الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: دفع دعوى المعارض العقلي عن الأحاديث المتعلِّقة بحقيقة الإِيمان
.
أمَّا بطلان المعارض الأول: وهي دعوى: استحالة التفاوت في حقيقة الإيمان، فيقوم على أصلين: الأوَّل: هدْميّ. والثاني: إنشائي.
فأمَّا الأصل الأول: فبمنع ما ادَّعوه من استحالة حصول التفاوت، وذلك يتأتى بذكر مقامين:
الأول: نقض ما أصلّوه في هذا الباب.
الثاني: المعارضةُ على سبيل القلب لدليلهم.
أمَّا النقض، فيقال:
لا يُسلِّمُ أهل السنة بأنَّ القول بدخول العمل في مسمَّى الإيمان مع القول بزيادته ونقصه ووقوع التفاوت فيه= أَنَّه من باب التناقضِ؛ لأنَّ منشأ الخطأ عدم تفريق المخالفين لأهل السنة بين ماهو ركنٌ في الإيمان لايتحقق الإيمان إلَاّ به، وبين ماهو واجبٌ لتحقيق كماله الواجب.
فجميع المخالفين لأهل السنة سوَّوْا بين مُختلفين في الحقيقة، فركن الشيء ليس بمثابة ماهو واجب فيه، فوقوع المخالفة بارتكاب الكبيرة ليست في الواقع نقضًا للالتزام بالعمل الذي هو ركنٌ في الإيمان، وإنَّما هو نقص في التزامه، فينتفي عنه بسبب هذه المخالفة كمالُ الإيمان الواجب
(1)
،والنُّصوص على ذلك متضافرة.
وأمّا إلزام الوعيدية والمرجئة مَن جَعَلَ الإيمانَ مُركَّبًا؛ أَن يذهب إلى القول بزوال الإيمان كلِّه بزوال جزئه =فإنَّ ذلك لا يلزم عند التحقيق. بل ما جعلوه لازمًا باطلٌ نقلًا، وحِسًّا؛ لأنَّ الحقيقةَ الجامعةَ
(1)
انظر: "أصول المخالفين لأهل السنة والجماعة"للدكتور عبد الله القرني (32 - 33)
لأُمور إذا زال شيءٌ منها فقد تنتقض الحقيقةُ فيزولُ سائرُها، وقد لا تزولُ جميعًا، بل يبقى منها.
وبيان ذلك أَن يُقال:
إنَّ زوال الواحد من العشرة مثلًا لم تَزُلْ به حقيقتُه المركبةُ كلُّها، بل بقيت التِّسعةُ، وإن كانت قد زالتِ الصورةُ المجتمعةُ لهذا العددِ، وأمَّا الاسم فقد يزول بزوال بعض أجزاء ما يطلق عليه هذا الاسم، وقد لا يزول؛ ذلك لأَنَّ الحقائقَ المُركبة تنقسم إلى قسمين:
الأول: ما يكون التركيبُ شرطًا في إطلاق الاسم عليه.
الثاني: ما لا يكون كذلك.
فأمَّا الأوَّلُ: فكالعشرةِ، والسَّكنجبين. فإذا زال جزءٌ من أيّ منهما=زالَ الاسمُ.
والثاني: فكالبُّرِ، والتُّرابِ، والماء، وجميع المُركَّبات المتشابهة الأجزاء. .
فالحسُّ والعقلُ يشهدان بأنَّ زوال جزءٍ من هذه المركبات لا يترتَّبُ عليه زوال الاسم الذي يطلق على كل منها
(1)
.
والشَّرْعُ دالٌّ على ذلك أَيضًا، يقول الإمام ابن تيميَّة رحمه الله مُقرِّرًا هذه الحقيقة: (فلفظ العبادةِ، والطَّاعةِ، والخيرِ، والحَسنةِ، والإحسانِ، والصَّدقةِ، والعلمِ. ونحو ذلك مما يدخل فيه أمورٌ كثيرةٌ يطلق الاسم عليها قليلها و كثيرها، وعند زوال بعض الأجزاء وبقاء بعضه.
وكذلك لفظ" القرآن" فيقال على جَميعهِ وعلى بعضه، ولو نَزلَ قرآنٌ أَكثرَ من هذا؛ لسُمّي قرآنا. . وإذا كانت المركبات على نوعين بل غالبهما من هذا النوع= لم يصح قولهم: إنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول
(1)
انظر: "مجموع الفتاوى"(7/ 514،404 - 518)
الاسم إذا أمكن أن يبقى الاسم مع بقاء الجزء الباقي)
(1)
وكذلك الصَّلاةُ فهي عبادةٌ مُركَّبةٌ من أجزاء، من تلك الأَجزاء ما ينتفي بزوالها الكمال المُستحبُّ، ومنها ما ينتفي بزوال تلك الأجزاء كمال الصلاة الواجب، ومنها أجزاء وأَركان يزول بزوالها حقيقة الصلاة وتبطل بذلك.
المقام الثَّاني: المعارضةُ على سبيل القلب لدعواهم.
بأن يقال: إنَّ التناقضَ لازمٌ لجميع الطوائف المُخالفة لأهل السنة والجماعة؛ ذلك أنَّ الوعيديةَ، والمرجئةَ لم يتحرَّر لهم الفارق بين ما هو ركنٌ في الإيمان، وبين ما هو واجبٌ فيه، فسووا بين أَمرين مختلفين، والتسوية بين المختلفات، هو عين التناقض الذي فرُّوا منه.
