الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثَّالث: دفع دعوى المعارض العقلي عن الأحاديث المُتعلقة بالدجال:
الجواب عن المعارض الأول:
أمّا دعوى المخالف بأن أحاديث الدجّال تنافي حكمة إنذار القرآن الناسَ بقرب السَّاعة وإتيانها بغتة؛ فقد سَلَف بيان خطأ هذا القول في المبحث السابق، وما سبق يغني عن تكرار المقال.
أما المعارض الثاني، وهو دعواهم: أن هذه الأحاديث نَسَبت جملة من الخوارق للدجال تضاهي أكبر الآيات التي أيّد الله بها أولي العزم
…
الخ.
فالجواب عن ذلك أن يقال: إنّ منشأ الخطأ عند هؤلاء يرجع إلى إغفال أمرين:
الأمر الأول: النظر في حقيقة دعوى الدجال التي يدّعيها لنفسه.
الأمر الثاني: النظر في ما اقترن بالدجال من أحوال وصفات؛ تبرهن على حقيقة أمره، وتكشف عن زيف دعواه.
فأمَّا الأَمْرُ الأَوَّلُ: فإنَّ دعوى الدجّال التي تصحبها تلك الخوارق = هي دعوى الربوبية، لا النبوّة والرسالة. وعلى هذا؛ فاقتران هذه الخوارق بدعواه، ومضاهاتها لآيات الأنبياء ليست مثار إشكال؛ لكونه لم يدّع الرسالة حتى يقال: إن هذه الخوارق معجزات وآيات قامت مقام تصديق الله له.
فإن قيل: إنّ بادئ أمر دعواه الصلاح، ثم الرسالة، فيقال: ظاهر ما دلّت عليه الأحاديث أنّ هذه الخوارق تظهر بعد دعواه الربوبية؛ لا قبل ذلك. ثمّ لو جُوِّز ظهورها قبل ذلك في حال دعواه الرسالة؛ فإنه لم ينفكّ عن الدلائل والسمات التي تعارض صدق دعواه المقترنة بتلك الخوارق، وهو ما أُشير إليه في:
الأمر الثاني: وهو أنّ الدجال موسوم بصفاتٍ وعلاماتٍ تقوم مقام تكذيبه فيما يدّعيه؛ سواءً من أمر الرسالة، أو أمر الربوبية. وهذه الأمور المُقترنة معه تُبطِل أثر تلك الخوارق، وتزيد اليقين عند المؤمنين بكذبه؛ وإلاّ لما كان للنبي صلى الله عليه وسلم فضلٌ ومزيّة على غيره من الرسل في الإبانة عن أمر الدجال. فإنه عليه الصلاة والسلام قال:(ألا أحدّثكم حديثًا عن الدجال ما حدّث به نبيٌّ قومَه؟) . الحديث
(1)
.
ولَمَا كان في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنْ يخرجْ وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإنْ يخرج ولستُ فيكم فأمرُؤٌ حجيجُ نفسه) فائدةٌ تذكر. فإن مقصودَه صلى الله عليه وسلم بقوله: (فامرؤٌ حجيجُ نفسه) أي: إنْ خرج الدجال ولست فيكم (فليحتج كل امرئ عن نفسه بما أعلمتُه من صفته، وبما يدلّ عليه العقل من كذبه في دعوى الإلهية؛ وهو خبر بمعنى الأمر، وفيه التنبيه على النظر عند المشكلات، والتمسك بالأدلة الواضحات)
(2)
.
والمؤمن ببصيرته يسدِّده الله فينكشِف له في أَزمان الفتن مالا ينكشف لغيره ويتبيَّن له صدق الصادق، وافتراء المفتري، والدَّجال أكذب الخلق، وكَذبه ظاهر، لا ينفق على أهل اليقين، لذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (
…
المؤمن يتبيّن له ما لا يتبيّن لغيره؛ لا سيما في الفتن، وينكشف له حال الكذاب الوضّاع على الله ورسوله؛ فإن الدجال أكذب خلق الله، مع أن الله يُجري على يديه أمورًا هائلة، ومخاريقَ مُزَلزِلة؛ حتى أنّ من رآه افتُتِن به، فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها
(1)
أخرجه البخاري في: كتاب"الأنبياء"باب"قول الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)} نوح: 1 (4/ 134 - رقم [3338]) "،ومسلم في: كتاب"الفتن وأشراط السَّاعة"باب"ذكر الدجال وصفته وما معه"(4/ 2250 - رقم [2936]) .
