الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد:
الغيب؛ هو: ما غاب عن الحواس
(1)
.
والإيمان بالغيب أصل الإيمان وأُسُّه، وثبوتُه ضرورةٌ شرعيةٌ دلّ عليها الشرع. ومن أنعم النظر في دلائل القرآن والسنة؛ وجد أنهما قد شُحنا بذكرها، وبيانها، وترتيب الجزاء على مَن آمن بها؛ لكونها مدار الابتلاء، والامتحان.
ومما يدخل دخولًا أوّليًّا في هذا الغيب: الإيمان بالله تعالى، وبأسمائه وصفاته، وملائكته، والجنة والنار، وغير ذلك مما ثبتت به الدّلائل الشرعية؛ من السّمع، والعقل.
وقد رتّب المولى جلّ وعلا على هذا المَطْلب نتائج جليلة؛ منها:
- أن حصول الاهتداء التامّ بالوحي هو لمن آمن بالغيب. قال سبحانه: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} البقرة.
- تحقُّق الانتفاع بِنُذُر القرآن ومواعظه، قال تبارك وتعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)} فاطر: 18 وقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ
(1)
انظر: "مجموع الفتاوى"(13/ 232).
الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)} يس.
- حصول المغفرة من الذنوب، وحصول الأجر الكبير. قال جل جلاله:{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)} الملك.
- الوعد بتحقق أغلى المطالب؛ وهو: دخول جنات عدن. قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)} مريم.
وكذلك؛ فإن الإيمان بالغيب هو مقتضى الضرورة النَّفسيَّة؛ ذلك لأنَّه لا يوجد إنسان يستطيع الانفكاك عن حاجته للتفكير في الغيب، ونزوع نفسه إلى التأمل في قضايا تخرج من محيط الشهادة إلى دائرة الغيب. ولذا؛ فإن من طبيعة النفس البشرية الإيلاع بالبحث عن علل الأشياء، وتَطَلُّب أسْبابها المغيَّبة عن شهود الحِسّ لها.
لذا؛ كان الإيمان بالغيب من أخصِّ خصائص المؤمنين التي امتازوا بها عن الكافرين. يقول العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مجلِّيًا هذه الخصيصة: (حقيقة الإيمان؛ هو التصديق التّام بما أَخبرت به الرُّسل، المتضمّن لانقياد الجوارح. وليس الشّأنُ في الإيمان بالأشياء المشاهدةَ بالحسّ؛ فإنّه لا يتميّز بها المسلم من الكافر = إنما الشّأنُ في الإيمان بالغيب، الذي لم نَرَهُ، ولم نُشاهدْهُ، وإنّما نؤمن به لخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا الإيمان الذي يُميَّز به المسلمُ من الكافر؛ لأنه تصديقٌ مجرَّدٌ لله ولرسله، فالمؤمن يؤمنُ بُكلِّ ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله سواء شاهده أو لم يُشاهده؛ وسواء، فَهِمَه وعَقِلَه، أو لم يهتدِ إليه عقلُه وفهْمُه. بخلاف الزنادقة المكذبين للأمور الغيبية؛ لأن عقولهم القاصرة المقصّرة لم تهتدِ إليها، فكذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه؛ ففسدت عقولهم، ومرجتْ أحلامُهم. وزَكَتْ عقولُ المؤمنين المصدّقين، المهتدين
بهدي الله)
(1)
.
ومرادُه رحمه الله بالتصديق المجرّد = التصديق الجازم بما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من غيبيات وكونه ليس موقوفًا على دفْع معارض عقلي، أو عقل كيفية وكُنه هذا الغيب. فهو رحمه الله لا يريد بالتصديق المجرّد هنا تصديقًا خاليًا عن تعقّل معاني هذا الغيب، أو الاستدلال عليه بالأدلة الشرعية العقلية التي نبّه عليها الوحي = فإنّ هذا مناقض لمقصود الشارع من جهتين:
الجهة الأولى: أَنَّ حقيقةَ التصديق الجازمِ =هو ما بُني على إقرارٍ وتعقُّل لما خوطِب به المصدق. وإلاّ؛ فكيف وقع الجزمُ إذن؟ فلا يقع الجزم إلَّا على أمر معقول انعقد القلبُ عليه.
