الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: سَوْقُ أحايث الميزان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:(إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جَناح بعوضة، وقال: اقرءوا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)} الكهف: 105
…
) متفق عليه
(1)
.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطّهورُ شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو: تملأ - ما بين السموات والأرض) أخرجه مسلم
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدُ الله ملآى، لا تغيضها نفقةٌ، سحّاء الليل والنهار) وقال: (أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؛ فإنّه لم يُغِضْ ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان؛ يَخْفِضُ ويرفَعُ) متفق عليه
(3)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده؛ فإنّ شبعَهُ، وريّهُ، وبولَه في
(1)
أخرجه البخاري في: كتاب"التفسير"باب"أُولئك الذين كفروا بآيات ربهم لقائه فَحَبِطت أعمالهم"(6/ 93 - [4729])،ومسلم في: كتاب"المنافقين وأحكامهم"باب"صفة القيامة والجنَّة والنار"(4/ 2147 - رقم [2785]).
(2)
أخرجه مسلم في: كتاب"الطهارة"باب"فضل الضوء"(1/ 203 - رقم [223]).
(3)
البخاري في: كتاب"التوحيد" باب"قوله تعالى {لما خلقت بيدي} "(9/ 122 - رقم [7411])، ومسلم في: كتاب"الزكاة"باب"الحثّ على النَّفقة وتبشير المنفق بالخلف"(2/ 690 - رقم [993])
ميزانه يوم القيامة) . أخرجه البخاريُّ
(1)
.
* * *
تمهيد:
الميزان في اللسان: مأخوذٌ من الوَزْن؛ وهو: مَعْرِفَةُ قدْر الشيء، يقال: وَزَنْتُهُ وَزْنًا وَزِنَةً
(2)
.
قال أبو منصور: ورأيتُ العرب يسمّون الأوزان التي يوزن بها التمر وغيره المُسَوَّاة من الحجارة والحديد = الموازين، واحدها: ميزان. وهي المثاقيل، واحدها: مِثقال.
ويقال: للآلة التي توزن بها الأشياءُ: ميزانٌ، أيضًا.
قال الجوهري: أصلهُ: مِوْزَانٌ. انقلبتْ الواو ياءً لِكَسْر ما قبلها. وجمعُه: مَوازين. والميزان: المِقْدارُ، والعَدل
…
(3)
وأما معناهُ فيما يحصل من خطاب الشارع: آلة ينصبُها الله تعالى لِوَزْن أعمال العباد يوم القيامة، لها كِفّتان حِسّيتان حقيقيَّتان. والحكمة من ذلك - والله أعلم -: إظْهارُ كمال عدْل الله تبارك وتعالى.
ودلَّ القرآن على ثبوت الميزان في آيات كثيرةٍ؛ منها:
قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} الأنبياء.
(1)
البخاري في: كتاب"الجهاد"باب"من احتبس فَرَسًا لقوله تعالى {ومن رباط الخيل} "(4/ 28 - رقم [2853]) .
(2)
انظر: "مفرادات ألفاظ القرآن"للأَصْفهاني (868) .
(3)
انظر:"لسان العرب"(6/ 436) .
وقال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)} المؤمنون.
وقال جلّ وعلا: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} القارعة. إلى غير هذه الآيات الدالّة على ثبوته.
وقد أجمع أهل السنة والجماعة على ثبوت الميزان، وأنّ له كفتين محسوستين، وأنّ ذلك من الغَيْب الذي يجب الإيمانُ به؛ لِصحّة الدَّلائل من الكتاب والسنة عليه. وقد نَقل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ من أهل العلم. ومِن أولئك:
-أبو إسحاق الزّجّاج رحمه الله حيث قال: (أَجْمَع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأنّ أعمال العبادِ تُوْزَن يوم القيامة
…
)
(1)
.