(2)
"المفهم"(7/ 276 - 277) .
وبطلانها = وكلّما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له، وعرف حقائقها من بواطلها؛ بخلاف القلب الخراب المُظلِم)
(1)
.
فإن قيل: لكن مع وجود هذه الصفات المُخبَر عنها في الأحاديث، والتي تدلّ على كذب الدجال؛ فإنَّ وجود ما يضادّها من الخوارق التي يُجريها الله على يديه = يبعثُ الافتتان به، والحيرة في أمره.
فيقال: نعم هذا حق، فإنّ ما يُجريه الله على يديه فتنة عظيمة، لا يخلص منها إلاّ أهل الإيمان؛ كما قال ذلك المؤمن الذي قتله الدجّال ثم أحياه:(ما كنتُ فيك أشدّ بصيرةً من اليوم)
(2)
. وأمّا من في قلوبهم مرض، والكفرةُ؛ فيزدادون ارتيابًا وفتنةً به. وهذا جارٍ على سبيل الامتحان من الله لعباده.
قال الإمام الخطابي رحمه الله: (وقد يُسأل عن هذا؛ فيقال: كيف يجوز أن يُجرِي الله تعالى آياته على أيدي أعدائه؟ وإحياء الموتى آيةٌ عظيمة من آيات أنبيائه؛ فكيف مكّن منه الدجال؛ وهو كذاب مُفترٍ على الله، يدّعي الربوبية لنفسه؟.
فالجواب: أنّ هذا جائز على سبيل الامتحان لعباده؛ إذ كان منه ما يدلّ على أنّه مُبْطل، غير محقّ في دعواه؛ وهو: أن الدجال أعور عين اليمنى، مكتوب على جبهته كافر، يقرؤه كل مسلم. فدعواه داحضة مع وسْم الكُفر، ونَقْص العور؛ الشاهدَيْن بأنه لو كان ربًّا لقدر على رفع العور عن عينه، ومَحْو السِّمة عن وجهه. وآياتُ الأنبياء التي أُعطوها بريئة عما يعارضها، ونقائضها = فلا يشتبهان؛ بحمد الله)
(3)
.
وعلى هذا؛ فتأويل "أَبي جعفر الطحاوي" رحمه الله لما مع الدجال من
(1)
"مجموع الفتاوى"(20/ 45) .
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
"أعلام الحديث"للخطابي (4/ 2331) .
الخوارق بأنّها تمويهٌ وتخييلٌ لا حقيقة لها = تردّه تلك الأحاديث البيِّنة الدالّة على أنّ ما يُظهِره الله على يديه من أمر السماء؛ بالإمطار فتُمطر، والأرضِ فتُنبت، واتباع كنوز الأرض له كيعاسيب النحل، وقتْله ذلك الشاب ثم إحيائه له = كلّه حقيقة لا مَخْرقة، وليس هناك ما يمنع جريان تلك الخوارق على يديه، والزمن زمن انخراق السنن.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (والذي يظهر من الأحاديث المتقدمة=أنَّ الدجّال يمتحن الله به عبادَه بما يخلقه معه من الخوارق المُشاهَدة في زمانه
…
كله ليس بمَخْرقة؛ بل له حقيقة امتحن الله بها عباده في ذلك الزمان، فيُضِلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا؛ يكفر المرتابون، ويزداد الذين آمنوا إيمانا)
(1)
.
والذي يبدو - والله أعلم - أنّ مَردّ تأويل هذا الإمام لم يكن ناشئًا عن شبهةٍ عقلية؛ بل عن شبهةٍ نقلية؛ كاستدلاله بقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة رضي الله عنه المتقدّم ذِكْرُه - عندما أخبره بخوفه من فتنة الدجال؛ لِما سمعه من أنّ معه جبال خبز، ونهر ماء = قال صلى الله عليه وسلم:(هو أهون على الله من ذلك) ففهِم رحمه الله أنّ ما يُظهره الدجال ليس إلاّ تخييلًا ومَخْرَقةً، لا حقيقة تحتها.