والجهة الثانية: أَنَّ الشَّارع لم يخاطبنا بتلك الغيبيات، ويبيّن أدلّتها العقلية؛ إلاّ لِنفْهَمَ ذلك الغيب، ونوظّف تلك البراهين العقلية في إثباته، والاستدلال على ما يمكن الاستدلال عليه؛ وهو الغيبُ المتعقل.
=بل إِنَّ الإيمانَ بالغيبِ أَيضًا كما أنّه الفارق بين المسلم والكافر، هو أيضًا ممّا يميّز الإنسان المكرّم عن سائر مخلوقات الله. فإذا انسلخ عن هذا المَيْسَم الذي اختُصّ به = انحطّ إلى رُتبة الأنعام، وساواها فيما تشترك فيه.
يقول سيّد قطب رحمه الله: (الإيمان بالغيب؛ هو: العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يُدرِك إلا ما تُدرِكُه حواسُّه؛ إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجودَ أكبرُ وأشملُ من ذلك الحيّز الصغير المحدود الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس -؛ وهي نقلةٌ بعيدةُ الأثر في تصوُّر الإنسان لحقيقة الوجود كلِّه، ولحقيقة
(1)
"تيسير الكريم الرحمن"(ص 40) .
وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطوية في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون، وما وراء الكون مِنْ قُدرةٍ وتدبيرٍ. كما أنّها بعيد الأثر في حياته على الأرض؛ فليس مَن يعيش في الحيّز الصغير الذي تدركه حواسّه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تُدركُه بديهتُه وبصيرتُه، ويتلقّى أصداءَه وإيحاءَاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أنّ مداهُ أوسعُ في الزمان والمكان من كلّ ما يدرِكُه وعْيُه في عمره القصير المحدود، وأن وراء الكون ظاهرِه وخافِيهِ حقيقةٌ أكبر من الكون؛ هي التي صدر عنها، واستمدّ من وجودِها وجودَه = حقيقة الذات الإلهيّة التي لا تُدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول)
(1)
.
والإيمان بالغيب مقتضى الضرورة الخُلُقيّة؛ فالدّنيا يسعى فيها البَرُّ والفاجر، والصالح والطالح. واختلافُ السعي يتطلّب المجازاةَ وإثابة المحسن، وعقوبةَ المسيء؛ ضرورة أن الخلق لم يُتركوا هملًا.
والدُّنيا ليست موضوعةً لهذا الغَرَضِ = فعُلِم يقينًا، أَنَّ هناك دارًا أُخرى مُغيَّبة عنّا تتمّ فيها هذه المجازاة؛ كلٌّ بحسَبِ سعْيِه
(2)
.
وقضايا الاعتقاد الغيبيّة تنقسم من جهة دلالة العقل عليها إلى قسمين:
الأول: معقول. يكون مستند استدلال العقل عليه؛ بتوسّط أثر موضوعي يحكم العقل بضرورة التسبب والتلازم بين المسبَّب المشهود، وبين سببه الغيبيّ.
ووجه هذه الضَّرورة العقليَّة: أَنَّ العقلَ بمدركاته الفطريَّة يحكم بامتناع وجود أثر ومسبّب؛ هكذا بعفوية، ثم لا يكون لوجوده سببٌ اقتضى ترجيح إمكانية وجوده على عدمه. وليست هذه الضَّرورةُ العقليَّةُ
(1)
"في ظلال القرآن"(1/ 4) .
(2)
انظر: " الغيب والعقل"(125) .