- الإمام ابن القطّان رحمه الله حيث قرَّر ذلك: (وأَجْمعوا على الإيمان والإقرارِ، والتصديق بالميزان الذي تُوْزَن به أعمال العباد. فمَن ثَقُلت موازينه أفلح ونجا، ومن خفّت موازينُه خاب وخسر. وأجمعوا أن كفّة السيئات تهوي إلى جهنم، وأنّ كفة الحسنات تهوي عند زيادتها إلى الجنة)
(2)
.
- الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله؛ إذ بعد أن ساق الأدلة على ثبوت الميزان، قال: (والأخبار في ذلك معروفة مشهورة، والآثار
(1)
"فتح الباري"(13/ 671 - ط/دارالسلام) .
(2)
"الإقناع"(1/ 59) .
فيه مُدَوَّنةٌ مسطورة. وقد أجمع على معناها الأمة، وهي مما يُوجِب العلم بين الأئمة)
(1)
.
- الإمام السفاريني رحمه الله حيث قال: (وأمّا الإجْماعُ: فأجْمعَ أكابرُ محقّقي الأمة من أهل السُّنة بأن الإيمان بثبوت الوزن، والميزان = حقٌّ واجبٌ، وفَرْضٌ لازِبٌ؛ لثبوته بالسماع، وعدم استحالة ذلك عقلًا)
(2)
.
فإِن قيل: يَخْدِشُ هذا الإجماعَ أمرانِ:
أحدُهما: متعلِّقٌ بثبوت أصل الميزان.
والآخر: متعلِّق بثبوت وزن الأعمال في الميزان.
أما الأوّل: ما ورد عن مجاهد
(3)
، وحُكْي الضحّاك
(4)
،؛ من تفسير الميزان بأنه: العدلُ، والقضاء.
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنّ تفسيرهم "الميزان"بالعدل، لا يلزم منه نفي الميزان الحسِّي.؛ إذ ليس هناك مُنافاة بين المعنيين توجب أنّ الأخذ بأحدهما اطِّراح للآخر، وإنمت يكون التثبت أمارةً على النَّفي، فيما يمتنع اجتماعه من المعاني، للتنافي الحاصللا بينهما؛ كقولك: فلان موجود وغير
(1)
"منهاج السلامة"(118) وابن ناصر الدِّين (777 - 842 هـ):هو مُحمَّد بن أبي بكر عبدالله بن محمَّد بن أحمد بن مجاهد، شمس الدِّين أبو عبدالله القيسي الدِّمشقي الحموي الأصل، شافعي المذهب وقيل: حنبلي، وكان رحمه الله أَثريًّا على طريقة أهل السُّنَّة في الاعتقاد، من مُصنَّفاته"توضيح المُشتبه"،و"السُّرَاق من الضعفاء"=انظر:"شذرات الذَّهب"(9/ 354 - 356) .
(2)
"لوائح الأنوار السَّنِيّة"(1/ 179) .
(3)
أخرجه البخاي معلقًا، ووصله الفريابي في"تفسيره". كما ذكر الحافظ ابن حجر عن سفيان الثوري عن رجل عن مجاهدٍ: به وإسنادُه ضعيف لوجود الراوي المبهم فيه.
وأخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (10/ 68 - ط/هجر) من طريق جرير عن الأعمش عن مجاهد: به.
(4)
"الجامع لأحكام القرآن"(7/ 165) .
موجود، وأما ما أَمكنَ اجتماعه فهو خارج عن هذا المعنى، وبه يعلم
فيُعلم من ذلك أنَّ تفسيرهم إيّاه بـ"العدل" تفسيرٌ بالَّلازم، وذلك بالنَّظر إلى أنَّه أَثرٌ وناتج عن الميزان الحسِّي. ومهما يكن فالقول بأن مقصودهم بـ"الميزان"العدل يلزم منه نفي الميزان الحسِّي =احتمال ضعيف، والاحتمالات لا يُرفَع بها اليقينُ الثابتُ.
