الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: دفع دعوى المعارض العقلي عن الأحاديث الدَّالة على وجود الجن والشياطين:
أمّا الجواب عن الاعتراض الأول؛ فيقال: قد ثبت وجود الجن ثبوتًا ضروريًّا، لا ينكره إلا مكابر. وقد سبق الكشف عن وجه هذه الضرورة. وكيفيَّةُ الجنِّ حقيقةٌ مغيَّبة عن شهود حواسّنا لها، لكن دلّ السمع الذي شهد العقل بصدقه على أن للجنّ أَجسامًا لطيفةً. والإقرار بذلك لا يبطله زعم المنكرين أنّه لو كانوا أجسامًا لطيفة؛ يلزم من ذلك أمران: أن يتمزّقوا عند هبوب الرياح القوية، وألَّا يكون لهم قدرة على الأعمال الشَّاقة = لأَنَّ هذا الزّعم معارَض بمثله. وبيان ذلك أن هؤلاء يقرّون أن الرّياح العاصفة القوية ليست أجسامًا كثيفةً، ومع لَطافَتِها إلا أنّه ثبت بالضَّرورة الحسّية تَدميرها للقرى والمساكن، وإهلاكها للحرث والنَّسل. وقد أضاف الله تبارك وتعالى إليها شيئا من ذلك في كتابه، فقال عز وجل:{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)} الأحقاف.
فإذا كانت هذه القدرة حاصلة للريح -بإذن الله-، مع لطافتها؛ فما وجْه المنع من حصولها للجنّ مع تحقُّق ذلك لها بالأدلة الشرعية؟
وها هم الفلاسفة يثبِتون أنّ النار التي تنفصل عن الصواعق تنفُذ في اللّمحة اللّطيفة إلى بواطن الأشجار والحديد، وتخرج من الجانب الآخر
(1)
. فلم تكن لَطَافةُ النَّارِ حائلةً دون نفوذها في الأجسام الكثيفة،
(1)
انظر: "مفاتيح الغيب"(1/ 82).
ولا سببًا في تمزّقها وتبدُّدها. فإذا ثبت ذلك للنار؛ فلِمَ يُمنع أن يقع ذلك للجن، مع لحْظ أن مادة خلقها منها؟
وأمّا الجواب عن الاعتراض الثاني، فيقال: إنه لا يُسلّم لزوم حصول العداوة، أوالصداقة، بمجرّد المخالطة. فإنّ العداوة والصداقة ليستا من قبيل السَّلب والإيجاب اللّذَيْن يمتنعُ ارتفاعُهما معًا، واجتماعهما معًا؛ بل هما ضدّانِ.
والأدلة الشرعية النَّقليَّة والحسيَّة تقضي بحصول أحوالٍ من الإلف أو العداوة والتسلط بالإيذاء من قِبَل الجنّ على الإنس. وهذا أمرٌ مستقرّ معلومٌ. وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي السائب، أنه دخل على أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في بيته، قال:(فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حتى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ، فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا في عَرَاجِينَ في نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَالْتَفَتُّ فإذا حَيَّةٌ، فَوَثَبْتُ لِأَقْتُلَهَا، فَأَشَارَ إليّ أَنْ اجْلِسْ، فَجَلَسْتُ. فلمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إلى بَيْتٍ في الدَّارِ فقال: أَتَرَى هذا الْبَيْتَ؟ فقلت: نعم. قال: كان فيه فَتًى مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ. قال: فَخَرَجْنَا مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى الْخَنْدَقِ، فَكَانَ ذلك الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْصَافِ النَّهَارِ، فَيَرْجِعُ إلى أَهْلِهِ. فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا، فقال له رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ) فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ؛ فإذا امْرَأَتُهُ بين الْبَابَيْنِ قَائِمَةً، فَأَهْوَى إِلَيْهَا الرُّمْحَ لِيَطْعنَهَا بِهِ، وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ، فقالت له: اكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ، وَادْخُل الْبَيْتَ حتى تَنْظُرَ ما الذي أَخْرَجَنِي، فَدَخَلَ فإذا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ على الْفِرَاشِ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ، فَانْتَظَمَهَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَزَهُ في الدَّارِ، فَاضْطَرَبَتْ عليه، فما يُدْرَى أَيُّهُمَا كان أَسْرَعَ مَوْتًا: الْحَيَّةُ، أَمْ الْفَتَى؟ قال: فَجِئْنَا إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْنَا ذلك له، وَقُلْنَا: ادْعُ اللَّهَ يُحْيِيهِ لنا.