مقتصرةً على إثبات القضايا الاعتقادية المغيّبة عنّا فحسب = بل هذه الضرورة هي الأساس الذي قامت عليه العلوم التجريبية.
وفي تقرير هذه الحقيقة العلمية يقول "كورنو"
(1)
: (ما من ظاهرة، أو حادثٍ يحدث إلا وله سبب. ذلك هو المبدأ الموجِّه للعقل البشري، والمنظِّم لعملياته خلال البحث عن الحوادث الواقعيّة. قد يحدث أحيانًا أن يغيب عنّا سبب ظاهرةٍ، أو نتّخذ سببًا ما ليس بسببٍ؛ ولكن لا عجزنا عن تطبيق مبدأ السببية، ولا الأخطاء التي نقع فيها عند تطبيقه = بِقادِرَيْنِ على زعزعة إيماننا بهذا المبدأ الذي نعتبره قاعدةً مُطلقة ضروريةً)
(2)
.
فوجود بعض الظواهر يكشف عن أسبابها؛ بالكشف عن هذا التلازم بين الظاهرة وسببها، ليتم صياغة القوانين التي من خلالها يمكن ضبط هذه الظواهر، وفهم الطريقة التي حدثت بها.
فسقوط الأجسام نحو الأرضِ بتسارُعٍ واحدٍ - مثلًا - ظاهرة وأثر، سببه ما أودعه الله في الأرض من جاذبية تجذبُ الأشياء إليها. أَمَّا حقيقةُ هذه الجاذبيَّة وكُنهها فأمْرٌ غيبيّ لا يدخل تحت سرادق البحث التجريبي. وهذا مطّردٌ في كافَّة القوى الطبيعية المكتَشَفة؛ كالقوى الكهربائية، والمغناطيسية، والنووية
(3)
.
وأمّا القسم الثاني، فهو: الغيب المحض (=المتعقَّل):
وهذا القسم لا يَتأتَّى للعقل الاستدلال على قضاياه مباشرة، إذ العلم به متوقفٌ على خبر الصادق، وإّنما لم يمكن الاستدلال العقلي
(1)
أنطوان أوجست كورنو (1801 - 1877 م) مفكر فرنسي، وعالم رياضي. صاغ أول نظرية للمصادفة في الفكر الحديث، وأقام بناءً فلسفيا كاملًا على تصوّره للمصادفة. انظر:" السببية في العلم"(ص 158) .
(2)
" السببية والعلم" السيد نفادي (ص 158) .
(3)
انظر:"عقائد فَلْسفيَّة خلف صياغة القوانين الطبيعية": د. محجوب عبيد طه (ص 22 - مقالة ضمن كتاب "إشكالية التحيّز") .
على هذا النوع من الغيوب =لكون الواسطة المحسوسة منتفية بين العقل وبين هذا النوع من الغيب، والتي من خلالها يحكم العقل بضرورة التلازم بينها وبين سببها الغيبي كما تقدم بيان ذلك.
وتعذر الاستدلال عليه ابتداء لايمنع من إثباته وإمكان الاستدلال على أَصله، وذلك بإقامة الدلائل القطعية على صدق المُخْبرِ به، وكذا أَيضًا لا يمنع من تعقُّلِ هذا الغيب فَهمًا وإِدراكًا لمعانيه.
فاستبان بهذا التقرير قيامُ البرهان على إثبات العقائد الغيبية؛ وجودًا، ومعنىً. فأمّا كون الإثبات متعلّقًا بالوجود فقط، لا بِكُنْه تلك العقائد؛ فلأنَّ العلمَ لو تعلَّق بإدراك كيفية تلك العقائد المغيّبة عنّا = لخرجت عن حيّز الغيب إلى نطاق الشَّهادة، ولانتفت بذا حكمة الابتلاء والاختبار.