وكذا ما استدلَّ به من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه
(2)
، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الدجال في خفّةٍ من الدين، وإدْبار من العلم
…
) وفيه: (ثم يأمر السماء فتمطر فيما يرى الناس، ويقتلُ نفسًا ثم يحييها فيما يرى الناس)
(3)
.
(1)
"النهاية في الفتن والملاحم "(19/ 193 - 194) وانظر "المفهم"(7/ 273) .
(2)
انظر:"شرح مشكل الآثار"(9/ 410 - 412= ترتيب المشكل) .
(3)
أخرجه الطحاوي في"شرح مشكل الآثار"(9/ 410 - رقم [6770] = ترتيب المشكل) . وأحمد في"المسند"(3/ 367) والحاكم في"المستدرك"(4/ 530) وصححه. وقال الهيثمي: رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح "مجمع الزوائد"(7/ 344) .
والجواب عمّا استدل به: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (هو أهون على الله من ذلك) محتمل معنيين:
المعنى الأول: أَنَّ الدجالَ أهونُ من أن يُجرِي الله على يديه هذه الخوارق؛ وإنما هو تخييل، وسحرٌ يسحر به أعين الناس.
المعنى الثاني: أنه أهون من أن يجعل ما يخلقه الله على يديه مُضلًا للمؤمنين، ومشكِّكًا لقلوب الموقنين.
فلما كان هذا اللفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم محتملًا لكلا المعنيين؛ كان المتعين البحث عمّا يزيل الاحتمال؛ فَوجِد أن الأحاديث الأخرى قد أبانت عن أن ما معه من الخوارق على بابها وظاهرها، فوجب المصير إليها، واتخاذها أصلًا مُحكما يُردُّ إليها ما تشابه من الألفاظ.
قال القاضي عياض رحمه الله: (وقوله في هذا الحديث: قلتُ [أي: المغيرة بن شعبة]: إنهم يقولون: إن معه الطعام والأنهار. قال: (هو أهون على الله من ذلك) أي: من أن يجعل ما يخلقه على يده مُضِلًا للمؤمنين، ومشكِّكًا لقلوب الموقنين؛ بل يزيد الذين آمنوا إيمانًا، وليرتاب الذين في قلوبهم مرض والكافرون)
(1)
.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (فدل ما ثبت من ذلك على أن
…
قوله: (هو أهون على الله من ذلك) ليس المراد به ظاهره، وأنه لا يجعل على يديه شيئًا من ذلك؛ بل هو على التأويل المذكور [يعني: تفسير القاضي عياض؛ السالف الذكر)
(2)
.
وأما استدلاله رحمه الله بحديث جابر رضي الله عنه فلا يستقيم إلاّ بعد التسليم بصحة ثبوته؛ وهذا ما لا يتم له؛ لعلّتين:
(1)
"إكمال المعلم"(8/ 492) .
(2)
"فتح الباري"(13/ 116) .
العلة الأولى: أن مداره على أبي الزبير المكي عن جابر رضي الله عنه. وأبو الزبير مدلّس
(1)
، وقد عنعنه عن جابر، وأحاديثه لا يُحتجّ بها ما لم يصرّح بالسماع فيها عن جابر، أو يكون الراوي عنه هو الليث بن سعد؛ كما نصّ على ذلك جماعة من أهل العلم.
قال الحافظُ ابن عبدالحقّ الإِشبيلي رحمه الله: (أَبو الزُّبير يُدلِّس في حديثِ جابر، فإذا ذكر سماعه منه، أَو كان من رواية الّليث عن أَبي الزُّبير =فهو صحيح) .
(2)
نقله عنه ابن القطَّان الفاسي ووافقه.
(3)
وقال الإمام الذهبي رحمه الله: (وفي صحيح مسلم عدّة أحاديث مما لم يوضّح فيها أبو الزبير السماع عن جابر، وهي من غير طريق الليث عنه؛ ففي القلب منها شيء) .
