الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: دفع دعوى المعارض العقلي عن حديث (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان):
أَمَّا الجواب عن الاعتراض الأوّل، فيقال:
إنه لا موجب للعدول عما دل عليه الحديث. ودعوى الامتناع غفلةٌ عن الحقائق. وبيان ذلك: أنه لا يخلو أن يكون مراد الزمخشري ومَن تابَعه بـ"امتلاء الدنيا صراخًا وعياطًا من أثر النّخس" = أن يكون ذلك على جهة الدوام والاستمرار لكل مولود، أو يُخص ذلك بزمن مخصوص.
فإن كان الأول، فالتلازُم تخييل انقدح عند الزمخشري، لا واقع له على التحقيق؛ وذلك أن الحديث أخبر عن استهلال المولود صارخًا في زمن خاص، وهو زمن الولادة، ولم يَرِدْ مطلقًا ليصحّ الاعتراض. والواقع يشهد بخلاف ذلك أيضًا.
قال الإمام الرَّسعَني رحمه الله
(1)
ردًا على الزَّمخشري: (لستُ أعجب من قوله
(2)
عن حديثٍ اتَّفق أئمة الإسلام على تصحيحه وتدوينه، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري ومسلم في صحيحهما:"إن صحَّ"؛لأنَّ الرَّجل كان جاهلًا بهذا العلم الجليل =ولكن من صفاقة وجهه في ردِّ الحديث على تقدير التصحيح، والتَّمحُّل لتعطيل اللفظ الصّريح؛ مع أنّه لامُنافاة في ذلك بين النَّقل والعقل؛ لأَنَّ العقل لا يُحيل
(1)
الرَّسْعَنَي (589 - 661 هـ):هو عبدالرزاق بن رزق الله بن أبي بكر الجزري، عزَّ الدين أبو محمد الرسعني الحنبلي إمام حافظ متفنن رحَّال، من مصنَّفاته:"مقتل الشهيد الحسين رضي الله عنه " =انظر: "تذكرة الحفَّاظ"للذهبي (4/ 1452).
(2)
يعني: الزمخشريَّ.
ذلك لذاته، ولا يلزم منه مُحال على تقدير إثباته، وأمَّا قوله "لو سُلِّط إبليس على الّناس ينخسهم لامتلأت الدُّنيا صُراخًا وعياطًا"= فكلامٌ يُشمتُ به الأعداء، لا، بل يُحزنهم عليه .. لأنّ نَبينا صلى الله عليه وسلم لم يُخبر بتسليط الشيطان على الإنسان بالنَّخسِ إلَاّ حالة الولادة، فكيف يتوجه منه هذا الإلحاد؟ ومن أين يلزم أن تمتلئ الدُّنيا صُراخًا وعياطًا؟ ولعلَّه إذا استقرئ البلد العظيم، وتصفَّح مَن وُلد فيه في يوم، لا يَبلغ عددًا يوجب أضعاف أضعافه بعض ما توهمه من امتلاء الدُّنيا صُراخًا .. )
(1)
.
وإن كان مرامه هو المعنى الثاني = فيقال: هذا هو الواقع، فالدنيا لا تخلو من استهلال مولود صارخًا في كل وقت
(2)
، فيستحيل اعتراض الزمخشري حينئذ إلى مخالفة الواقع. وبه يُعلم أن المخالف ناقَض ضرورتين: الضرورة الشرعية، والضرورة الحسية. فكان امتناع ما اعترض به أحرى من امتناع إجراء الحديث على معناه الظاهر.
والذي يتحرر: أن مقصود الزمخشري هو الأمر الأول، والذي يعضد ذلك: أن الآلوسي رحمه الله نقل عن القاضي عبد الجبار ما يفيد ذلك
(3)
.