الأصل الثاني: الجانب الإنشائي.
وهذا الجانب يتضمن بيان الدلائل على وقوع التفاوت في حقيقة الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأنَّ ذلك مقتضى الضرورة الشرعية. فأمَّا الضرورة النقليَّة فقد سبق بيانُها، وأمَّا الضرورة العقلية الدّالة على بطلان منع التفاوت =فهي أنّه ما من شيء إلاّ و يتفاوت النَّاسُ فيه، فأرباب الصنائع يتفاوتون في صنائعهم، فليسوا على درجةٍ واحدة من الإتقان، وهذا معلوم بداهةً، وكذا ما من صفة من صفات الحي إلاّ وهي قابلة للتفاوت قوة وضعفا، والعقل والحس دالان على وقوع ذاك التفاوت أيضا في الإيمان، وفي علوم أهله ومعارفهم، وأعمالهم فليسوا على درجة واحدة من خشية الله والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له بل التفاوت فيما بينهم كالتفاوت فيما بين السماء والأرض، لذا كان المؤمنون على ثلاث درجات ذكرها الله في كتابه. يقول تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا
(1)
"مجموع الفتاوى"(7/ 516 - 517)
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} فاطر
فالآيةُ قسّمت أهلَ الإيمان من جهةِ التزامهم بالشريعة، وبأعمال الإيمان إلى ثلاثة مراتب: الظَّالم لنفسه، والمقتصد، و السَّابق للخيرات، وكلُّ مرتبة من هذه المراتب يتفاوت أهلها فيها تفاوتًا عظيمًا.
بل إنَّ المؤمنَ تختلف أحوالُه من حيثُ ديمومة تذكُّرِهِ، وخَشْيته، واستمراره على قَدَم الطَّاعة والاستقامة، فتعتوره الغفلةُ في بعض أَحواله، وينتابه التقصير، وفي بعض أحواله تزداد جَذوة الإيمان، فتتلازم شُعَبُ الطاعات، فإنَّ الطاعة تدل على أُختها، وهذا ما لاينكره إلا مُكابِر
(1)
.
فالإيمانُ ليس لزيادتِهِ حدٌ، وليس لنقصه حَدٌ كذلك، وبذا يُعلم بطلان من أَناطَ الزيادةَ والنَّقص بالأعمال فقط، فأوقع الزِّيادة والنَّقص فيها ومنع من وقوعها في أصل الإيمان وهو-التصديق- كما هو مذهب المرجئة.
وبه يُعلم أَيضًا بطلان من جعل حدًّا أَدنى للإيمان من لم يحققْه =انتفت عنه حقيقة الإيمان، ويجعلون ضابطَ هذا الحدّ الإتيان بجميع الفرائض، والكف عن جميع المحرمات، فإذا وقع الإخلال بهذين الأمرين، انتقض أصل الإيمان، وهذا ما التزمه الوعيدية.
وقد أبان شيخ الإسلام عن غلط هؤلاء من حيث جعلهم الإيمان حقيقة واحدة متماثلة في حق جميع المكلفين فقال رحمه الله (ليس الإيمان
(1)
انظر: في تَفَاضُل الإيمان: "الإيمان" لأبي عُبيد (64 - 66)،و" أصول السنة" لابن أبي زمنين (211 - 223)،و"الحُجَّة في بيان المَحجَّة" للأصفهاني (1/ 439)،و"مجموع الفتاوى"(7/ 223 - 230،562 - 574)،و"شرح العقيدةالأصفهانية"لابن تيمية (2/ 577 - 580)، و"شرح العقيدة الطحاوية"لابن أَبي العزِّ الحنفي (2/ 479)،و "التَّوضيح والبيان" للسَّعدي (19 - 42)
حقيقة واحدة مثل حقيقة مسمى "مسلم" في حق جميع المكلفين في جميع الأزمان بهذا الاعتبار مثل حقيقة البياض والسَّواد بل الإيمان والكفر يختلف باختلاف المكلف وبلوغ التكليف له، وبزوال الخطاب الذي به التكليف ونحو ذلك)
(1)
ومنْعُ أهل السنة والجماعة من أن يكون للإيمان حَدٌ أَدنى لا يكون فيه تفاوت= لا يفهم منه تجويزهم أن يقوم بالعبد شعبة من شعب الكفر المُنافية لأصل الإيمان مع بقاء هذا الأصل=بل مُرادُهم أَنَّه يقع من النَّقْصِ بسبب الإخلال بما ليس شَرْطٌ في صحة الإيمان ما يجامع الإيمان، ولا ينتفي بانتفائه، فشعب الكفر الأصغر لاتنافي أصل الإيمان، وإنما تنافي كماله، وإنّما الّذي ينافي أصل الإيمان شُعب الكفر الأكبر، وسيأتي مزيد بسط لذلك.
ومما يدل على أنه ليس للإيمان حد يقف عنده النقص ما صحّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أَن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نَبيٍ بعثه الله في أمة قبلي، إلاّ كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)
(2)
لذا كان من فقه الإمام ابن مندة أَنْ بوّب لهذا الحديث بابًا وسَمَه بـ (ذكرُ خبر يدلُّ على أَنَّ الإيمان ينقص حتى لا يبقى في قلب العبد مثقال حبة خردل
…
(3)
(1)
"مجموع الفتاوى"(7/ 518)
(2)
تقدم تخريجه في المطلب الأوَّل.