الوجه الثاني: لوسُلِّم بحصول هذه المخالفة، فإنَّ مخالَفة الَّلاحق لا تنقُض إجماعَ السابق. فإجماع الصحابة رضوان الله عليهم متحقّق قبل نشوء هؤلاء الأعلام، فخروجُهم عن مقتضى الإجماع خطأٌ ولا شكّ - إنْ صحّ أن مرادَهم نفي تحقق الوجود الحسِّي للميزان الذي يُنصُب يوم القيامة -.
وهذه المخالفة - على تقدير التسليم بصحتها - = ليست ناشئةً عن استبعادٍ عقلي؛ بل باعثُها الحَمْل على مقتضى اللغة. وقد قال الإمام الزّجّاجُ رحمه الله: (اختلف الناس في ذِكر الميزان .. وقال بعضُهم: الميزانُ: العدْلُ. وذهب إلى قولك: هذا في وزن هذا، وإن لم يكن مما يُوزَن. وتأويله: أنّه قد قام في النفس مساويًا لغيره، كما يقوم الوزن في مرآة العين. وقال بعضهم: الميزان: الكتاب الذي فيه أعمال الخلق. وهذا كله في باب اللغة، والاحتجاج سائغ؛ إلا أن الأَوْلى من هذا أن يُتَّبَع ما جاء بالأسانيد الصحاح. فإن جاء في الخبر أنه ميزانٌ له كفتان من حيث ينقل أهل الثقة = فينبغي أن يُقْبل ذلك .. )
(1)
.
فإن صح حمل ما ورد عن هؤلاء الأَعلام على أَنّه مَنعٌ من تحقق الميزان الحسِّي لوزن الأعمال=فذلك خطأٌ ومخالفة لمقتضى النصوص؛ لكن يبقى الجزم بذلك مُتعذّرًا.
(1)
"معاني القرآن وإعرابه"(3/ 319) .
وأمّا ما يَخْدِشُ هذا الإجماعَ من جهة النَّظر إلى تضمُّنهِ وزن الأعمال؛ أنَّه قد يقال: يعكر على هذا الإجماع ما ذهبَ إليه بعض أهل العلم رحمهم الله من أنّ الموزون هي صحائف الأعمال؛ فيكون هذا القول مصادمًا للإجماع، أو نقْضًا له.
فيقال: هنا مقامٌ يتأكد فيه تحرير الجُمَل التي انعقد عليها الإجماع.
بيان ذلك: أن الإجماعَ منعقد على أمرين:
الأول: ثبوت الميزان ثبوتًا حِسّيًّا لا معنويًا، كما دلّت عليه الدَّلائل.
الآخر: ثبوت الوزن للأعمال حقيقةً؛ سواءً كان هذا الوزن للأعمال مباشرةً، أو لصحائف الأعمال، أو للعامل. ولكلٍّ من هذه الثلاثة الصُّورِ =دليلها الذي يدلّ عليها.
فأما القول الأول؛ وهو: أن الأعمال تُوْزَن بنفسها. فقد رجّحه جماعةٌ من أهل العلم؛ كابن حزم
(1)
، والحافظ ابن حجر العسقلاني؛ حيث قال:(والصحيح: أن الأعمال هي التي تُوْزَن)
(2)
، وتلميذه الإمام شمس الدين السخاوي
(3)
.
وأما القول الثاني: فقد ذهب إليه أيضًا جمهرةٌ مِن أهل العلم؛ كالإمام القرطبي رحمه الله؛ حيث قال - بعدَ أن أورَد أثر ابن عمر رضي الله عنه: " تُوْزَن صحائفُ الأعمال"
(4)
-: (وهذا هو الصحيح، وهو الذي ورد به الخبر على ما يأتي)
(5)
.
(1)
"الدرة"(288) "
(2)
"فتح ا لباري"لابن حجر (11/ 249) حيث نقله عن الطيبي ولم يتعقَّبه.
(3)
"تحرير المقال"للسخاوي (27) .
(4)
"الجامع لأحكام القرآن"(7/ 165) . وأورده القرطبي بلا إسناد.