فقال:
(اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ) ثُمَّ قال: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قد أَسْلَمُوا، فإذا رَأَيْتُمْ منهم شيئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذلك فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هو شَيْطَانٌ)
(1)
.
فتبيّن من هذا الحديث أن الجنّ قد يبلغ أذاها إلى القتل. والبراهين على وقوع الأذى أو النفع من الجنّ للإنس كثيرة، والمنصف يقنع بما سبق ذِكره.
والجواب عن الاعتراض الثالث؛ وهو دعواهم: أن طريق إثبات وجود الجنّ إما الحِسّ، وإما الخبر
…
إلخ.
فيقال: صِدْق النتيجة مرهون بصدق المقدّمات، والمقدمة لم تصدق = فالنتيجة إذن باطلةٌ. وبيان ذلك: أنّه لا يُسلّم لهم بأن الحِسّ لم يدلّ على وجودهم؛ لأن الضَّرورةَ الحسيَّة تقْضي بوجودهم؛ إمّا من جهة معاينة آثارهم، أو من شهود الحسّ لهم مباشرةً، بسماع أصواتهم. والوقائع في ذلك قد استفاضت استفاضةً أغنتْ عن كلّ إسناد؛ فهي من العلم العامّ الذي يقطع العاقل بصدقها.
وكذلك رؤيتهم، فقد صحّ أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم. ورآهم أيضًا بعض أصحابه رضي الله عنهم؛ كأبي هريرة رضي الله عنه عندما وكّله النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة
(2)
. سواءً كانت الرؤية بصورهم التي خلقهم الله عليها - وهذا جائز أن يقع للنبي صلى الله عليه وسلم، أو كانت الرؤية لهم في حال تمثُّلِهم. وأيًّا ما كان؛ فالرؤية ليست منتفيةً عن جميع الخلق؛ كما جاء في الدعوى.
(1)
أخرجه مسلم في: كتاب "السلام" باب "قتل الحيّات وغيرها "(4/ 1756 - رقم [2236]) .
(2)
أخرجه البخاري في: كتاب "الوكالة"، باب " إذا وكّل رجلًا فترك الوكيل شيئًا فأجازه"(455 - رقم [2311]) .
فإن قيل: لو كانت الرُّؤية متحقّقة في بعض الأَحوال؛ فلِمَ لا تكون كذلك في جميع الأحوال؟
والجواب: أَنَّ من حكمة الحكيم العليم أن يبتلي عباده بأمر الجنّ، ليتحقّق الجزاء على الإيمان بهذا الواقع المغيّب، أو عدمه. وانتفاء الرُّؤيةِ في كل حال لا يلزم منه انتفاء الوجود؛ فإنَّ للبصر خاصيَّتَه التي ركّبها الله فيه؛ مِن أنّه لا يُدرك إلا الألوان، وما ليس له لون فلا يُدرِكه. فليس عجْزُه عن إدراك ما لا يتّصف باللَّونيَّة بقاضٍ على انتفاءِ وجوده. فالهواء مثلًا حقيقةٌ موجودةٌ، لا يشكُّ العقلاءُ في وجوده، ومع ذلك فإنّه لا يقع للبصر إدراكه؛ لانتفاء اللونيَّةِ عنه = فعُلِم بذلك أن وجود الأشياء ليس تابعًا لإدراك البصر لها، فضلًا عن إدراك الحسّ لها
(1)
.
وأمّا دعواهم أنّ ثبوت وجود الجنّ بخبر الأنبياء والرسل باطل؛ لأن ثبوت ذلك - بزعمهم- يستدعي الشكّ في معجزاتهم
…
إلخ
فيقال: كذلك التكذيب بوجودهم - أي: الجنّ - باطل؛ لأنَّ ذلك يستلزم الطعن في نبوة الأنبياء الذين أخبروا بوجودهم
(2)
. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن جنس معجزات الأنبياء خارجةٌ عن قُدَر الجنّ والإنس جميعًا، فلا يقع الالتباس بين ما يقع للأنبياء من آيات، وبين ما تستطيعه الجنّ.