وأما الجواب عن الاعتراض الثاني، فيقال:
على تقدير أنّ ما يثبت في الطب بلغ إلى حدّ الحقيقة العلمية المقطوع بها؛ فإن قُصاراهُ: أن يكون كشْفًا عن السبب القريب المحسوس لاستهلال المولود صارخًا. وهذا التفسير العلمي لا يقضي بامتناع أسباب أخرى عَزُب الخلْق عن دركها؛ لقصور مداركهم عن الإحاطة بكل حقيقة. ومن هنا فليس هناك ما يمنع من تعليل هذه الظاهرة بسببين: أحدهما مُدرَك بالحس، والآخر غيبيّ دلّ عليه الوحي.
(1)
"رموز الكنوز"(1/ 160) . وانظر: "التمييز لما أودعه الزمخشري من الاعتزال"للسكوني (2/ 19) .
() انظر: "روح المعاني"(3/ 137) .
(2)
(3)
انظر: المصدر السابق.
على أنه ينبغي أن يُعلم أنَّ هذا التقرير هو على تقدير صحة ما وصل إليه الطب، وبلوغه مبلغ القطعيات؛ وإلاّ فيبقى النظر متجها إلى التحقّق من هذا البلوغ وصحّته. بل لو وقع التعارُض بين السببين لوجب حينئذ تحرير النظر في كلا المدلولين، لا أن يُقضى على الخبر بالإلغاء لاحتمال تطرُّق الوهم إلى النتائج التي توصل إليها الطب، وأن الأمر لا يعدو أن يكون فرْضا، لا حقيقةً علميّةً.
وأما الجواب عن الاعتراض الثَّالث، فيقال: إن سبب انقداح هذه الاعتراض عند إسماعيل كردي أمران:
الأول: هو ظنه أنّ مقتضى نفوذ أثر الدعاء -عند توفر شروطه وانتفاء موانعه- بتجنيب المولود الشيطان؛ هو = ألاّ يحصل النخس والطعن له.
الأمر الثاني: ظنّه أن الطعن هو الضرر الذي يُجنَّبه المولود. فأمّا الأمر الأول فهو ناتج عن غلطه في فهم الحديث -في أحسن أحواله-؛ ذلك أنه لا يلزم من نفوذ أثر الدعاء ألاّ يحصل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من حصول الطعن؛ لأن المراد من الدعاء في الخبر النبوي أن تتحقق الحيلولة بين الإضلال والإغواء الذي سببهما الشيطان = والمولود.
فإن ادّعى مُدَّعٍ أنَّ لفظ الإغواء والإضلال ليسا واردَين في الحديث، فتقديرهما محْض تقوّل لما لم ينطق به الحديث.
فيقال: وكذلك تقدير لفظ الطعن وأنه هو الذي يجنّبه المولود وأنه هو الذي يجنّبه المولود = ليس واردًا في الخبر؛ فهو أيضًا محض تقوّل لا دليل عليه. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: أنّ المُقتضي لهذا التقدير: ما ثبت في حديث الباب من وقوع النخس لكلّ مولود-سوى ما استثناه الخبر-. وهذا التقدير لازمٌ؛ لاستقامة الحديث، وجريانه على السداد، دون تضارُب
بين الخبرين. فتقدير الإضلال أصدق من تقدير الطعن؛ لدلالة الأدلة عليه.
وأما الأمر الثاني: فإن الطعن ليس بِضَررٍ؛ إذ لو كان كذلك لسلِم منه الأنبياء، والأولياء؛ إذْ هم أولى بهذا المعنى.
يقول الإمام أبو العباس القرطبي رحمه الله في بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (لم يضرّه شيطان أبدًا): (قيل معناه: لم يضرّه: لم يصْرعْه الشيطان. وقيل: لا يطعن فيه الشيطان عند ولادته، ويطعن في خاصرة من لا يقال له ذلك. قال القاضي: لم يحْملْه أحدٌ على العموم في جميع الضرر، والإغواء، والوسوسة.
