الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: سوق دعوى المعارض العقلي على أحاديث الشفاعة:
وحاصل ما ساقه المخالفون من المعارضات العقلية على نُصوصِ الشَّفَاعةِ يمكن إجماله في مقامين:
المقام الأول: معارضات عقلية مُجْلبة على أَصل الشفاعة.
المقام الثاني: معارضات عقلية سيقت على متعلق الشفاعة لأهل الكبائر.
فأمَّا المَقامُ الأوَّلُ: فممّا أُورِد على أصل الشفاعة =دعواهم أنَّ جريان الشفاعة على يد الشُّفعاءِ يقتضي مشاركة الله في مُلْكِهِ، ومنازعته فيما تفرد به.
وفي تقرير هذا الاعتراض يقول الدكتور "مصطفى محمود": (جمعية الشفاعة كلها لله وحده - كما ذكر القرآن وكرر في محكم آياته - وأنه لا يُشرِك في حكمه أَحدًا
…
وليس لله منافسٌ في هذا، ولا يجوز أن يكون له منافس
…
)
(1)
ويقول أيضًا مُقرِّرًا أَنَّ الاعتقاد بالشفاعة لون من الشرك خفِيٌّ؛ فاللهُ واحد أحد، ليس كمثله شيء؛ ومِنْ ثَمّ (لا يصلح الإنسان أو المَلِك، أو رئيس الملائكة، أو أبو الأنبياء = أن يكون له شريكًا على أي مستوى
…
وهو متفرّد بالأمر والحكم. ولا يجوز أ، يتدخّل أحد، أو أن يعدّل أو يبدّل في حكمه
…
وهذا جوهر الإسلام. وبداية هذا الشرك الخفي كان معناها بداية انحدار الإنسان
…
)
(2)
(1)
"الشفاعة"لمصطفى محمود (48)
(2)
"المصدر السابق"(113)
أما المقام الثاني: فمن المعارضات المَقُولة على متعلق الشفاعة لأهل الكبائر ما يلي:
أولاً: أَن العقوبة على الكبيرة مستحَقّة على جهة التأبيد، والقول بالشَّفَاعةِ يَخْرمُ هذا الأصلَ؛ إذ لو صَحَّ انقطاعُ عذابِ الفاسقِ؛ لصحّ انقطاع عذاب الكافر قياسًا عليه، بجامع التناهي في المعصية.
وفي بيان هذا المأخذ يقول القاضي عبد الجبار: (دلّت الدلالة على أَنَّ العقوبةَ تُستحَقّ على طريقِ الدَّوام، فكيف يخرج الفاسق من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والحال ما تقدم؟!)
(1)
ثانيًا: أنَّه إذا كان في الشاهد الشفاعة للمذنب لا تَحْسُن مع الإصرار؛ فكذلك الأمر بالنسبة للغائب، فتقبح الشفاعة حينئذٍ للمذنب مع إصراره.
وفي تقرير هذه الشُّبْهة يقول القاضي عبد الجبَّار: (الشَّفاعةُ في الدُّنيا للمُذنْبِ لا تصحُّ، ولا تحسُن مع الإصرارِ، وإنما تحسُن إذا تاب وتركَ الإِصرارَ؛ لأنّ مَن جَنَى على غيرهِ بأنْ قَتَلَ له ولدًا أو سَلَبه مالًا، إذا شَفَعْنا إليه وسألناه العفو عنه، وقلنا: هو مقيم على قتل غيره من أولاده = كان ذلك لا يحسن، وهذا يمنع مما قالوه -إذا صَحَّ-)
(2)
ثالثًا: أن شفاعة الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم لأَهلِ الكبائرِ تَسْتلْزِمُ أحدَ مُمتنعَين؛ إمَّا ألاّ يُشفّع وهذا لا يجوز؛ لأنّه يقدح بإكرامه. وإمَّا أن يُشفّع فيه، وهذا ممتنع أيضًا؛ لأنّ إثابةَ من لا يستحقُّ الثوابَ قبيحٌ.
يقول القاضي عبد الجبار: (الرَّسولُ إذا شفعَ لصَاحبِ الكبيرة؛ فلا يخلو: إما أنْ يُشفّع، أوْ لا. فإن لم يُشَفَّعْ لم يَجُزْ؛ لأنه يقدح
(1)
"شرح الأصول الخمسة"(689) وانظر: "شرح المقاصد" للتفتازاني (5/ 140)
(2)
"طبقات المعتزلة"(208)، وانظر:"شرح الأصول الخمسة"(688)
بإكرامه. وإن شفع فيه لم يجز أيضًا؛ لأنا قد دللنا على إثابة من لا يستحق الثواب قبيح، وأن المُكلّف لا يدخل الجنة تفضُّلًا)
(1)
رابعًا: أنَّ القولَ بانقطاع العذاب عن مرتكب الكبيرة بالشفاعة يلزمُ منه التمادي في الذنوب؛ فكان القول بامتناع الشفاعة أزجر عن غشيان المعاصي.
يقول الإباضي أَحمد الخليلي: (من أمعن النَّظَرَ في أَحوالِ النَّاسِ؛ يتبينُ له أنَّ اعتقاد انتهاء عذاب العُصاة إلى أَمَدٍ، وانقلابهم بعده إلى نَعيمٍ = جَرَّأ هذه الأمة - كما جرأ اليهود من قبلُ - على انتهاك حُرَم الدين، والتفصِّي عن قيود الفضيلة، والاسترسال وراء شهوات النفس، واقتحام لُجج أهوائها)
(2)
خامسا: أنه يمتنع القول بجواز الشَّفَاعةِ لأَهلِ الكبائر. ووجه ذلك: أنَّ الأُمَّةَ مُجمعةٌ على حُسن الرَّغبة إلى الله أن يجعلنا من أهل شفاعته صلى الله عليه وسلم؛ فلو كانت الشَّفَاعةُ جائزةً للفُسَّاق = لَلَزِم أن يكون الدُّعاء بنيل الشفاعة دعاءً بأن يجعلنا الله من الفُسَّاق!
وفي بيان هذه الشبهة يقول القاضي عبد الجبار: (يقال لهؤلاء المرجئة: أليس أن الأمة اتفقت على قولهم: اللهم اجعلنا من أهل الشفاعة؟! فلو كان الأمر على ما ذكر نحوه = لكان يجب أن يكون هذا الدعاء لأن يجعلهم الله تعالى من الفُسّاق؛ وذلك خلف)
(3)
* * *
(1)
"شرح الأصول الخمسة"(689)
(2)
"الحق الدامغ"(266) وانظر: "الشفاعة" لمصطفى محمود (27،32)
(3)
"شرح الأصول الخمسة"(692)