافع حقًّا يستوجب به على الله شيئًا؛ من جنس ما يستحق به الشفعاء على الملوك والمعظمين في الدنيا، فيجيبونهم إلى طِلبتهم؛ لحاجةٍ إليهم، إمّا رغبةً، أو رهبةً. فتكون إرادة الشافع بهذا المعنى مُقيدةً لإرادة الخالق ومشيئته. وتصوُّر هذا المعنى كافٍ في رَدِّه؛ لذا حَسَم الله مادة التعلق بغيره بإبانته عن تمام ملكه لها.
وهذه الشفاعة المنفية شُحِن القرآن بذكرها؛ كما قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} غافر: 18 وقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} المدثر. والآيات في هذا المعنى لا يفي المقام بذكرها.
وأمَّا إثبات القرآن للشفاعة بما هو دون التصريح، فقول الله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} المدثر: 48 فإنه لما نفى نفع شفاعة الشفعاء عن أهل الإشراك = دلّ ذلك على أَنَّ هناك شفعاءَ يُنتفع بشفاعتهم - بإذن الله - فيمن كان متّصفًا بالإخلاص، مُفارِقًا للشرك. يقول
(1)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (17/ 13) من طريق علي بن أبي طلحة به.
(2)
سبق تخريجه.
ابن عطية رحمه الله مبينًا ذلك: (
…
أَخبرنا تعالى أن شفاعة الشافعين لا تنفعهم = فتقرّر من ذلك: أن ثَمَّ شافعين. وفي صحة هذا المعنى أَحاديث)
(1)
ومن تلك الأدلة غير الصريحة في إثبات الشفاعة: قول الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} الإسراء: 79 والمقام المحمود مُجْمَلٌ؛ تكفلت السُّنة ببيانه. فقد روى أحمد، والترمذي -وحسَّنَهُ- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} الإسراء، سئل عنها؛ قال:(هي الشفاعة)
(2)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا)
(3)
، كل أمة تتبع نبيِّها، تقول: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع. حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود
(4)
.
وبمحصل هذه الدَّلائل؛ انعقد الإجماع على إثبات الشَّفَاعةِ.
قال الإمامُ أَبو زكريا السَّلَمَاسي رحمه الله حاكيًا إجماع أهل السُّنَّة: (وأجمعوا أَنَّ الشَّفَاعةَ حقٌّ)
(5)
(1)
"المحرر الوجيز"(1921)، وانظر:"أحكام القرآن" للقرطبي (19/ 88)
(2)
رواه أحمد في "المسند"(3/ 185) والترمذي في "الجامع"، كتاب "تفسير القرآن"، باب "ومن سورة بني إسرائيل"(5/ 283 - رقم (137)) وحسَّنه، وصححه الألباني = انظر: = ="صحيح سنن الترمذي"(3/ 68 - 69)
(3)
جثا: جَمَاعة= "النهاية"(138)
(4)
رواه البخاري في: كتاب "التفسير" باب "قوله تعالى {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} "(989 - رقم [4718])
(5)
"منازل الأئمة الأربعة"(123) وأبو زكريا السلماسي (474 - 550 هـ):هو يحي بن أبي طاهر إبراهيم ابن أحمد الأزدي السَّلَمَاسي، إمام واعظ ينتحِل مذهب الإمام الشَّافعي في الفروع، من مؤلفاته "باب المدينة"=انظر:"تاريخ دمشق"(64/ 45)
وقال الإمام ابن القطان رحمه الله: (وأجمعوا على أنَّ الإيمان مع القول بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أُمَّتِهِ)
(1)
ومع قيام البراهين على ثبوت الشفاعة إلا أن فريقًا من المخالفين لأهل السنة والجماعة استروحوا إلى مدافعتها وعدم التسليم بها. وحاصل مواقفهم لا تخرج عن موقفين:
الأول: من أنكر الشفاعة أصلًا.
الثاني: من أنكر بعض متعلقاتها.
وممن ذهب إلى الموقف الأوَّل: الدكتور "مصطفى محمود". وهو مضطرب في هذا الباب اضطرابًا عظيمًا، فتارةً ينكر الشفاعة في الظاهر، وتارة يُظهِر استحسان مَنْ أَثبتها بقيودها؛ وإن كان جانب النفي عنده ظاهر التغليب.