(3)
"كتاب الإيمان" لابن مندة (1/ 345) وابن مندة (310 - 395 هـ):هو محمد بن إسحاق بن محمد بن يحي، المعروف بـ=ابن مندة، أبوعبدالله العبدي الأصفهاني، أحد الأئمة الحُفَّاظ، من مؤلفاته:"التوحيد"،و"الصفات"، و"معرفة الصحابة"=انظر:"السير"(17/ 28)
وكما أنَّه لا حدَّ يقف النَّقصُ عنده، فكذلك لا حدّ لكماله ومنتاه: فعن الوليد ابن مسلم قال: سمعت أبا عمرو
(1)
ومالكا وسعيد بن عبد الله يقولون:
(ليس للإِيمان منتهى هو في زيادة أَبدًا وينكرون على من يقول: إنه مستكمل الإيمان وأن إيمانه كإيمان جبريل عليه السلام
(2)
وقد سئل الإمام الأوزاعي عن الإيمان، وهل يمكن أن تقع الزيادة
…
فيه. فأجاب: (نعم حتى يكون كالجبال قيل: فينقص؟ قال: نعم حتى لا يبقى منه شيء)
(3)
وقال الحميدي: سمعتُ سفيان بن عيينة يقول: (الإيمان يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عُيينة: لا تقل ينقص. فغضب، وقال: اسكت ياصبي، بل ينقص حتى لا يبقى منه شيء)
(4)
أَمَّا بطلان المعارض العقلي الثاني: وهو استناد مرجئة المتكلمين إلى الحدِّ المَنطقي.
فيتأتَّى ذلك من وجهين:
الأول: بيان بطلان التَّفريق بين اللوازم الذاتية واللوازم العرضية.
الثاني: بطلان دعوى تحقق المعاني الكلية في الخارج.
أما الوجه الأول:
أنَّ ما ادعوه من الفرق بين اللوازم الذاتيَّةِ الدَّاخلةِ في مفهوم
(1)
يعني: الأوزاعي.
(2)
"السُّنَّة" لعبدالله بن أحمد بن حنبل (1/ 332 - 333)
(3)
"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائي (5/ 959)
(4)
"التمهيد"لابن عبدالبرِّ (15/ 56)
الماهية، وبين اللَّوازم العرضية الخارجة =تحكمٌ لم يستطيعوا البرهنةَ عليه.
فتمثيل المناطقة "للعَرَض العام" -وهو باتفاقهم الكُلِّي الخَارج عن الماهيَّة- بـ (الماشي) بأنه لا يصلح جوابًا عن ماهيَّة الإِنسان في جواب "ما الإنسان"، بخلاف "النَّاطق" الذين يجعلونه من الذَّاتيَّات المميزة عندهم = دعوى لا دليل عليها، فكما أنَّ الماشي عندهم لا يدخل في الماهية لاشتراك غير الإنسان فيها؛ فكذلك الأمر بالنسبة "للناطق".
وكل ذلك مبني على تجريدات ذهنيّة لا برهان عليها.
وهذا التجريد الذهني وظّفوه على حقيقة الإيمان، فأخرجوا العمل منه بدعوى أنَّه ليس من مقومات الماهية وقَصَروا الإيمان على التصديق كما يذكره حتى الذين تصدوا لبيان أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدّوا الإيمان بأنه: (تصديقُ الرَّسولِ في كُلِّ ما عُلم مجيئُهُ به بالضَّرورةِ تصديقًا جَازمًا مطلقًا
(1)
الوجه الثَّاني:
أَنّ ذلك مبنيٌ عندهم على إمكان تحقق الحقائقِ النَّوعيَّة في الخارج، وما ذكروه باطلٌ؛ فإنَّ الإيمان من جهة اتصاف المكلف به يختلف في الواقع من شخص لآخر وما ادعوه، مِن تَمَاثُلِ أَفْراد النَّوع في الماهيَّة مُجرد افتراض ذاتيّ ليس له أدنى تحقق في الخارج وفرق بين الوجود الذهني والوجودِ العَيني. فالوجود الكُليُّ في الخارج لا يكون إلَاّ متشخصًا مُتعينًّا لا يكونُ كُليًّا كما يظن هؤلاء؛ وإلَاّ لما صحَّ أن يكون كُليًّا.
(1)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعَيْني (1/ 102) وانظر: "كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري" لمحمد الخضر الشنقيطي (1/ 375)
يقول شيخُ الإسلام كاشفًا عن منشأ الغَلَطِ عند المتكلِّمين: (وإنما أصل ضلالِهم أَنَّهم رأوا الشيءَ قبل وجُودِهِ يُعلمُ، ويُرادُ، ويُميَّزُ بين المَقدورِ عليه والمَعجوز عنه. ونحو ذلك = فقالوا: لو لم يكن ثابتًا لَمَا كان كذلك كما أنَّا نتكلم في حقائق الأشياء التي هي ماهيتها مع قطع النظر عن وجودها في الخارج، فنتخيَّل الغلطَ: أنّ هذه الحقائقَ والماهياتِ أمورٌ ثابتةٌ في الخارج.