وأما المراد بالمعنى المُثْبَتِ بهذه العقائد الغيبيَّة؛ فهو المفهوم اللُّغوي؛ لوجود وصفات هذا الغيب، بإثبات القدر المشترك بين معاني ما نعقله من هذا الوجود المشهود، وبين معاني تلك العقائد المغيّبة عنّا، التي قام الدليل على إثباتها.
وفي تقرير هذا المعنى يقول ابن تيمية رحمه الله: (إنّك تعلم: أنّا لا نعلم ما غاب عنّا إلاّ بمعرفة ما شهدنا. فنحن نعرف أشياء بحسّنا الظاهر أو الباطن، وتلك معرفة معينة مخصوصة، ثم إنا بعقولنا نعتبر الغائب بالشاهد، فيبقى في أذهاننا قضايا عامّة كلّية، ثم إذا خوطبنا بوصف ما غاب عنّا لم نفهم ما قيل لنا إلاّ بمعرفة المشهود لنا.
فلولا أنّا نشهد من أنفسنا جوعًا، وعطشًا، وشِبعًا، وريًّا، وحبًّا، وبُغضًا، ولَذَّةً، وألمًا، ورِضىً، وسُخطًا = لم نعرفْ حقيقةَ ما نُخَاطَب به؛ إذا وُصِف لنا ذلك، وأُخبِرْنا به عن غيرنا
…
فلا بدّ فيما شهدنا، وما غاب عنّا من قدرٍ مُشترك؛ هو: مسمّى اللفظ المتواطئ. فبهذه
الموافقة والمشارَكة، والمشابَهة، والمُواطَأة؛ نفهم الغائب، ونُثْبِته، وهذا خاصة العقل. ولولا ذلك لمن نعلم إلاّ ما نُحِسُّه، ولم نعلمْ أمورًا عامّةً، ولا أمورًا غائبةً عن أحاسيسنا الظاهرة، والباطنة
…
)
(1)
.
ومع انْبِساط وانتشار الدّلائل السَّمعيَّة على إثبات العقائد الغيبيَّة، وإمكان الاستدلال العقلي عليها = إلاّ أن هناك طوائفَ من الناس خالفوا مقتضى الضرورة السابقة، وأنكروا وجود حقائق غيبيّة لا تقع في فلك مُدركاتهم.
والأساس الذي انبنى عليه غلطُهم أنَّهم حصروا الوجود وأسبابَه فيما له تحقُّقٌ موضوعي مُدْرَك، وما لم يكن حكموا بنفْيه؛ لتجاوُزه الواقع المادّيّ.
ثم إنّهم تفريعًا على هذا الأَصلِ جعلوا الحقائق الغيبية قَسِيمَةً للمعرفة العقليَّة؛ لزعمهم أن هذه الحقائق لا يمكن البَرْهنة عليها؛ وذلك لكونها ليس لها تحقُّقٌ خارج الذات العارفة، فهي شأن ذاتيّ يمتنع فحصه وإمكان الاستدلال العقلي عليه.
يقول "عادل ضاهر" منظّرًا لهذا الأصل الفاسد: (الكلام على "حقائق" تتخطّى مجال المعرفة العقلية -كما رأينا- هو كلام على "حقائق" من النوع الميتافيزيقي، أو اللاّهوتي. إذن فهو ينطوي على موقف ثنائي من الوجود يفترضُ أنّ الواقع الماديّ المحسوس (عالَم الظواهر) لايستنفد كل ما هو موجود، وما يمكن أن يوجد، وأن هناك واقعًا آخر لا مادّيًّا يتجاوزه. إنّ الفصْل الإبستمولجي بين المعرفة العقلية وغير العقلية، بناءً على الموقف الذي يُشكّل مدار نقاشنا؛ هو في نفس الوقت فصْلٌ أنطولجي مطلق بين واقعين: واحدٌ مادّي، وآخر لا مادّي.
(1)
"مجموع الفتاوى"(5/ 208) .