(5)
المصدر السابق.
وقال الإمام ناصر الدين الدمشقي: (والمشهور أنه تُوْزَن الصحف التي كُتبت فيها أعمالُ العباد، وأقوالُهم)
(1)
.
وكذا الإمام مَرْعِي الكَرْمِي
(2)
، والشوكاني
(3)
، والسّفَّاريني
(4)
.
والقول الثالث: لم أرَ من اختارَه من أهل العلم على جهة الانفراد = وهو: وزنُ العامل.
والقول الرابع: وزنُ العَامل وصحائفَ عَمَلِهِ=وهذا اختيار الإمام ابنِ جرير رحمه الله وفي تقريره يقول: (فكذلك وزنُ الله أَعمالَ خَلْقهِ بأنْ يُوضَعَ العَبْدُ وكُتب حسناتِه في كِفةٍ من كِفتيّ الميزانِ، وكُتب سيَّئاتِهِ في الكفة الأخرى، ويُحدِث الله تبارك وتعالى ثِقَلًا وخِفَّةً في الكفة التي الموزون بها)
(5)
.
ولكلٍّ أدلّته التي سُقنا بعضَها في المبحث الأول.
وقد ذهب المحققون من أهل العلم إلى الجمع بين هذه الأقوال؛ إذْ من المعلوم أنّ الجمع - متى ما أمْكَن - أَوْلى من الترجيح. إذْ الترجيحُ يقتضي إهدارَ بعض الأدلة، وفي الجمْعِ إعمالُها دون اطِّراح. وهذه طريقة المحققين من أهل العلم
(6)
وإلى هذا ذهب الحافظ ابن كثير رحمه الله؛ حيث قال: (وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار؛ فإنّ ذلك كلّه صحيح،
(1)
"منهاج السلامة"(124) .
(2)
"تحقيق البرهان"(60 - 61) ومرعي الكرمي (؟ -1033 هـ):هو مرعي بن يوسف بن أَبي بكر الكرمي المقدسي الحنبلي، من كبارالفقهاء ومؤرخ، وأديب، من مؤلفاته:"غاية المنتهى في الجمع بين الاقناع والمنتهى"و"أَقاويل الثِّقات في تأويل الأسماء والصفات"= انظر: "الأعلام"(7/ 203)
(3)
فتح القدير (2/ 267) .
(4)
"البحور الزاخرة"(1/ 718) والسَّفَّاريني (1114 - 1188 هـ):هو محمد بن أحمد بن سالم السَّفَّاريني النَّابلسي الحنبلي، إمام له مُشاركة في الفنون، من مؤلفاته:"الدُّرة المضية"،و"غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب"=انظر:"الأعلام"(6/ 14) .
(5)
"جامع البيان"(10/ 71 - ط/هجر) .
(6)
انظر:"الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الحديث"للإمام أَبي بكر الحازمي (1/ 125) .
فتارةً تُوْزَن الأعمال، وتارةً تُوْزَن صحيفةُ الأعمال، وتارةً يُوزَن فاعلُها. والله أعلم)
(1)
.
وإلى مِثْل قول الحافظ ابن كثير، ذهب الإمام ابن أبي العزّ الحنفي رحمه الله؛ حيث قال:(فثبت وزنُ الأعمال، والعامل، وصحائف الأعمال، وثبت أنّ الميزان له كفتان. والله أعلم بما وراء ذلك من الكيفيّات)
(2)
فجميعُ أهل السنة متفقون على وقوع الوزن حقيقةً للأعمال؛ سواءً وُزِنت هي، أو الصحائف التي رُقمت فيها، أو وُزِن عاملُها، دون تأويل لها. ولكلِّ قولٍ من تلك الأقوال دليلُه الذي استمسك به من استمسك من أهل العلم؛ فتنوع الدَّلائل في حقيقة الموزون كان سببًا لاختلاف أَقاويلهم في تعيين صورة هذا الموزون
فَعُلِمَ بذلك أَن مأخذ الاختلاف من جهة النّظر في الأدلة الشَّرعيَّة، لا لاعتبارٍ آخر، وهذا خلاف مَنْ ذهب إلى أنّ الموزونَ صحائفُ الأعمالِ، أو العامل، أو قول غير ذلك = إحالة منه لنوع الوزن للأعمال نفسِها، ولم يكن وجه اختياره مبنيًا على أصل شرعي، وإنما قيام الشبهة العقلية هي التي حمَلَتْه على القول بِأحدِ تلك الأقوال. فلا شكّ في خطأ هذا السَّبيل؛ لكونه تجويزًا لصحة أن يعارض الدليل العقلي ما ثبت في الشَّرع. وسيأتي بيان أصل شُبهة المانعين لوزن الأعمال حقيقةً -إن شاء الله-.