والتحقيق أَنَّ ذلك كُلَّه أَمرٌ موجودٌ وثابتٌ في الذِّهنِ لا في الخارج عن الذِّهنِ. والمُقَدَّرُ في الأَذهانِ قد يكونُ أوسعَ من الموجود في الأَعيان
(1)
.
فمسمى"الإيمان" في الواقع ليس له قَدرٌ وماهيَّةٌ يَشْتَرِك المُكلَّفون في الاتصاف بها، بل هم يتفاوتون في هذه الحقيقة قوةً وضعفًا وتحقيقًا.
ولذا كان المُحقِّقون من أَهلِ العلم -كالنَّووي - يذهبون إلى وقوع التَّفاوت وبطلان الاشتراك. قال النَّووي رحمه الله: (فالأَظهرُ -والله أعلم- أنَّ نفسَ التَّصديق يزيدُ بكثرةِ النَّظَرِ، وتظاهُرِ الأَدلَّةِ، ولهذا يكون إيمانُ الصدّيقين أَقوى من إِيمانِ غيرِهم بحيثُ لا تعتريهم شُبْهةٌ، ولا يتزلزلُ إيمانُهم بعارض، بل لاتزال قلوبُهم مُنْشَرحةً نيَّرةً وإن اختلفت عليهم الأحوالُ=وأما غيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم فليسوا كذلك= فهذا لا يمكن إنكاره ولا يشككُّ عاقلٌ في أنّ نفسَ تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لايساوي تصديقَ آحادِ النَّاس
…
)
(2)
(1)
"الرَّد على المنطقيين"(64 - 65) وبسبب عدم التفريق بين الوجود الذهني والعيني وقع المتكلمون في الضَّلال، وذلك في مسائل عقدية أُخرى كغلطهم في باب صفات الله تعالى. ولذا ترى شيخ الإسلام كثير اللَّهج ببيان فساد التسوية بين الوجود العلمي والوجود العيني، انظر: على سبيل المثال: درء التعارض (5/ 90 - 91، 94 - وما بعدها)، ومجموع الفتاوى (2/ 156 - 159)
(2)
"شرح صحيح مسلم"للنَّووي (1/ 148 - 149)
فالغلطُ الدَّاخلُ على هؤلاء من جهة اعتبارهم الإيمان حقيقةً مُطلقة تقوم في أذهانهم وغفلوا أَنّ هذه الحقيقةَ في الخارج لا توجد إلَاّ مُتميِّزة ومُتَّصِفة، والتَّفَاضل إنما ينشأ في هذا الموجود المتحقق في الخارج، لا في أمر مطلق يقوم في الأَذْهَان. لذا يقول الإمام ابن تيميَّة رحمه الله: (وهؤلاء
(1)
منتهى نظرِهم أن يروا حقيقةً مطلقةً مجردةً، تقوم في أَنفُسهم فيقولون: الإيمان من حيث هو هو، والسُّجود من حيث هو هو، لا يجوز أن يتفاضل، ولا يجوز أن يختلف. و أَمثال ذلك. ولو اهتدوا لعلموا أنَّ الأمورَ الموجودة في الخارج عن الذّهن متميزة بخصائصها، وأنَّ الحقيقةَ المجردةَ المُطلقةَ، لاتكون إلَاّ في الذِّهنِ، وأنَّ النَّاس إذا تكلموا في التفاضل، والاختلاف فإنما تكلموا في تفاضل الأمور الموجودة واختلافها، لا في تفاضل أمرٍ مُطلق مجرد في الذِّهن لا وجود له في الخَارج)
(2)
وعلى سبيل التنزل مع المانعين من دخول التفاوت في الإيمان، فيقال: إنَّه يمكن وقوع التفاوت في حقيقة الإيمان وَفْقًا لما تقرر في المنطق، لا من جهة الحد، بل من جهة المتواطئ المُشَكِّك الذي يكون فيه نسبة هذا المعنى الكلي في بعض أفراده، أقوى، وأكمل من البعض الآخر؛ فالبياض مثلًا: معناه في الثَّلج، أَشدُّ منه في عَظْم العَاج، وكذلك الأَمرُ في الإيمان من جهةِ تحققِّ معناه في أَفرادهِ، قد يكون أكمل في بعض المؤمنين من البعض الآخر.
وهذا ما ذهب إليه محققو الأَشاعرة كالقاضي أبي بكر بن العربي رحمه الله فإنّه قال: (وظن جملة الأصحاب أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنَّه عَرَضٌ، وذَهَلوا أَنَّ الأعراض تدخلها الزِّيادةُ، والنُّقصان
(1)
يعني: المتكلمين.
(2)
"مجموع الفتاوى"(7/ 512)
كما تدخل في الأجسام، ولذلك صار عَرَضٌ أَكثرَ من عرض، وسَوَاد أكثر من سوادٍ)
(1)
ومع ما افترض من التنزُّلِ باعتبار الإيمان من قبيل المُشَكِّك =إلَاّ أنَّ هذا التنزُّل لم يصادف قَبولًا، لذا رُدَّ هذا التوجيه ولم يُقبل، وذلك بأن منع بعضُ المتكلِّمين أن يكون ذلك التفاوت في الإيمان الحاصل في الأفراد =واقعًا في ماهية المُشكك، فعادوا إلى قضية الماهية مرَّةً أُخرى!!