ولكن من الواضح هنا أن هذا الموقف الأنطولجي الثنائي مثيرٌ للجدل جدًّا؛ بل إنه يفتقر إلى القابلية للفهم؛ فليس واضحًا
…
إن الفحوى الأساس لما سبق؛ هو: أنه لا يمكننا أن نخطو الخطوة الأولى في اتجاه التسليم بصدق افتراض وجود طرق غير عقلية للمعرفة؛ إلاّ إذا افترضنا على الأقل = إمكان وجود حقائق ميتافيزيقية متخطية لحدود المعرفة العقلية. ولكن الافتراض الأخير هو افتراض فلسفي في الصميم، ولا يستقيم بدون سند عقلي
…
)
(1)
.
وقد سبقه إلى هذه الدعوى - أي: كون العقائد الغيبية لا تستند إلى سند عقلي - "زكي نجيب محمود"؛ حيث فرَّق أَوَّلًا بين العقائد الغيبية، وبين الفلسفة العلمية المُقَامَةِ على بناء " ميتافيزيقي" لا يمكن التحقق منه؛ بأنْ أظْهَر التسليم بالأولى، وجعل مدار التسليم بها = هو الإيمان غير المُبرهن.
وأبى القبول بالأخرى؛ بناءً على "مبدأ التحقُّق" الذي التزم به أصحاب الوضعية المنطقية، والذي يقضي بأن كل جملة لا يتأتى إمكان التحقُّق العملي من صدقها؛ فهي جملة بغير معنى؛ وإذا كانت بغير معنى = فهي "خرافة"
(2)
.
وفي بيان موقفه من العقائد الدينية يقول "زكي نجيب محمود": (أمّا العقيدة الدينية فأثرها مختلف كلّ الاختلاف؛ لأن صاحب الرسالة الدينيّة لا يقول للناس: إنّني أقدم لكم فكرةً رأيتها ببصيرتي. بل يقول لهم: إنني أقدم رسالةً أُوحِي بها إليّ من عند ربّي لأبلّغها. وها هنا لا يكون مدار التسليم بالرسالة برهانًا عقليًّا على صدق الفكرة، ونتائجها المستدلة منها؛
(1)
"أوليَّة العقل"عادل ضاهر (175 - 177) .
(2)
انظر: "موقف من الميتافيزيقا"زكي محمود (ط-ك) .
بل يكون مدار التسليم هو تصديق صاحب الرسالة فيما يرويه من ربّه = أي أن مدار التسليم هو الإيمان)
(1)
.
وليس من حظّ هذه المباحث بيان المفارقة العجيبة في هذا التفريق الذي انشقّ به زكي نجيب محمود عن أصول مدرسته التي ينتمي إليها، والتي تطرد موقفها من "الميتافيزيقيا" دون تفريقٍ بين ما هو ديني وبين ما هو فلّسفي؛ كما هو مرسوم في بيان "حلقة فيينا"
(2)
= فليس من حظ هذه المباحث التعرُّض لذلك
(3)
، ولا الكشف عن الرؤيةِ الفلسفيَّة التي ينطلق منها الدكتور "زكي نجيب" والتي لا تعترف بإمكان معرفةٍ قبْليّةٍ؛ بل أساس المعرفة لديها هو ما كان نابعًا عن مُعطًى حسّي.
وإِنَّما المقصود من مناقشة دعوى كُلٍّ من "زكي نجيب محمود"، و "عادل ضاهر" في: أن التسليم بالعقائد الدينية إيمانيُّ لا برهانيُّ.