(4)
وأبو الزبير في هذه الرواية لم يُصرح بالتحديث، ولم يكن الرَّاوي عنه الليث بن سعد. و انضمّ إلى هذه العلة علّةٌ أخرى؛ وهي:
العلّة الثانية: تفرُّده بزيادةٍ لم تقع في الأحاديث الأخرى -بحسب ما وقفت عليه منها-؛ وهي قوله: (ثم يأمر السماء فتمطر فيما يرى الناس، ويقتل نفسا ثم يحييها فيما يرى الناس) فهذه الزيادة خالف فيها الثقات الذين رووا أحاديث الباب. وعلى هذا؛ فلا يُحتمل منه مثل هذا التفرُّد.
ومن هنا يتبين لنا أن ما ذهب إليه الإمام الطحاوي رحمه الله بناءً على ما استند إليه من هذين الحديثين = مذْهب مرجوحٌ؛ لمخالفته للدلائل المتكاثرة التي سبق ذِكْرها.
(1)
انظر:"تهذيب الكمال"للمزي (6/ 503) و"تقريب التهذيب"لابن حجر (ص 895) و"جامع التحصيل"للعلائي (ص 269) .
(2)
"الأحكام الوسطى"(3/ 248) .
(3)
انظر:"بيان الوهم والإيهام"(4/ 298) .
(4)
"ميزان الاعتدال"للذَّهبي (4/ 39) .
ولذا قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: (وأمّا من قال: إنّ ما يأتي به الدجّال حِيلٌ ومخارق - فهو معزول عن الحقائق؛ لأن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الأمور حقائق لا يحيل العقل شيئًا منها = فوجب إبقاؤها على حقائقها)
(1)
. وإنما سُقت موقف الإمام الطحاوي، وخرجْتُ عن شرط هذه المباحث؛ مع كون شبهته - فيما يظهر - تستند إلى دليل نقلي، لا إلى مُعارِض عقلي = كي لا يظنّ ظانٌّ أن تأويله رحمه الله نابعٌ عن استشكالٍ عقليٍّ مَحْضٍ؛ فيُتّخذ ذلك وليجة للنيل منه، أو الاعتضاد بقوله. فبيان مآخذ أهل العلم ونفي موارد الظنون عنهم؛ ممّا يتغيّاه هذا البحث؛ لقطْع علائق المتأولين المتعلّقين بأذيال أهل العلم؛ فضلًا عن كون ذلك من لوازم الديانة.
المعارض الثالث: زعمُهم: أنّ هذه الخوارق مخالفة لسنن الله
…
إلخ.
فالجواب: قد سبقتْ الإبانة عن بطلان هذه الشبهة في المبحث المنعقد لدفع المعارض العقلي عن آيات الأنبياء؛ بما يُغني عن مكرور القول فيها.
المعارض الرابع: زعمهم: أنّ هذه الأحاديث متضمّنةٌ لما يصادم القطعيات المعلومة من الدين؛ كتخلُّف أخبار الرُّسل، أو كونها عبثًا
…
.
فالجواب: إِنّه تهويلٌ يفتقر إلى تحقيق. وبرهانُ زيف ما ذكروه أنّ القول بتخلّف أخبار الرسل في هذه الأحاديث إنما يصح؛ في حال انطوائها على جزم كل نبيّ بخروج الدجال في زَمَنِه، ولو وقع ذلك لصحَّ التوقُّف حينئذ في تصحيح تلك الأحاديث. ومضمون تلك الأحاديث يشهد بخلاف ذلك؛ لأنه إنما وقع التحذير من الأنبياء
(1)
"المفهم"(7/ 269) .
لأممهم خوفًا من خروجه فيهم. والأحاديث لم تتضمّن أنهم قطعوا بذلك. وحاصل الأمر: أن تحذير الأنبياء عليهم السلام من الدجال هو كتحذيرهم لأممهم من السَّاعة؛ فكما أن الدجال لم يخرج في زمنهم؛ فكذا السَّاعة لم تقم في زمنهم. فعدّ الأول خلفًا في الأخبار دون الآخر؛ تحكُّمٌ بلا برهان
(1)
.