فَيْصَلُ المسألةِ إذًا بين ما قام عليه الإجماعُ، وبين وجود ما يُشكِل من وقوع المخالفة في ماهية الموزون = أنّ القدر المشترك الذي وقع عليه الإجماع: ثبوت الميزان، وأنّ له كفتين حسيَّتين. وأما ما يوزن فيه؛
(1)
"تفسير القرآن العظيم"(3/ 1409) .
(2)
"شرح العقيدة الطحاوية"(2/ 639) .
فهو الذي وقع فيه الاختلاف. فالدلائل الشرعية قد دلّت على كلٍّ من: وزن الأعمال، والصحائف، والعامل. فمن رجّح بعض هذه الأدلّة على بعض وَفْق القواعد الشرعية، ولم يكن اجتهادُه هذا مبنيًّا على أصل بِدعيّ؛ من تقديم الشبهة العقلية على النص الشرعي؛ بل كان منطلقا من أصل شرعي = فهذا لا تثريب عليه؛ وإن كان اجتهادُه قد يكون خاطئًا.
وأمّا مواقف المخالفين تجاه الميزان، فقد انقسمت إلى الأقسام التالية:
الأول: مَن ذهب إلى إنكار الميزان جُملةً.
الثاني: من ذهب إلى تأويل ما جاء في إثباته.
الثالث: من ذهب إلى إثبات الميزان، ونفْي وزن الأعمال.
الرابع: من أثبت الميزان، مع المنْع من نَعْتِه بما جاء في النصوص
(1)
فأمّا الموقف الأول:
فقد نُسِبَ إلى طائفة من المعتزلة يقال لها " الوَزْنِيّة ". قال البغدادي: (وزعم قومٌ يقال لهم الوزنيّة: أنْ لا حسابَ، ولا ميزانَ)
(2)
.
ونسبه إلى عموم المعتزلة ابن فورَك؛ حيث قال: (وقد أنكرت المعتزلة الميزان
…
)
(3)
. وصاحب المواقف - الإيجي -؛ حيث قال: (وأمّا الميزان، فأنْكَره المعتزلةُ عن آخرهم)
(4)
.
والتحقيق أنّ في نِسْبة الإنكار الكلي للميزان إلى عموم المعتزلة نوعًا من الغلط في العزو، فإنّ مِن المعتزلة مَن أثبتَ الميزانَ حقيقةً؛ بل
(1)
انظر في مواقفهم: مقالات الإسلاميين (472 - 473) .
(2)
أصول الدين (246) .
(3)
نقله عنه القرطبي في"التذكرة"(2/ 722) .
(4)
المواقف (3/ 524 - مع شرحه للشريف الجرجاني) .
غالى في إثباتِه إلى حدٍّ جعَله كموازين الدنيا؛ كما تراه عند القاضي عبد الجبّار الهمداني - وهو من أساطين المعتزلة-؛ حيث قال: (أمّا وضع الموازين، فقد صرّح الله تعالى في محكم كتابه، قال الله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} الأنبياء: 47
إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن هذا المعنى، ولم يُرِدِ اللهُ تعالى بالميزان إلاّ المعقولَ منه، المُتعارَف فيما بيننا، دون العدلِ وغيرِه؛ على ما يقولُه بعضُ الناس. لأنّ الميزان، وإنْ وردَ بمعنى العدل في قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} الحديد: 25 فذلك على طريق التوسّع والمجاز، وكلامُ الله تعالى - مهما أمكن حَمْلُه على الحقيقةِ - لا يجوزُ أن يعدل به عنه إلى المجاز
(1)
.