يقول صاحب المسامرة: (ولو سَلَّمنا بثبوت ماهيَّة المشكك فلا يلزم كون التفاوت في أفراده بالشِّدة فقد يكون بالأوّليَّة، وبالتقديم والتأخير، ولو سلّمنا أن ما به التفاوت في أفراد المشكك شدة: كشدة البياض الكائن في الثَّلج، بالنسبة إلى البياض الكائن في العاج، مأخوذ في ماهية البياض بالنِّسبة إلى خصوص محل كالثلج = لا نُسلِّم أَنَّه يتفاوت بمقوِّمات الماهيَّة أي أجزائها، بل بغيرها)
(2)
هذا غاية ما ذهب إليه المتكلمون من مصادمة ما دلت عليه النُّصوص؛ لتسلم لهم أصولهم المبنية على أصول المنطق.
وبعد أن استبان بطلان ما ذهبوا إليه من دعوى مناقضة الضرورة العقلية لما دلت عليه تلك الأحاديث الصحيحة =يتجه الحديث لإبطال ما وجّهوا به الأحاديث المساقة قَبلُ، ومُحصَّل ذلك:
أولا: جعلهم إطلاق الإيمان على الأَعمال من باب التجوُّز الجاري في لسان العرب فالعمل من قَبِيل الأَثَر، والمسبَب، والتصديق: المبدأ، والسَّبب.
(1)
"عارضة الأحوذي" لابن العربي (10/ 84) وانظر: " الحجة في بيان المحجة" للإمام الأصفهاني (1/ 439)، ومجموع الفتاوى (7/ 564)
(2)
"المسامرة"(309)
ثانيًا: أَنَّ حديثَ الشُّعَبِ لا يدل صراحةً على دخول الأَعمال في مُسمّى الإيمان.
ثالثًا: أنّ القرآن غفلٌ عن التصريح بدخول الأعمال في مسمى الإيمان، بدلالة أنه يذكر الإيمان على جهة الاستقلال، ثم يعطف عليه العمل =فدلَّ ذلك على المغايرة.
رابعًا: أنَّ الحقائق لا تؤخذ إلا من القرآن!!؛لكون الأحاديث تخضع للمصالح والظروف.
فهذه جُملةٌ من الآثار النَّكِدة التي نتجت عن القول باستحالة حصول التفاوت في حقيقة الإيمان. وبطلان ما ذكروه يكون بتناول كل قضية من تلك القضايا ثم بيان ماتضمنته من صنوف الغَلَطِ على الشَّريعة، وسيكون تناولها على جهة الإيجاز.
فأمَّا القضية الأولى: فدعوى أن إطلاق الإيمان على العمل هو من باب المجاز.
فيقال: تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز في خصوص هذه المسألة، إن صحَّ فهو حجَّةٌ على المرجئة المخرجين للعمل عن مُسمى الإيمان.
وتوضيح ذلك: أَنَّ الحقيقة هي اللفظُ الذي يدلُّ بإطلاق بلا قرينة، والمجاز هو ما دلّ بقرينة فلفظ الإيمان في موارده في الكتاب والسنة إذا أُطْلق دخلت فيه الأعمال، وإذا أطلق الإيمان وأريد به مجردُ التصديق، فهذا مفتقر إلى قرينة تدل عليه، وإذا دلت القرينة = لزم أن يكون في هذا المقام مجازًا
(1)
.
ثُمَّ يُقال: إنْ سُلِّم أنَّ التصديقَ مرادفٌ للإِيمان من جهة اللُّغة، فلا
(1)
انظر: " الإيمان" لابن تيمية (97) .
يخلو إما أن يكون التصديق المأمور به تصديقًا مُجرَّدًا مطلقًا بأي شيء، أو يكون تصديقًا مُقيدًا مَخْصوصًا.
فالأول: ينفونه ولا يلْتزمونه.
بقي الثاني: وهم يجعلونه تصديقًا بالله وبكل ما نطقت به الدَّلائل الشَّرعيّة من البعث والجنة والنار والملائكة وغير ذلك، وهذا لا شك خلاف اللغة، فإن مقتضى التصديق المطلق، لا يتعلق بالقلب فقط.
يقول الإمام محمد بن نصر المروزي
(1)
: (وقد وجدنا العرب في لغتها تُسمي كل عمل حققت به عمل القلب واللسان تصديقًا، فيقول القائل: فلان يصدق فعله قوله = يعنون: يحقق قوله بفعله، أو يصدق سريرته علانيته، وفلان يكذب فعله قوله.
وقال الشاعر:
…
صدِّق القول بالفعال فإني
…
لست أرضى بوصف قال، وقيل
ويقول العرب إذا حمل الرّجل على القوم في الحرب، فلم يرجع= قالوا: صدق الحملة، أي: حققها. أي: لم تقتصر دون أن يبلى. وإذا رجع، قيل: كذب الحملة)
(2)
ولا شك أنَّ المرجئة يقصرون هذا التصديق على القلب، لذا يجوزون أن يكون الإيمان تامًّا في القلب بلا عمل، وعلى ذا جرى اتفاقُهم
(3)
،
(1)
محمد بن نصر (202 - 294 هـ) هو: ابن الحجاج المروزي، أَبو عبدالله، إمام مجتهدٌ من أعلم أهل زمانه باختلاف الصَّحابة والتَّابعين، قال عنه ابن حزم:" فلو قال قائل إنّه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث، ولا لأصحابه إلاّ وهو عند محمد بن نصر=ما بعُد عن الصدق"من مؤلفاته: "تعظيم قدر الصلاة"،و"رفع اليدين"=انظر:"السير"(14/ 33)، و"الرِّسالة الباهرة"لابن حزم (46) .