المعارض الخامس: إحالة بعضهم لما ورَدَ من شأن الكتابة بين عيني الدجال، ومنْعه من حملها على حقيقتها؛ بدعوى أنه لو حملت تلك الكتابة على الحقيقة لاستوى في إدراك ذلك المؤمن والكافر
…
الخ
فالجواب عن ذلك: أنّ العقل لا يحيل ذلك، والربّ تبارك وتعالى لا يُعجِزه أن يصرِف الكافر عن إدراك هذه الكتابة. وعلى هذا؛ فحملهم الوارد في هذا الحديث من أمر الكتابة على معنى ما ثبت من سمات حَدْثه، وشواهد عجْزه، وظهور نقصه = (عُدولٌ وتحريفٌ عن حقيقة الحديث، من غير موجبٍ لذلك. وما ذكره من لزوم المساواة بين المؤمن والكافر في قراءة ذلك لا يلزم؛ من وجهين:
أحدهما: أن الله يمنع الكافر من إدراكه؛ ولا سيما وذلك الزمان قد انخرقت فيه عوائد؛ فليكن هذا منها. وقد فُهم ذلك مما جاء في بعض طرقه: (يقرؤه كل مؤمن؛ كاتبٍ وغير كاتب) وقراءة غير الكاتب خارقة للعادة.
وثانيهما: أن المؤمن إنّما يُدركه؛ لتثبُّتِه، ويقظتِه، ولسوء ظنّه بالدّجال، وتخوُّفه من فتنته. فهو في كل حال يستعيد النظر في أمره، ويسْتزيد بصيرةً في كذبه؛ فينظر في تفاصيل أحواله، فيقرأ سطور كفره وضلاله، ويتبيّن عين محاله.
(1)
انظر:"موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث النبوي الشريف"(305) .
وأما الكافر فَمَصْروف عن ذلك كله؛ بغفلته، وجهْله. وكما انصرف عن إدراك نقص عوره، وشواهد عجزه؛ كذلك يُصرَف عن فهْم قراءة سطور كفره ورَمْزِه)
(1)
.
قال الإمام النووي رحمه الله: (الصحيح الذي عليه المحققون: أنّ الكتابة المذكورة حقيقة، جعلها الله علامة قاطعة يكذب بها الدجال، فيُظهِر الله المؤمنين عليها، ويخفيها على من أراد شقاوته.
وحكى عياضٌ خلافًا، وأن بعضهم قال: هي مجازٌ عن سمة الحدوث عليه = وهو مذْهب ضعيف، ولا يلزم من قوله:(يقرؤه كل مؤمن؛ كاتبٍ وغير كاتب) أن لا تكون الكتابة حقيقة؛ بل يقدر الله على غير الكاتب علم الإدراك، فيقرأ ذلك، وإنْ لم يكن سبق له معرفةٌ بالكتابة؛ وكأنّ السرّ الطيف في أن الكاتب وغير الكاتب يقرأ ذلك؛ لمناسبة أن كونه أعور، يدركه كلُّ من رآه. فالله أعلم)
(2)
.
وأمّا من ذهب إلى تأويل الأحاديث الدالّة على الوجود العيني للدجّال بحملها على الرمز والإشارة؛ وأنّها ترمز إلى الخرافة والدجل، التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها - كما ذهب " محمد عبده " -. أو رمز على الشرّ واستعلائه - كما تأوله "محمد أَسد"وارتضاه "مصطفى محمود " - = فكلّ هذه التأويلات لا تثبت على قدم، وبطلانها بيِّنٌ من وجوه:
الأول: أن هذه التأويلات مؤسَّسة -فيما يظهر-على الإحالة. ولا إحالة تمنع من قبول أحاديث الدجّال والتسليم بها؛ بل هي جارية على سنن العقْل، والشرعُ مُثْبت لها. وما أثبته الشرعُ فهو - يقينًا - موافقٌ
(1)
"المفهم"(7/ 268 - 269) .
(2)
انظر:"فتح الباري"لابن حجر (13/ 125 - ط دار السلام) .
للعقل. ومن تأمّل هذا في جميع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فمحالٌ أن تزل قدمه عند ورود بعض ما يُشكِل على هذا الأصل.