والحقيقة: أنّ ما ذهبا إليه؛ من انتفاء السّند العقلي الكاشف عن وجود حقائق غيبية = لا يعدو أن يكون مجرّد دعوى؛ لأن النفي ليس بعلم، والعجز عن الاستدلال العقلي على تحقّق معرفة تتخطّى الواقع المادي؛ لا يلزم منه امتناع الاستدلال مطلقًا في واقع الأمر، ولا سلْب معقولية هذه المعرفة المتجاوِزة للحسّ البشري. ذلك لأن هذه المعرفة المتخطية للحواس ليست قسيمة للمعرفة العقلية؛ لتحقّق إمكان الاستدلال العقلي عليها؛ إمّا بتوسّط الأثر المحسوس الذي يحكم العقل بضرورة التلازم بين هذا الأثر ومؤثره؛ وَفْقًا لقانون السّببيَّة، وإمّا بطريقة غير
(1)
"المصدر السابق"(و) .
(2)
انظر نصّ هذا البيان مُلحقًا بكتاب " رودلف كارناب ونهاية الوضعية المنطقية"(269 - 277) .
(3)
انظر في بيان هذه المفارقة: "الوضعية المنطقية في فكر زكي نجيب محمود" لعبد الله الدعجاني (2/ 476 - وما بعدها) .
مباشرة، وذلك بأن يتوقف العِلْم بهذا الغيب على خَبَر الصادق الذي انتصبت البراهين العقلية على صدقه فيما أخبر به عن هذه الغيبيَّات. فليس الأمر مجرّد شأنٍ ذاتيّ يتعلّق بالذات العارفة؛ بل وجود هذه الحقائق الغيبيّة متحقق في الخارج، والآثار دالّة عليه.
فإذا تبيّنَ فسادُ هذا الأصل؛ عُلِم أنّ عقْد التلازم بين عدم العلم بِكُنْه وكيفيّة هذه الحقائق، وبين انتفاء وجودها = باطلٌ؛ لأَنَّ البدهيَّات العقلية، والخبرة الحسيَّة تأبى هذا التلازم.
فالجهل بالكيفية لا يلزم منه الجهل بالوجود؛ فضلًا عن انتفائه؛ لإمكان العلم بوجود شيءٍ دون التحقق من كيفيته = وإلاّ للزمهم التناقُض من جهتين:
الأولى: أن إثبات المحسوس - وهو المثبت الُمسبّب - دون سببه الغيبي تناقض؛ للضرورة العقلية القاضية بالتلازم المطّرد بين السبب ومسبّبه
(1)
، وإنْ خالف في ذلك أصحاب الوضعية في قصر مصادر المعرفة على الواقع المحسوس.
الجهة الثانية: أن إثباتهم التلازم بين الأثر المحسوس وسببه الغيبي في باب المكتَشَفات العلمية، دن ما يتّصل بالعقائد الغيبيّة = مَحْضُ تحكُّم يقضي العقلُ بتناقُض أصحابه.
وقد حاول بعضهم التنصّل من مأزق الوقوع في مناقضة الحقائق بإخفائه الباعث الحقيقي له على إنكار الغيبيّات، وأناط سبب إنكاره لما ورد به الوحي من غيبيّات؛ بكون قسم ممّا وردت به هذه الأحاديث طافحًا بالقَصَص التَّوراتي وبالإسرائيليّات، وقسمٌ آخر بالاتجاهات المذهبيّة والطائفيَّة التي سادت المجتمع العربي الإسلامي منذ وفاة
(1)
انظر: " المعرفة في الإسلام"(464) .
النبي صلى الله عليه وسلم حتى أواخر العصر العباسي، وقسم ثالث منها يمثّل في حقيقته ضربًا من التواصُل واستيعابٍ للموروث الأسطوري الجاهلي.