وأمّا الجواب عن الاعتراض الرابع: إذا كان الجنُّ موجودين
…
إلخ.
فيقال: النظر في هذه الدعوى من جهتين:
الجهة الأولى: أن يقال: لا تلازُم بين وجود الجن، وثبوت جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أَو أَصحابه رضي الله عنهم، أَو مع المؤمنين. والرَّابط
(1)
انظر:"الفصل"لابن حزم (5/ 112) .
(2)
انظر: "عالَم الجنّ"(ص 115) .
بينهما بيِّنُ الفساد؛ إذ من الممكن أن يكونوا غير مخاطَبين بالجهاد مع مؤمني الإنس، وقد يكون خطابهم مختصٌّ بقتال مَن كان من جنسهم من الكفّار. وقد ثبت ما يؤيّد ذلك؛ فقد روى أبو نضرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: (أَنَّ رجلًا من الأَنصار خَرَجَ يُصلِّي مع قومه العشاء، فَسَبَتْهُ الجنّ، فَفُقِد، فانطلقَتْ امرأتُه إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقصّت عليه القصّة، فسأل عنه عمر قومَه، فقالوا: نعم، خرج يصلّي ففُقِد. فأمرها أن تتربّص أربع سنين، فلمّا مضت الأربع سنين أتته فأخبرتْه، فسأل قومها، فقالوا: نعم. فأمرها أن تتزوج، فتزوّجت، فجاء زوجُها يخاصم في ذلك إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يغيب أحدكم الزمان الطويل، لا يعلم أهله حياته. فقال له: إنّ لي عذرًا يا أمير المؤمنين، فقال: وما عندك؟ قال خرجتُ أصلّي العشاء، فسَبَتْني الجنّ، فلبثت فيهم زمانًا طويلًا، فغزاهم جنٌّ مؤمنون - أو قال: مسلمون- فقاتلوهم، فظهروا عليهم، فسبوا منهم سبايا، فسبوني فيما سَبَوا منهم، فقالوا: نراك رجلًا مسلما، ولا يحلّ لنا أن نسبيَك. فخيّروني بين المقام، وبين القفول إلى أهلي، فاخترت القفول إلى أهلي
…
)
(1)
.
فهذا الأثر إذا تأمّلته فإنّه يقوّي ما سلف ذِكْرُه من كون الجن مخاطَبين بجنس الجهاد؛ سواءً كان جهاد مشركي الجنّ - والأثر السابق يقوّي ذلك - أو جهاد مشركي الإنس، وقد استُدل لذلك بما جرى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حين وجّه جيشًا ورأس عليه سارية بن زنيم لفتح بلاد فارس
…
وفيه: (فبينما عمر يخطب، فجعل ينادي: يا سارية الجبل. قال عمر: فإنّ لله جندًا تبلّغهم صوتي. فجاء البشير بالفتح، وشاع الخبر في الناس، فسألهم عمر: من أين لكم هذا؟ فقالوا: رأينا
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن"(7/ 445 - 446) وصحّحه الألباني في "إرواء الغليل"(6/ 151) .
راكبًا أخبر بذلك. فقال: هذا أبو الهيثم من الجن؛ بريد المؤمنين، وسيأتي بريد الإنس، فأتاهم بريد الإنس بعد أيَّام)
(1)
.
فخبر أبي الهيثم - إنْ صحّ - فإنّه يدلّ على مشاركة مؤمني الجن في الجهاد. لذا قال ابن تيمية معقّبًا على هذا الخبر: (فهؤلاء الجن كانوا مؤمنين مجاهدين في سبيل الله)
(2)
وقال في موطن آخر: (والدلائل الدالّة على هذا الأصل - أي: تكليف الجنّ -، وما في الحديث، والآثار من كون الجنِّ يحجُّون، ويصلُّون، ويجاهدون، وأنهم يعاقَبون على الذَّنْبِ = كثيرة جدًّا)
(3)
.