قلت - القائل: القرطبي-: أمّا قصرُه على الصرع وحده فليس بشيء؛ لأنه تحكُّمٌ بغير دليل، مع صلاحيّة اللفظ له ولغيره. وأما القول الثاني: ففاسدٌ؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يطعن الشيطان في خاصرته إلا ابن مريم
…
) هذا يدلّ على أنّ الناجي من هذا الطعن إنما هو عيسى وحده عليه السلام؛ وذلك مخصوص دعوة أم مريم؛ حيث قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)} آل عمران: 36، ثم إنّ طعنه ليس بضرر. ألا ترى أنه قد طعن في كثير من الأولياء، والأنبياء، ولم يضرهم بذلك. ومقصود هذا الحديث - والله تعالى أعلم -: أن الولد الذي يقال له ذلك يُحفَظ من إضلال الشيطان، وإغوائه، ولا يكون للشيطان عليه سلطان؛ لأنه يكون من جملة العباد المحفوظين المذكورين في قوله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الحجر: 42 وذلك ببركة نية الأبوين الصالحَين، وبركة اسم الله تعالى، والتعوّذ به، والالتجاء إليه. وكأن هذا شَوبٌ من قول أم مريم:{وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)} آل عمران: 36 ولا يُفهم من هذا نفْي وسوسته، وتشعيثه، وصرعه = فقد
يكون كل ذلك، ويحفظ الله تعالى ذلك الولد من ضرره في قلبه، ودينه، وعاقبة أمره. والله تعالى أعلم)
(1)
.
وأما الجواب عن الاعتراض الرابع - وهو: دعوى أن الشيطان إنما يدعو من له تمييز، والمولود لا تمييز له
…
الخ -؛ فيقال:
هذا الاعتراض لا محل له هنا؛ لأنه قد سبق بيان أن النخْس ليس المقصود به الإغواء والتضليل؛ ليصح إيراد هذا الاعتراض. وإنّما هو: طعْنٌ يترتّب عليه استهلال الطفل صارخًا، كما هو مبيّن في الحديث. وعليه؛ فهذا الاعتراض، وما سَبَقه من اعتراضات لا يتحصّل من أفرادها، ولا من مجموعها ما يقوى على إبطال ما دلّ عليه الحديث. فالحديث قد أبان عن أمر غيبي، فوجب الإذعان، والتسليم لما دلّ عليه. والعقل لا يُحيل ما دلّ عليه.
وأمّا تأويل الزمخشري للنخس بأنه: طمَعُ الشيطان في إغواء كلّ مولودٍ سوى مريم وابنها عليهما السلام، وكذلك كلّ من كان في صفتهما = فتأويلٌ متهافتٌ. وبيان ذلك من وجوه:
الوجه الأول: التأويل فرع عن الامتناع، ولا مانع يمنع من إجراء الحديث على معناه المتبادر منه. وإذا بطل الأصل - وهو: الامتناع - بطل الفرعُ؛ ولا بدّ.
الوجه الثاني: أنّ طمع الشيطان في الإغواء لا يوجب استهلال الطفل صارخًا؛ لكون الطمع في حقيقته أمرٌ وجداني لا يسري أثره إلى الغير.
الوجه الثالث: أن الحديثَ صرّح بالنّخْس والطّعْن المُوجِب لصُراخ الطّفل. وترتيب الاستهلال على النّخس بـ"فاء" السببية يُؤْذِن بأن علّة
(1)
"المفهِم"(4/ 159 - 160) .
الصراخ هو الطعن، لا مجرّد الطمع في الإغواء. والتعليل بالأوّل مقبول في مدارك العقل، بخلاف التعليل الثاني = وما كان موافقًا للظاهر اللُّغوي والعقلي؛ أولى بالقبول مما كان بخلاف ذلك
الوجه الرابع: أن تعميم الاستثناء يشمل كلَّ من كان متّصفًا بصفة مريم وابنها عليهما السلام = تعميمٌ يفتقر إلى برهان؛ ولا برهان. فَعُلم بطلانه.
وأمّا دعوى "ابن الملك" بأنّ "استهلال المولود" هو في واقع الأمر: "تخييل لطمع الشيطان؛ كأنه يمسّه بيده
…
الخ" فدعوى لا برهان عليها. والأصل: أن النّخس على حقيقته - كما ثبت بالنّصّ-.