يبيّن ذلك ويوضحه، أنه لو كان الميزانُ إنّما هو العدل لكان لا يثبت للثِّقَل والخِفّة معنى = فدلّ على أن المراد به: الميزان المعروف الذي يشتمل على ما تشملُ عليه الموازين فيما بيننا)
(2)
.
نعم، لم يكن إثباتُ القاضي عبد الجبار للميزانِ إثباتًا مُبرَّءًا من كَدَر الابتداع، بل شابَ إثباتَه ما يكدّر على إثباتِه السابق، كما سيأتي ذِكْره - بحول الله تعالى -.
وأمّا الموقف الثاني: مَنْ ذهب إلى تأويل الميزان:
وقد استرْوَح إلى ذلك بعضُ الإِباضيّة. وسيأتي سَوْق أقوالهم -إن شاء الله-
وأمّا الموقف الثالث: مَنْ ذهب إلى إثبات الميزان، ونفْي وزْن الأعمال؛ بناءً على قيام الشبهة العقلية عندهم. وقد حكاه الأشعري عن
(1)
وهذه قاعدة سديدة لم تطّرد عند القاضي عبد الجبار، بل زلّت به القدمُ في أبوابٍ شتّى من أصول الدين.
(2)
شرح الأصول الخمسة (735) .
قومٍ لم يُسمّهم، فقال:(وقال قائلون بإثبات الميزان، وأحالوا أن تُوْزَن الأعراض في كِفّتين، ولكن إذا كانت حسناتُ الإنسان أعظمُ من سيّئاته: رجَحَتْ إحدى الكفّتين على الأخرى؛ فكان رُجحانُها دليلًا على أن الرجل من أهل الجنة. وكذلك إذا رجحت الأخرى السوداء: كان رُجحانُها دليلًا على أن الرجل من أهل النار)
(1)
.
وأمّا الموقف الرابع: مَنْ أثْبت الميزان، وتوقَّفَ في نعْتِه بما جاء به الكتابُ والسنة.
وإلى هذا القول ذهب ابنُ حزم رحمه الله؛ حيث قال: (وأمور الآخرة لا تُعلَم إلا بما جاء في القرآن الكريم، أو بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يأْتِ عنه عليه السلام في ذلك شيءٌ يصحّ في صفة الميزان، ولو صحّ عنه عليه السلام في ذلك شيءٌ لقُلنا به؛ فإذْ لم يصحّ عنه عليه السلام شيءٌ = فلا يحلُّ لأحدٍ أن يقولَ على الله عز وجل ما لم يُخبِرْنا به، لكن نقول كما قال الله عز وجل {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} الأنبياء: 47 إلى قوله {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} الأنبياء: 47 ....
وأما من قال بما لا يدري من أن ذلك الميزانَ ذو كفتين = فإنما قاله قياسًا على موازين الدنيا، وقد أخطأ في قياسِه؛ إذ في موازين الدنيا ما لا كفّة له؛ كالقرسطون
(2)
. وأمّا نحنُ فإنّما اتبعنا النصوص الواردةَ في
(1)
"مقالات الإسلاميين"(473) .
(2)
القرسطون: نَوع من أنواع الموازين لم يتحرر لي من خلال كلام أهل اللُّغة؛ وصْفُهُ=انظر: "لسان العرب"(5/ 256) مادة (قسط) .
ذلك فقط، ولا نقول إلاّ بما جاء به قرآنٌ، أو سُنّة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ننكر إلاّ ما لم يأتِ فيهما، ولا تكذيبَ إلاّ بما فيهما إبطالُه. وبالله تعالى التوفيق)
(1)
.