(2)
"تعظيم قدر الصلاة"للإمام محمد بن نصر (2/ 726) وانظر: تهذيب الآثار للطبري (2/ 685 - 688=مسند ابن عبّاس)
(3)
انظر: "أبكار الأفكار" للآمدي (5/ 9 - وما بعدها)، و"الإرشاد" للجويني (397 - 398) = =أصول الدين" للبزدوي (151 - 152)، "وقواعد العقائد" للغزالي (249)، و"شرح جوهرة التوحيد" (24 - وما بعدها)، و"المسامرة شرح المسايرة" (306)، و"محصل أفكار المتقدمين" للرَّازي (567)، "وكبرى اليقينيات الكونية" للبوطي (240)
ويجعلون الأعمال ثمرة من ثمرات الإيمان لا أنَّه جزء منه= وقصر التصديق على ما في القلب خلاف ما دلَّ عليه اللسان، فاللُّغة لا تقصر التصديق على أمر مخصوص، فإذا حادوا،
…
وقالوا: الشَّريعة هي التي أَبانت عن صفة هذا التصديق.
فيقال: هذا حقٌ، لكن الشريعة لم تقصر هذا التصديق على القلب فقط، بل جعلت عمل القلب تصديقًا، وقول اللسان تصديقًا
(1)
؛ ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله كتبَ على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اللسان النُّطق والنَّفس تتمنى وتشتهي، والفرْجُ يصدِّق ذلك ويُكذبه)
(2)
لذا قال الحسن البصري: (إنَّ الإيمان ليس بالتَّحلِّي ولا بالتَّمنِّي، إنَّ الإيمان ما وقر في القلب وصَدَّقه العمل)
(3)
ثمّ على افتراض أن الإيمان هو التصديق، فإنَّ التصديقَ التامَّ في القلب، يستلزم لما وجب من أعمال الجوارح، وهذه اللَّوازم صارت داخلةً في مسمى الإيمان عند الإطلاق؛ لأنَّ انتفاءَ اللازم دليلٌ على انتفاء الملزوم. يقول شيخ الإِسلام مُبينًا العلاقة بين الظاهر والباطن: (وإذا كان القلب فيه تصديق للرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة تامة له = فلا بد أن يظهر ذلك على الجسد، فإن الإرادة الجازمة مع وجود القدرة، تستلزم وجود المقدور،
(1)
انظر: " الفصل"لابن حزم (3/ 228 - 229)
(2)
أخرجه البخاري في كتاب "الاستئذان"،باب "زنى الجوارح دون الفرج"(1322 - رقم= = [6242])، ومسلم في كتاب"القدر"باب "قُدِّر على ابن آدم حظّه من الزِّنى"(4/ 2046 - رقم [2657])
(3)
رواه ابن أَبي شيبة في المُصنَّف (12/ 363 - رقم [36220])
والمحبة الجازمة تتضمن الإرادة الجازمة لتعظيم الرسول وتوقيره، فإذا كان قادرًا على ذلك=امتنع أن يصدر منه موالاة من عادى الرسول صلى الله عليه وسلم =فكيف يصدر منه شتمه، وضربه، وقتله طائعًا غير مكره؟)
(1)
لذا كانت من اللوازم الباطلة التي تلزم المرجئة الذين جعلوا الإيمان مجرد التصديق القلبي، أَنَّ ما كان خلاف كفر التكذيب الذي هو نقيض التصديق من أنواع الكفر العملي =لا يُخْرج من الملة، فمن سجد لصنم، أَو رمى المصحف في الحُشِّ، أو قتل نبيًّا =فإنَّه لا يكفر؛ لأنه قد أتى بالإيمان المُنجي.
ولذا يقول الإمام أحمد مُشنِّعًا على المرجئة: (ويلزمه أن يقول: هو مؤمن بإقراره، وإن أقرّ بالزكاة في الجملة، ولم يجد في مئتي درهم خمسة، أنه مؤمن، فيلزمه أن يقول إذا أقرّ ثم شد الزنّار في وسطه، وصلى للصليب، وأتى الكنائس والبِيَع، وعمل الكبائر كلَّها إلا أنَّه في ذلك مُقر بالله = فيلزمه أن يكون عنده مؤمنًا ، وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم)
(2)
فالتلازم بين الظاهر والباطن أَمرٌ يشهد له النَّقل والحسُّ: (فلا يتصور في العادةِ أَنَّ رجلًا يكون مؤمنًا بقلبه، مقرًا بأن الله أوجب عليه الصلاة ملتزمًا لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به يأمره ولي الأمر بالصلاة = فيمتنع حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمنًا في الباطن قطّ، لا يكون إلا كافرًا
…
)
(3)
ولمَّا التزم المرجئة بأن الإيمانَ هو التصديق، وهذا التصديق خصلة واحدة لا تتفاوت = كان لازم قولهم وقوع التساوي حينئذ بين إيمان
(1)
"جامع المسائل"للإمام ابن تيميَّة (247 = المجموعة الخامسة) وانظر: "مجموع الفتاوى"(7/ 541 - 543، 553 - 562)
(2)
نقلاً عن "الإيمان" لابن تيمية (314)
(3)
مجموع الفتاوى (7/ 615 - 616)
النبي صلى الله عليه وسلم وإيمان الفاسق وأفجر الناس، وهذا اللازم من اللَّوازم الشنيعة التي اشتد نكير الأئمة له
(1)
، ومعلوم فساد هذا عند آحاد المسلمين وعوامهم، فضلًا عن خاصتهم وعلمائهم.