وفي تقرير إنكاره يقول: (والقانون العام في ذلك اليوم يوم الدين. . يوم تدان الأنفس بما عملت = أنه لا شفاعة تُجدي ولا شفاعة تُقبَل. . لأنّه لا أحدَ يملك هذه الشفاعة. . فلله الشفاعة جميعًا
…
)
(2)
ويقول عن المقام المحمود: (ويبقى السؤال عن المقام المحمود: ما هو؟ ومَن يكون الموعود به في القرآن؟ ومَن كان المخاطَب بهذه الآيات من سورة الإسراء؟. . المخاطَب هو محمد عليه الصلاة والسلام؛ وحده لا سواه، بلا شك. ولا أحد منّا يعلم موجباتِ هذا المقام المحمود، ولا حدودَه؛ فهو سرٌّ من أسرار الله. والجدل فيه هو جدلٌ بغير علم، ولا نخوض فيه، ونرى أن التفويض أسلم)
(3)
وفي بيان نَفْيه للشفاعة لأَهلِ الكبائر ممن دخل النار، يقول: (ما
(1)
"الإقناع"لابن القطَّان (1/ 63)
(2)
"الشفاعة"لمصطفى محمود (44)
(3)
"المصدر السابق"(47)
ترويه الأحاديث عن أن محمدًا عليه الصلاة والسلام سوف يُخرِج من النار كلَّ من قال لا إله إلا الله. . . هكذا يقول الحديث، وهو ما يخالف صريح القرآن. فالقرآن يقول في محكم آياته:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} النساء: 145)
(1)
وقد انتظم كتابُه هذا فَواقِرَ لا تحصى؛ ليس من حظ هذه المباحث تقصّيها والكشف عنها.
وأما الفريق الآخر، وهم الوعيدية، فإنهم أقرّوا بأصل الشفاعة، وأنكروا بعض متعلقاتها. ويتمركز هذا الإنكار في نفي الشفاعة لأهل الكبائر، وقصروا نفعها على المطيعين والتائبين، وحصروا أثرها على رَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وزيادة المَثُوبات. وفي بيان ذلك يقول القاضي عبد الجبار:(أمَّا قولنا في إثبات الشفاعة فهو معروف، ونزعمُ أن من أنكره أَخطأ الخطأ العظيم؛ لكنا نقول: لأهل الثواب دون أهل العقاب، ولأولياء الله دون أعدائه، ويستشفع صلى الله عليه وسلم في أن يزيدهم تفضيلًا عظيمًا)
(2)
ويقول السَّالمي: (شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مقصورة على التقيّ من المكلَّفين. والتقي هو: مَن جَانَب المحرّمات، وأدّى الواجبات. فلا شفاعة لغيره من الأشقياء
(3)
ولا يظن من قَصْر حصول الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم للمتقي دون أهل الكبائر = تجويزهم شفاعة الشفعاء من الملائكة وغيرهم في أهل الكبائر؛ لأنَّهم إنَّما خصّوا (شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بالذكر دون شفاعة غيره = لأنَّه من لم تنفعه شفاعته؛ لم تنفعه شفاعة غيره بطريق الأَولى)
(4)
(1)
"المصدر السابق"(24)
(2)
"طبقات المعتزلة"(207)، وانظر:"شرح الأصول الخمسة"(690)
(3)
"مشارق أنوار العقول"(374)
(4)
المصدر السابق (375)
ومِن ثَمَّ؛ كان موقفهم من الدَّلائلِ المُتَكَاثِرةِ المُثْبِتة لهذا المُتعلق = لا يخرج عن ثلاثة مَسَالك:
المسلك الأول: إمّا الردُّ لهذه النُّصوصِ الدَّالةِ على نقيض مَذهبِهم؛ فإنَّهم تذرعوا في رَدِّها بذريعتين: إمّا دعوى أنّ هذه الأحاديث مضطربة لا تصحّ
(1)
، أو ادعائهم بأنها أخبار آحاد لا تُقبل فيما سبيله العلم والقطْع
(2)
.
المسلك الثاني: المعارضة لها، ومقابلتها بأدلة الوعيد
(3)
؛ كحديث: (من قتل نفسه بيده، فحديدته في يده يَجَأُ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا فيها أبدًا)
(4)
وكقوله تعالى في آكل الربا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} البقرة. أو بحملهم للأدلة السالبة لنفع الشفاعة في الكافرين =على أهل الكبائر
(5)
؛ كقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)} غافر.