وفي بيان القسمين الأولين، يقول "محمد شحرور": (
…
من هنا نقرّر جازمين أن كلّ أحاديث الغيبيّات - وهي أحاديث تعليم وأخبار، وليست أحاديث أحكام، المنسوبة إلى [النبي صلى الله عليه وسلم] فيها ما يريب؛ سواءً ما يحكي منها عن ملكوت الله في السموات العلى، وما يحكي منها عن غيب المستقبل من الزمن، وما سيحدث فيه من أحداث = فالقسم الأول يطفح بالقصص التوراتي وبالإسرائيليات، والقسم الثاني يطفح بالاتجاهات المذهبيّة والطائفية التي سادت المجتمع العربي الإسلامي منذ أن توفي النبي [صلى الله عليه وسلم] حتى أواخر العصر العباسي، وما زالت عقابيلها مؤثرةً إلى يومنا هذا)
(1)
.
وأمّا القسم الثالث، فيبيّنه "محمد عجينة" بقوله:( .. هل يمكن القول بوجود قطيعةٍ ما بشأن موقف العرب من أساطير الكائنات اللاّ مرئية بين الجاهلية والإسلام؟ إنّ ما استعرضناه من المادّة الأسطورية يبين العكسَ؛ بل يبيّن ضرْبًا من التواصُل والاستيعاب للموروث الأسطوري الجاهلي، مع تطويعه بما يتلاءم والفكر الجديد)
(2)
.
ووجود هذه الأساطير عن الكائنات الخرافية لها وظيفتها المعرفية عند "عجينة" ورفاقه (فلقد اضطلعت أساطير الكائنات الخرافية في المَعيش والمكتوب [كذا]؛ سواءً نظرنا إليها على مستوى الفرد، أو مستوى الجماعة، أو مستوى الكليّات البشرية = بوظائف شتّى؛ معرفية، أبستمولجيّة. كتشكيل خطاب معرفية، واعتماد الخرافة وما يجري مجراها لغايات تعليمية، أو لردّ المجتمع إلى الصواب بواسطة
(1)
"نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي"لشحرور (157) .
(2)
"موسوعة أَساطير العرب"(426) .
الخرافة
…
[فـ]ـدخول أساطير الكائنات اللاّ مرئية مجالات شتى من مستويات حياة البشر = هو بالذات ما يبين أهميتها على الصعيد النفسي، والثقافي، والأنثروبولجي. وهو ما يفسّر دخولها فضاءات في الكتابة عديدة؛ هي: كتب قصص الأنبياء .. وكتب العقائد؛ مسْهمة في تشكيل بعض ملامح الفكر العربي الإسلامي
…
)
(1)
.
ودعوى "تسرب" القصص التوراتي، والموروث الأسطوري الجاهلي=تفتقر إلى سند علمي يُثبتها.
والذي يُجَابه به أَرباب دعوى "التسريب" هو: أنهم لا يخلو حالهم:
إمّا أن يكونوا مقرّين بأن هذه الحقائق الغيبيّة قد ثبتت صحّتها، وأخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم.وإمّا أن يكونوا غير مقرّين بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بها.
فإن كان الأمر الأول؛ فإنّه يلزمهم بمقتضى هذا الإقرار: أن يلتزموا أيضًا التصديق بتحقُّق هذه الحقائق، وأنّ لها وجودًا موضوعيًّا؛ وذلك ضرورة أنّ خبر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون إلاّ عن أمرٍ مُطابقٍ متحقّق ثبوته في الخارج في الحال- وإنْ لم يتحصَّل إدراكه الآن - أَو المآل، وهذا هو الوجود الثابت. بخلاف "الأساطير" و "الخرافة" فإنّها أمور ذهنية لا تحقّق لها في الخارج.
وعلى هذا؛ فإقرارهم بالأمر الأول دون الإقرار بلازمه = عين التناقض.
= وإن ادّعوا أنّ هذه الغيبيات لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلزمهم إقامة الدلائل على مُختَلِق هذه المرْويّات. هذا أوّلًا.
(1)
المصدر السابق (427 - 428) .
وثانيًا: أن يضعوا أيدينا على مواطن هذا "التسرب الأجنبي"، مع الإِبانة عن أصوله المدّعاة.
فإن لم يفعلوا - ولن يفعلوا - عُلِم زيفُ دعواهم، وخَوْضهم الباطل في هذا الباب.