فلم يجد المرجئة مخرجًا من شنعة هذا اللازم، إلَاّ بإحداث معنى جديدٍ للتفاوت غير التفاوت الحاصل في حقيقته، وقد سبق بيان طرف من أقاويلهم في وجه تفاوت الإيمان عندهم، ولكن، أَعْرِضُ لإحدى هذه التخريجات، وهو ما ذهب إليه الجويني رحمه الله في بيان المخلص من هذا اللازم، حيث قال: (أصلكم يُلزمكم أن يكون إيمانُ منهمكٍ في فسقه، كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم.
قلنا: النبي صلى الله عليه وسلم يَفْضل من عداه باستمرار تصديقه، وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك، واختلاج الريب، والتصديق عَرض لا يبقى، وهو متوالٍ للنبي صلى الله عليه وسلم، ثابت لغيره في بعض الأوقات زائل عنه في أوقات الفترات، فيثبت للنبي صلى الله عليه وسلم أعداد من التصديق، لا يثبت لغيره إلَّا بعضها، فيكون إيمانه بذلك أكثر فلو وصف الإيمان بالزيادة والنقصان، وأريد بذلك ما ذكرناه = لكان كلامًا مستقيمًا)
(2)
فالجويني جعل مناط التفاوت بين إيمان النبي صلى الله عليه وسلم وإيمان الفاسق، ما يرجع إلى كثرة التصديقات، وأمَّا ذات التصديق، وحقيقته فلا يقع فيه التفاوت= وبناءً على ذلك ما استطاع الجويني التخلُّص من ورطة اللازم الذي أُوردَ عليهم، بل إنَّ الإِشكال ما زال قائمًا بل هو وقع في إشكال آخر، إذ التسوية لم تنتف بين حقيقة تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وتصديق الفاسق، فحقيقة الإيمان على قولهم واحدة، والاختلاف إنما هو في الكمية، والعدد =وفساد ذلك ظاهر.
(1)
انظر: الإيمان لأبي عبيد (70 - 71)
(2)
"الإرشاد"للجويني (399 - 400)
والإِشكالُ الآخَرُ جَعْلُه إيمانَ غير النبي صلى الله عليه وسلم زائلًا في بعض الفترات، ومقتضى ذلك أنه بانتفاء الإيمان والحالة هذه يحلُّ مقابله وهو الكفر، فكما أنه يستحيل الجمع بين النقيضين فإنّه أَيضًا يستحيل ارتفاع النقيضين.
وما سلف هو على فَرضِ صِحَّةِ تقسيم الكلام إلى حقيقةٍ ومجاز، كيف وقد نازع في صحته جمهرةٌ من أهل العلم
(1)
.
فإذا تبين سقوط احتجاجهم بالمجاز = بان لنا بطلان دعواهم في:
القضية الثانية: دعواهم أن حديث الشعب لا يدلُّ صراحة على أن الأعمال من الإيمان.
فيقال: بل إنَّ حديث الشُّعَبِ من الأدلة الظَّاهرةِ على أن الأعمال من الإيمان بيان ذلك: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَّرَ الإيمانَ بأَنَّه عِبارة عن جُمْلة من الأجزاء والخصال المُتفاوتةِ درجة ونوعًا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) وهذه الشُّعَب منها ما هو عمل ظاهر، ومنها ماهو من الأعمال الباطنة مع قول القلب، والحديث أشار إلى بعض ما تضمنته هذه الشُّعب من الأعمال فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن طريق، والحياء شعبة من الإيمان)
(2)
وتلك الشُّعب الظاهرة والباطنة مَشمولة بهذا اللفظ، ومندرجة تحت مُسَمَّاه، وإلَاّ لما كان لهذا التبيان مِن معنى، كما لو قلت: الصلاة أجزاء وشعب ومن شعبها التكبير، والقيام، والركوع =لم يفهم من هذا التفسير إلاّ كون هذه الأمور داخلة في مُسمَّى اللفظ؛ وهذا معلوم بداهة.
(1)
وممن مَنع من وقوعه في القرآن جماعة كأبي الحسن الجزري، وأبي عبدالله بن حامد وأبي الفضل التميمي، ومحمد ابن خويز بن منداد، ومنذر بن سعيد البلوطي، بل أنكر وقوعه= =في اللغة جُملةً= الإمام أبو إسحاق الإسفرايني انظر:"المصدر السابق"(75)
(2)
سبق تخريجه في المطلب الأَوَّل
وأما القضية الثالثة: وهي دعوى أَنَّ القرآن ليس فيه تصريح بدخول العمل في الإيمان.