الثاني: أنّ هذه التأويلات قدْحٌ في جَناب المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من المتقرر شرعا وعقلًا: أنّ من أراد النُّصح والبيان لأحدٍ من الخلق؛ فإنّه لابد أن يَعْمَدَ إلى أقرب الطرق للإفهام، ويتخيّر من الألفاظ ما تحصل به الإبانة، وتقع به النصيحة. فإن تحاشى مريد النصيحة هذا السبيل؛ بأنْ عمد إلى الإبهام مع الحاجة إلى البيان؛ استدلّ الناظر في حال هذا المتنكّب عن هذا السبيل على أحد أمرين:
الأول: إمّا أن يكون جاهلًا، عاجزًا عن الإبانة.
الوجه الآخر: أن يكون أراد تضليل المخاطَب، وإيقاعه في الحيرة.
ولا ريب أن المتأولين لهذه الأحاديث، وحمْلهم لها على خلاف الظاهر المتبادر منها؛ يلزمهم في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم أحد هذين الأمرين، وكلاهما شرّ.
أمّا الأول: فلأنّه من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفصح الخلقِ لسانًا، وأكملهم بيانًا؛ فمُحال عليه صلى الله عليه وسلم أن تتواتر عنه الأحاديث بالتحذير من الدجال وفتنته، ويتناقلها أصحابه رضوان الله عليهم؛ على ظاهرها المتبادر، ويرويها دواوين العلم وحُفّاظ السنة، وفقهاء الملة = مع كونهم غُفْلا عن معرفة معناها، والإحاطة بمدلولها. ويكون هؤلاء المخالفون هم أعرفَ النَّاس بمراده صلى الله عليه وسلم، وأدْرى بمقصوده = فإنّ هذه سفسطةٌ لا يقرّها عاقل.
وأما الأمر الثاني: فلمصادمته للقطعيات الدالّة على تبليغ المصطفى صلى الله عليه وسلم للدين الذي بُعِث به، وأدائه للأمانة المُناطة به؛ قال جلّ وعلا: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} المائدة: 67 ولقوله جلّ وعلا: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} النحل: 44 وإيقاع البلاغ لا يتم إلا بأمرين:
الأول: إيضاح الخطاب من المبلِّغ بأقرب طريقٍ يُوصِل إليه.
والأمر الثاني: استبانة المخاطبين قصده من الخطاب.
فحصول الأول دون الثاني يمنع وصف المبلِّغ بأنه بلّغ ما أُنزِل إليه. وهذا محال في حقّ نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه قد شهدت له بذلك أمته، واستُنطقت بذلك في أعظم مجْمَع لها؛ في خطبته في حجّة الوداع، وكان الصحابة رضوان الله عليهم زهاء أربعين ألفًا. كما في الحديث الذي أخرجه مسلم بسنده عن جابر:(وأنتم تُسألون عنّي. فما أنتم قائلون؟) قالوا: نشهد أنك قد بلّغتَ وأدّيتَ، ونصحْتَ. فقال بأصبعه السبّابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس:(اللهم اشهد، اللهم اشهد) ثلاث مرات)
(1)
.
فتقرّر من ذلك: أنّ أصحابه رضوان الله عليهم عقِلوا عنه ما بلّغهم إيّاه، وأنّه لم يُقبض عليه الصلاة والسلام حتى نصح الأمة أتمّ النصح وأجلاه، وبيّن لها دينها أبلغ بيان.
الوجه الثالث: أنّ حمْل هذه الأحاديث الدالة على تشخص الدجال، وعلى تعيّن وجوده، وخروجه على الرّمز والتخييل بلا قرينة يفهم منها ذلك = عدولٌ عن الظاهر المتبادَر بلا برهان.
[الوجه الرابع: أنّ طرْق باب التأويل لأدنى إشكال ينقدح في عقل الناظر في هذه الأحاديث؛ يبعثُ على فتح الباب على مصراعيه لتأويل أحرف الشريعة كلها؛ فلا يُوثَق بعدُ بخبر، ولا ينعقد القلب على دين = وهذا هو الانحلال بعينه، وهدْم للشريعة، وتَقْويضها][*].
وأمّا ما فهمه العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله من الأحاديث المتكاثرة في الدجال؛ من أنّه تارةً يقصد بها الإنجليز، وأن
(1)
أخرجه مسلم، كتاب"الحج "باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 890 - رقم [1218]).