ولو قدّر انتفاء حصول الجهاد منهم؛ فإن ذلك لا يلزم منه انتفاء وجودهم؛ لانفكاك ما بين المسألتين.
الجهة الثانية في النظر في هذه الدعوى: أَنَّ الأدلَّةَ لا تنهض على إثبات جهاد الجنّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو مع المؤمنين عمومًا؛ لكنها أيضًا لا تنفي ذلك. فعدم العلم بها ليس علمًا بالعدم، فليس مع الجاحد إلاّ النفي، والنّفي المجرّد خبرٌ عن جهْل الإنسان بالدَّلائل، والواجب فيما لم ينتصب للناظر في قضية دليل نفي أو إثبات =أن يُسرِّحها إلى بُقْعةِ
(1)
أصل الخبر مروي من طرق أخرجها أبو نعيم في "دلائل النبوة"(ص 526) وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(20/ 25) وغيرهما. وقد قال عنها الإمام ابن كثير في "البداية والنهاية"(10/ 176): (فهذه طرق يشدُّ بعضُها بعضًا) . وتعقّبه العلاّمة الألباني بقوله: (وفي هذا نظرٌ؛ فإن أكثر الطرق المشار إليها مدارها على سيف بن عمر، والواقدي. وهما كذّابان. ومدار إحداها على مالك عن نافع به نحوه. قال ابن كثير: ((وفي صحّته من حديث مالك نَظَر))
…
فتبيَّن ممَّا تقدَّم أَنَّه لايصِحُّ شيءٌ مِن هذه الطُرُقِ إلَّا من طريق ابن عجلان) ((السلسلة الصحيحة)) (3/ 101 - 102) . وأما خبر أبي الهيثم فقد أورده الحافظ ابن حجر في ((الإصابة)) (7/ 451)،وابن تيمية في ((قاعدة عظيمة)) (ص 154 - 155) ولم أقف على إسنادٍ له.
(2)
((قاعدة عظيمة)) لابن تيميَّة (ص 155) .
(3)
"مجموع الفتاوى"لابن تيميَّة (4/ 233 - 237) .
الإمكان إلى أن يتحصَّل له فيه مرجِّح أو مُوجِب، هذا على تقدير انتفاء دليل الإثبات، وإلَاّ فالضَّرورةُ العقليَّةُ تُحتِّم لزوم اليقين بوجودهم؛ لتضافُر الدلائل على ذلك. وترْكُ اليقين الثابت لطروء الشكّ خروجٌ عن سبيل العقلاء.
وبعد بيان ما في تلك المعارضات من وَهَن يبْتَعِد بها عن مُزاحَمة البراهين الشرعية يُشرع في بيان بطلان مَنْ تأوّل الجنّ تأويلًا ليس له حظٌّ من النَّظَر؛ فإِنَّ التأويلَ - كما تقدّم مرارًا - فرعٌ عن الاستحالة في بعض المقامات؛ ولا استحالة في حمل تلك الأدلّة على ما دلَّت عليه.
وما ذهب إليه "محمد عبده" بأنّ الشياطين هي أرْواحٌ تتّصل بأرواح الناس = من زعماته الكبار التي لا يشهد لها دليلٌ؛ بل إن الأخذ بما ذهب إليه أبعد في النقل والعقل. وبيان ذلك؛ أن يقال: إنّ علّة نَفْيه أن يكون للجنّ تمثُّلٌ جسمانيٌّ؛ هو: أنّ الحِسّ يقضي بامتناع ذلك = فلأنْ يكون امتناع أن يكون للجنّ أرواحٌ أَوْلى؛ لعدم تصديق النقل والحسّ لذلك.
وما لم يشهد له النقل والحسّ أَولى بالإبطال مما لم يشهد له الحسّ فقط. وبيان أن الحِسّ لا يشهدُ لهذا التأويل ظاهر، لا يفتقر إلى بيان. وأمّا عدم دلالة النقل على هذا القول؛ فبيانه: أن تلك الدلائل النقلية نعتت الشياطين والجنّ بنعوتٍ يقضي الناظر فيها أن هذه النعوت لا تصلح أن تضاف إلى مجرّد أرواحٍ. فكيف يحمل سماع الأذان الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنّه لا يسمع مدى صوت المؤذّن جِنٌّ ولا إنسٌ إلاّ شهد له يوم القيامة)
(1)
على أنّه سماعٌ صادرٌ من أرواح؟ فهل من طبيعة الأرواح السماع؟!!.