والّذي يظهر: أَنّ مَناطَ توقُّف أبي محمد ابن حزم رحمه الله عن إثبات بعضِ ما ورد في السُّنَن من إثبات الكفتين: إمّا عدَمُ صحّة تلك الأحاديث عنده. أو عدم وقوفه عليها. وإنْ كان الأخيرُ في حقِّه يبعُد جدًّا. على أنه لا مناصَ من إثبات الكِفَّتَيْنِ، وإثبات ما وُصِف به الميزان مما ورد في الدَّلائل الشرعية؛ كما صحّ به الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الموسوم بـ " حديث البطاقة "، رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا من أُمَّتِي على رؤوس الْخَلَائِقِ يومَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عليه تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يقولُ: أَتُنْكِرُ من هذا شيئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فيقول: لَا، يا رَبِّ. فيقول: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فيقولُ: لا، يا رَبِّ. فيقولُ: بَلَى إِنَّ لكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فإنه لا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ. فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فيها: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فيقول: أَحْضِرْ وَزْنَكَ. فيقول: يا رَبِّ، ما هذهِ الْبِطَاقَةُ مع هذه السِّجِلَاّتِ؟ فقال: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ. قال: فَتُوضَعُ السِّجِلَاّتُ في كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ في كِفّةٍ، فَطَاشَتْ السِّجِلَاّتُ، وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ؛ فلا يَثْقُلُ مع اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ)
(2)
.
(1)
"الفصل"(4/ 115) .
(2)
أخرجه أحمد في "المسند"(2/ 430)،والترمذي في "السُّنن"كتاب "الإيمان "،باب "ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلَاّ الله "(5/ 25 - رقم [2693])،وابن ماجه في"السُّنن" كتاب "الزُّهد"،باب"ما يُرجى من رحمة الله يوم القيامة"(2/ 1437 - رقم [4300])، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وأخرجه الحاكم في مستدركه وصحَّحه (1/ 6)، وصحَّحه العلّامة الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1/ 216 - رقم [135]) .
فقوله صلى الله عليه وسلم: (فَتُوضَعُ السِّجِلَاّتُ في كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ في كِفّةٍ): برهانٌ بيّن المعالم على إثبات الكفتين للميزان.
والعجيب أنَّ الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تلا تلو ابن حزم في المُمَانَعَةِ من إثبات ما دلّت عليه السُّنَّةُ من أوصاف الميزان، وكأنّما مَنْ أثبت تلك النعوت أتى بها من عِندِيّاتِه؛ حيث يقول: (وإذا لم يكن في الصحيحين، ولا في كتب السنن المعتمدة حديث صحيح مرفوع في صفة الميزان، ولا في أن له كفتين ولسانًا، فلا تغترّ بقول الزجّاج: إنّ هذا ممّا أجمعَ عليه أهل السنة. فإنّ كثيرًا من المصنفين يتساهلون بإطلاق كلمة الإجماع، ولاسيّما غير الحُفّاظ - والزّجّاجُ ليس منهم -، ويتساهلون في عزْوِ كلّ ما يوجد في كتب أهل السنة إلى جماعتهم، وإنْ لم يُعرَف له أصلٌ من
…
السلف، ولا اتّفق عليه الخلَف منهم
…
)
(1)
.
وقد يكون الداعي للشيخَ محمد رشيد رضا إلى إغفال ما ورد في السنن من إثبات بعض صفات الميزان، مع عِلمه بحديث " البطاقة "، واطّلاعه عليه؛ بدليلِ ذِكرِه له = هو ما يراه من بعض المنتسبين للسنة والجماعة من التَّجَارِي في إطلاق الإجماعات التي لم تتحقق بشروطها المعتبَرة. وتمحيص هذه
(1)
"تفسير المنار "(8/ 322 - 323) .