وبهذا يتحصّل: أنّ رفض ما تضمّنته الأدلّة الشرعية من الغيبيّات بدعوى أنها معرفة غير عقلية = لا يقوم على أَساس علميّ.
وممَّا يُكذِّب تلك الدعوى ما عُلِم- بداهةً - من هدْم الشريعة منذ أن بزغَ نورُها، وسطع فجْرُها لكلّ ما تعلَّق به العربُ من أَوهامٍ، وخرافات عدّوها لأنفسهم علومًا؛ كالطِيرة، والعيافة، والزجر. وغير ذلك مما افترعوه ونشروه كذبًا؛ كدعواهم خروج طائر من دم القتيل يسمّى: الهامة. ودعوى تعرّض الغُول لهم في أسفارهم
(1)
.
بل إنَّ الله تعالى وصف الاعتقاد الباطل بأنّه اعتقاد الجاهلية، فقال:{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} آل عمران: 154
فكيف يُدّعَى بعدُ أنّ ما أخبر به الشارع من حقائق يمثّل ضرْبًا من التواصل والاستيعاب للموروث الأسطوري الجاهلي؟!!
غاية ما عند النافي=هو جهله بإمكان الاستدلال العقلي على تلك العقائد، فنَصَب جَهلَه بالإمكان مقياسًا لردّ كلّ حقيقةٍ جهِل دليلَها. ولا ريب أن ذلك ضرب من ضروب السفسطة.
والذي ينبغي لحْظُه في هذه الموارد؛ هو: أن أهل السنة والجماعة مع قولهم بإمكان الاستدلال العقلي على الحقائق الغيبية، إلاّ أنهم مع هذا يقرّرون أنَّ الأدلة النقلية قد نبّهت على الأدلة العقلية التي تُثبِت تلك
(1)
انظر في خرافاتهم التي كانوا يعتقدونها قبل الإسلام: "بلوغ الأرب" للعلامة محمود شكري الآلوسي (2/ 301 - 367)،و"أديان العرب وخرافاتهم"للأب أنستاس الكرملي.
الحقائق. فما أمكن الاستدلال العقلي عليه من الغيبيّات فلا بد أن يكون دليله العقليّ قد دلّ عليه الوحْي؛ ضرورة أن الله قد أكمل دينه. وهذا الكمال لا يتأتّى مع القول بإمكان أن يستقل العقل على إثبات أمرٍ غيبيّ يُعَدّ من دين الله، وتكون الدلالة السمعية قد قصُرت عن بيان ذلك؛ فإنّ هذا ممتنع، بل لا بد أن يكون في مطاوي الأدلة النقلية ما ينبّه على الدلائل العقلية؛ ما يُغنِي في إثبات هذه العقائد؛ سواءً كان ذلك بدلالة المطابقة، أو التضمُّن، أو اللّزوم.
وبهذا يتبيّن خطأُ مَنْ ظَنّ أنّ الأدلّة الشرعية أخبارٌ محْضةٌ لا تتضمّن الأدلة العقلية التي تثبت بها المطالب الإلهية، وأمور الغيب.
قال ابن تيمية رحمه الله: (وكثير من أهل الكلام يظنّ أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط، وأن الكتاب والسنة لا يدلاّن إلا من هذا الوجْه. ولهذا يجعلون أصول الدين نوعين: العقليّات، والسمعيّات. ويجعلون القسم الأول مما لا يُعلَم بالكتاب والسنة = وهذا غلَطٌ منهم. بل القرآن دلّ على الأدلة العقلية، وبيّنها، ونبّه عليها؛ وإن كان من الأدلّة العقلية ما يُعلَم بالعيان، ولوازمه)
(1)
.
(1)
"درء تعارض العقل والنقل"(1/ 199) . وانظر كذلك: " الرد على المنطقيين"(322) .