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع، وأضفناه من أصل الرسالة الجامعية
الخوارق التي معه عبارة عن تمثيل يقصد صلى الله عليه وسلم به العلوم العصرية، والمخترعات الحادثة التي استعان بها أولئك الإنجليز لنصرة اليهود لإقامة دولتهم = فهذا الفهم بعيدٌ جدًّا؛ و منشأ الخطأ الذي وقع هذا الإمام فيه: هو من جهة تحقيق مناط هذه الأحاديث؛ لا من جهة إحالة عقله لها قطعا، لأنَّه ممَّا لا ريب فيه أَن العلاّمة السعدي-رحمه الله إمامٌ سلفيٌّ مُتَّبع للدَّلائل، والقادح في هذا التخريج الذي أعمله الشيخ رحمه الله =هو أنّ النصوص تردّه، وتدلّ على خلافه. إذْ كيف يُحمل قوله صلى الله عليه وسلم:(ما بُعث نبيٍّ إِلَاّ وقد أنذر أُمّته الأَعورَ الكذَّاب. ألا إنَّه أَعور. وإنَّ ربكم ليس بأعور وإنَّ بين عينيه مكتوب "كافر")
(1)
= على التمثيل، ويُحْمل هذا الإبداء والإعادة في شأن شخص بعينه على شعْب، أو أمّة من الأمم؟!.
ولو كان صلى الله عليه وسلم مرامه بالدجال خلاف ما دلّ عليه لفظه؛ لوقع الخُلف في
…
قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنّي سأصفه لكم صفة لم يصفْها إياه نبيّ قبلي) لأن مقتضى قوله عليه الصلاة والسلام هذا: أنّه سيكشف عن حال الدجال، ونعته؛ بما معه من خوارق، وبما فيه؛ كشفًا يُغني عن وصف كل نبي ممّن قبله، فضلًا عن وصف غيرهم ممن يقصرون عن رتبة النبوة، ومنزلة الرسالة.
وفهْم الشيخ عبد الرحمن السعدي - برّد الله مضجعَه - يعود بالإبطال على وصفه صلى الله عليه وسلم الذي هو أتمّ الوصف وأعلاه، وأدلَّهُ، وأجلاهُ = وكلّ تأويل يعودُ على ما دلّ عليه النصّ بالإبطال؛ فهو حقيقٌ بألاّ يُلتفَت إليه.
ثم يقال: إنّه لو كان غرض النبي صلى الله عليه وسلم الكشف عن فتنة هؤلاء الإنجليز؛ لأبان عن ذلك بأوضح إشارة، وأدلّ عبارة.
(1)
تقدم تخريجه في المطلب الأول.
وممّا يدلّ على قلق هذا التأويل في نفس الشيخ السعدي رحمه الله عدم اطمئنانه إليه؛ لكونه يعارض الأحاديث الدالّة على الوجود العيني للدجال = أنّه عاد ليقرّر ذلك بقوله: (ولا بدّ أن تتوسّع سيطرة اليهود، ولا بدّ لهم من التضييق على جيرانهم من الحكومات العربية، ولا بدّ أن يتبيّن مَنْ الشخص منهم الذي هو المسيح الدجّال المعيّن بذاته، وتجري بقيّة ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم على يده؛ حتى ينزل عيسى ابن مريم
…
). إلخ
ويبقى القول إنّ تأكيده على تأويل خوارق الدجّال بأنها المخترعات الحديثة التي ظهرت عند الإنجليز = قولٌ يفتقرُ إلى برهان يعضده، وحجّة تسنده؛ وليس شيءٌ من ذلك؛ بل الأدلة على خلافه. لأنّ هذه المخترعات مهما قيل في غرابتها؛ إلاّ أنها عند التحقيق لا تبلغ مبلغ الخوارق التي تجري على خلاف السنن الكونية؛ التي أودعها الله تعالى في الكون. ومردّ هذا التفسير عند الشيخ رحمه الله: ارتكازُه على ما ورد في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، الذي فيه:(هو أهون على الله من ذلك)
(1)
.
وقد سَلَف بيان ضعف الارتكاز على هذا الحديث في تحقيق هذا المعنى. والله أعلم.
(1)
تقدم تخريجه في المطلب الأوَّل.