فتصوُّر هذا القول يغني عن إفساده، ومع ذا يقال: بل القرآن قد وقع فيه التصريح بذلك.
فقد قال المولى جل وعلا {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)} النور. والتولي إنما هو عن الطَّاعةِ، (فَنَفَى الإيمانَ عمَّن تولى عن العمل، وإن كان أتى بالقول)
(1)
-وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} الأنفال
فهذه الآيات من أعظم الدَّلائل على أنّ الأعمال داخلةٌ في مُسمَّى الإيمان.
يقول الإمام أبو عُبيد رحمه الله: (ومما يصدق تفاضله بالأعمال قول الله جل ثناؤه {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال]، إلى قوله {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا (4)} [الأنفال] فلم يجعلِ الإيمان حقيقة إلا بالعمل بهذه الشروط. والذي يزعم أنَّه بالقول خاصًّة يجعله مؤمنًا وإن لم يكن هناك عمل فهو مُعاندٌ لكتاب الله والسُّنَّة)
(2)
ومن الدّلائل القُرآنيةِ المصرحة بدخول الأعمال في مسمى الإيمان الناقضة لقول المرجئة: قوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} البقرة.
(1)
"الإيمان" لابن تيمية (115)
(2)
"الإيمان"للإمام أَبي عُبيد (65) وأبوعبيد (157 - 224 هـ):هو القاسم بن سلَاّم الهروي الأزدي الخُزاعي بالولاء، الخُرساني الأصل البغدادي، إمام مجتهد ذو فنون، من تصانيفه:"غريب الحديث"،و"الطهور"=انظر:"السِّير"(10/ 490)
قال الإمام البخاري رحمه الله (يعني: صلاتكم عند البيت)
(1)
فسمَّى الله الصلاةَ إيمانًا، وليس بعدَ تسمية الله لها بذلك قولٌ لأحدٍ كائنًا من كان، وما زال السلف والأئمة على تفسير الآية بذلك، حتى نجمت المرجئة، وابتدعوا القول في الإيمان.
يقول الإمام ابن حزم: (ولم يزل أهل الإسلام - قبل الجهمية، والأشعرية، والكرامية، وسائر المرجئة - مجمعين على أنه تعالى إنما عني بذلك صلاتهم إلى البيت المقدس قبل أن ينسخ بالصلاة إلى الكعبة)
(2)
أما القضية الرابعة: فهي شُبهة مَن رد السُّنن، بحجة الاكتفاء بالقرآن، وأنّ فيه الحقيقة دون ما عداه.
وقد أمر الله تعالى باتباع سُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر: 7 وبرّأه عن الهوى في قوله، فقال:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} النجم: 3 - 4 فهذا عام في كل ما نطق به المصطفى صلى الله عليه وسلم أنّه وحي وحقٌ لا يجامعه باطل أبدًا. والسُّنّة كالقرآن حُكمًا ونَوعًا، فأمَّا حُكمًا فمن جِهة أَنَّ لزوم التَّحاكُمِ إليها كلزوم التَّحاكم إلى القُرآن، وأمَّا المِثليّة في النَّوع =فمن جهة أَنَّ كليهما وَحيٌ من الله تعالى غير أَنَّ القُرآن وحيٌ متلو، والسُّنّة ليست كذلك. وبرهان ما سبق ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:(ألا إنِّي أُوتيت القرآن، ومثله معه)
(3)
قال الإمام ابن حبان: (هذه الأخبار مما ذكرنا في كتاب "شرائط
(1)
"الجامع الصحيح" للإمام البخاري (12 - ط دار السلام)
(2)
"الفَصْل"لابن حزم (3/ 233)
(3)
أخرجه أحمد في "المُسند"(5/ 115)،وأبو داود في "السُّنن" كتاب "السُّنَّة"باب "لزوم السُّنَّة"(5/ 11 رقم-[4604]) من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه والحديث صححه= =الألباني، انظر:"صحيح سنن أبي داود"(3/ 117)
الأخبار" أن خطاب الكتاب
(1)
قد يستقل بنفسه في حالةٍ دون حَالةٍ، حتى يُستعمل على عموم ما ورد الخطاب فيه، وقد لا يَستقلُّ في بعض الأَحوال حتى يُستعمل على كيفيّة اللفظ المجمل الذي هو مطلق الخطاب في الكتاب دون أن تبينها السُّنن. وسنن المصطفى صلى الله عليه وسلم كلها مستقلة بأنفسها لا حاجة بها إلى الكتاب المبينة لمجمل الكتاب والمفسرة لمبهمه قال الله جل وعلا:{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} النحل: 44 فأخبر جل وعلا أنّ المُفسِّر لقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا} البقرة: 43 وما أشبهها من مُجمل الأَلفاظِ في الكتابِ= رسولُهُ صلى الله عليه وسلم، ومُحالٌ أنْ يكون الشيءُ المُفسِّرُ، له الحاجةُ إلى الشيءِ المُجْمَلِ، وإنَّما الحاجة تكون للمُجمَل إلى المُفسِّر؛ ضد قولِ من زَعم أن السنن يجب عرضها على الكتاب فأتى بما لا يوافقه الخبر ويدفع صحته النظر)
(2)
* * *
(1)
يقصد: القرآن.
(2)
"صحيح ابن حبان"(5/ 91 - الإحسان)