المسلك الثالث: تأويلها وإخراجها عما أراده المتكلم منها. ويتمثل هذا التأويل في الأحاديث الدَّالة على خروج أهل الكبائر من النار على أحد مَعْنيين:
الأول: أَنَّ المراد بها خروجهم من الدنيا من استحقاق العقاب بعد تحقُّقه فيهم.
وفي تقرير هذا المعنى يقول القاضي عبد الجبار: (فأما مايروى
(1)
انظر: "طبقات المعتزلة" للقاضي عبد الجبار (208)
(2)
انظر: "شرح الأصول الخمسة"(672،690)، و "مشارق أنوار العقول"(374 - 375)
(3)
انظر: "طبقات المعتزلة"(210)، و "شرح الأصول الخمسة"(673)
(4)
أخرجه البخاري في: كتاب"الطب"،باب"شُرب السُّم والدَّواء به " (1240 - رقم [5778]) ومسلم في: كتاب""،باب" غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار "(1/ 103 - رقم [109])
(5)
انظر: "مشارق أنوار العقول"(374)
عنه صلى الله عليه وسلم: (يخرج أقوام من النار بعد ما امتحشوا وصاروا فحمًا فحمًا) فإنْ صَحَّ؛ فالمراد به: يخرجون في الدنيا من استحقاق العقاب بعد تحقُّقه فيهم
…
)
(1)
الثاني: أنَّ المرادَ بها المنعُ. إذْ علَّقَ دخول الجنَّةِ بِكَوْنٍ مُحَالٍ لا يكون؛ وهو أن يدخلوا الجنَّةَ وقد صاروا فحمًا. وفي ذلك يقول القاضي عبد الجبَّار: (إن المراد بهِ: التبعيد والمنع من خروجهم من النار؛ حيث شَرَطَ أن يكونوا فحمًا. وما هذا حالُه لا يقع
…
)
(2)
فثَمَّةَ أصلٌ مشترك بين هذه الطوائف انبعث منه إنكار الشفاعة والطعن في نصوصها؛ هو القول بإحباط إيمان مرتكب الكبيرة، والحكم بتخليده في النار؛ بناءً على ذلك.
وانفردت المعتزلة بمَدْركٍ آخرَ بَنَتْ عليه موقفَها من الشفاعة، وهو: القول بالاستحقاق العقلي، وإيجاب التخليد لأهل الكبائر على الله تعالى؛ لئلا تقع التسوية في الثواب والعقاب بين المؤمن والعاصي. هذا المأخذ فرْعٌ عن أصلهم في التحسين والتقبيح العقليين
(3)
.
وعلّة هذا الامتياز عند المعتزلة: أن الخوارج لم يكونوا أَصحاب معقولاتٍ، وقد كان انهماكهم بالتنسُّكِ والقتال لمخالفيهم مانعًا لهم من التوليد والنَّظَر. وأمَّا الإباضية - وهي الامتداد لفرقة الخوارج - فإنهم لا يرتضون مسلك المعتزلة في الإيجاب العقلي، وينكرونه عليهم.
كما أبان ذلك السَّالمي بقوله: (مذهبُ أَهْلِ الاسْتقامَةِ والمعتزلةِ أَنَّ أهلَ الكبائرِ من معاصي الله كانوا مشركين، أو فاسقين مُخلَّدون في النَّارِ دَائمًا. وأَهل الطَّاعةِ مخلَّدون في الجنَّة دائمًا = لكنَّ أهلَ الاستقامةِ
(1)
"طبقات المعتزلة"(210)، وانظر:"شرح الأصول الخمسة"(673)
(2)
"طبقات المعتزلة"(211)
(3)
انظر: "التذكرة" للقرطبي (2/ 607)
يقولون: إنَّ التعذيبَ بعدْلِ الله، والثوابَ بفضلِهِ. والمعتزلةُ يقولون بوجوب ذلك عليه -تعالى عن ذلك-؛ بناءً على أَصلهم الفاسد في التحسين والتقبيح العقليين)
(1)
وبعد التعريج على مواقف المخالفين من نصوص الشفاعة، ينصرف القول إلى بيان المعارضات العقلية التي أوردوها على هذه النصوص؛ ومن ثَمَّ نقدها، والكشف عن فسادها - بإذن الله -.
* * *
(1)
"مشارق أنوار العقول"(384)