(1)
تقدّم تخريجه.
وكيف يحمل ما وجده المصطفى صلى الله عليه وسلم من أَثَرِ لُعاب ذلك الجنِّي الذي اعترضه في صلاته = على أنّه لُعابٌ صادرٌ من تلك الأرواح؟!
وما تقدم ينبئك أن أرباب هذه المدرسة يخالفون النصوص؛ بدعوى مخالفتها للعقل، ثم تراهم يقعون في معاطِبَ أشنع في العقول ممّا زعموا الفرار منه.
وحاصل موقف الدكتور "محمد البهي" من الجنّ مضطربٌ، وهذا الاضطراب ناشئ عن مخالفة الضرورة الشرعية؛ فإنّ كلّ من خالفها فلا بدّ أن يقع له شيءٌ من هذا الاضطراب. فحمْله للجن في بعض الموارد على فريق خيِّرٍ من الإنس غريبٍ، وغير معهودٍ = مخالف للحقيقة الشرعية اللغوية العرفية. فإنّ هذا الاستعمال من كِيسِه، لا يُعرف له شاهد في جميع الحقائق الثلاث. فالاستعمال الشرعي لهذا اللفظ يُطلق ويراد به ما هو قسيمٌ للإنس والملائكة. ولم يجْرِ إطلاقه في عامّة ما ورد - بحسب النظر القاصر - على الإنس، ولا على الملائكة؛ إلَّا في موطن واحدٍ في القرآن، قد أشار إليه بعض أهل التفسير، في قوله تعالى:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} الصافات: 158 فقد حمله بعضهم الجِنّة في هذا الموضع =على " الملائكة"
(1)
. فإنَّ صحَّ هذا الحمل، فيبقى أَنَّ الغالب في إطلاق اسم "الجن" على الخَلْق المعروف، ومن المتقرر في الأصول أن الشارع يطلق ألفاظه على عُرْفِه؛ وهو العرف الشرعي، لا على العرف الخاص للمخاطَب. والتقييد بالخاص هنا؛ لأَنَّ هذا العُرفَ تفرّد به - فيما أعلم - "البهيّ" عمّا هو معروف لدى عامَّة الناطقين بالعربية. فأنت ترى الإمام الجوهري رحمه الله حين أراد بيان حقيقة الجنّ العُرفية، قال: (الجنّ: خلافُ الإنس،
(1)
انظر: " جامع البيان " الإمام ابن جرير الطبري (12/ 108) .
الواحد جِنِّي. سُمّيت بذلك؛ لأنّها تَخفى، ولا تُرى)
(1)
. ووهم مخالفته للحقيقة اللغوية: أنّ مادة "جَنَنَ" تدور على ما استتر عن الأبصار. والغَرابة، وحصول الشيء غير المعهود أمران لا تتناولهما هذه المادة. فما علاقة الشيء الغريب وغير المعهود = وهذه المادة؟!
ومحصَّل القول أن الاسترسال في بيان بطلان هذا القول خروجٌ عن حدّ الاعتدال إلى التكلُّف؛ لظهور فساده. ففساده يُغني عن إفساده. وأمّا ذَهابه في بعض المواطن إلى حمْل ما ورد في الشرع من ذِكر الجن على "عالَم غير المرئي" فهو كسابقه. وبطلانه من الوجوه التالية:
1 -
أنه قول لا سلف له فيه، وهو يفتقر إلى دليل يعضده. ولا دليل.
2 -
أنه قصر لفظ "الإنس" على العالَم المرئي، ولفظَ الجن على "العالَم غير المرئي" ومن المعلوم في بدائه الحس أن العالَم المرئي غير مقصور على الإنس؛ بل يعجّ بأصناف المخلوقات. وكذا العالَم غير المرئي، غير مقصور على الجنّ.
(1)
"لسان العرب"(1/ 473) .