الإجماعات المدّعاة، وعدم التسليم بها، متى ما لاحت الدَّلائل على عدم صحة ذلك الإجماع المزعوم = أمرٌ محمودٌ بلا مثنويّة. فإنّ المحقّقين من الأئمة رحمهم الله لم يكونوا يرضخون لمثل هذه الإجماعات التي يُطلِقها بعض أَهل العلم؛ بناءً على عدم العِلم بالمخالِف في خصوص مقالةٍ ما، أو طلبًا لشيوع قول المُطلِق على أقوال مخالفيه. ولذا، اشتدّ نكير الأئمة رحمهم الله على هؤلاء؛ حتى قال الإمام أحمد رحمه الله:(من ادّعى الإجماع فهو كاذبٌ، لعل النّاس قد اختلفوا)
(1)
.
وليس مقصودُه المنعَ من الاحتجاج بالإجماع، وإنما أراد رحمه الله الزجْر عن ادّعاء الإجماع في حقّ من ليس له معرفة بخلاف السَّلف، و الاحتجاج بإِجماع المتأخرين بعد الصحابة وتابعيهم. كيف وقد احتجّ رحمه الله بالإجماع في مواطن كثيرة!.
وهذا القدْر يُوافَقُ عليه الشيخ رشيد رضا؛ من منْعِه التساهُل في إطلاق الإجماعات غير المنضبطة. ولكن الذي لا يُوافَق عليه = منعُه من صحة إجماع السلف على ثبوت الميزان، وأنّ له كِفّتين. وكونُ الزجّاج رحمه الله ليس من الحفّاظ المعروفين بتقصّي الروايات وتمحيصها = لا يعني عدم قبول نقله للإجماع؛ خصوصًا وقد نقله غيرُه من أهل العلم. ثم إنّ الحُفّاظ نقلوا قول الزجّاج رحمه الله ولم يتعقّبوه، فدلّ ذلك على ارتضائهم لما تضمّنه هذا الإجماع. ومن هؤلاء الحفّاظ الذين لا يُشكُّ في جلالتهم، وسعة علمهم بمواقع إجماع الناس، ومواقع انفرادهم واختلافهم = الحافظ ابن حجر العسقلاني. فإنّه نقل عن الزجّاج حكايتَه للإجماع، ولم يتعقّبْهُ
(2)
.
وطُرُوءُ المخالفة بعد انعقاد الإجماع أمر لا يُنكَر، وإنما الذي يُنكَر:
(1)
"المُسَوَّدة " لآل بن تيمية (315) .
(2)
انظر: "فتح الباري"لابن حجر (13/ 671 - ط/دارالسلام) .
اتخاذُ هذه المخالفة من المتأخّرين مِعْولًا لهدْم ذلك الإجماع المنعقد. يقول الإمام ابن الوزير رحمه الله في سياقٍ مُشابِهٍ لهذا السياق: (أَقْصى ما في الباب أَنَّك طَلبتَ فلم تجد، فليس عدم الوجدان يدلُّ على عدم الوجود، وأَنَّك وجَدْتَ في ذلك خلافًا، فليس ذلك يمنع من ثبوت الإجماع عند كثيرٍ من أهْل العلم، وذلك حيث يكون المخالف من أهلِ عصْرٍ، والمُجمِعون من أهل عصر آخَر؛ لا سيّما إذا كانوا متقدّمين، والمخالِف بعدهم، ويكون المخالفُ شاذًّا نادرًا، أو يكون ممن لا يعتدُّ بخلافه، أو ينعقد الإجماع على رأسه لأحد الأسباب المذكورة في كتب الأصول)
(1)
ثم إنّ ذلكَ على جهة التسليم بانتفاء مَنْ نَقَلَ الإجماع غير الزجّاج في هذا الباب؛ وإلاّ فقد سلفَ نقْل إجماعات العلماء في هذه المسأَلة.
وبعد ذِكْر مواقف الناس تُجاه الميزان؛ فإنه من المناسب سَوْقُ الشبهات العقلية التي استندوا عليها في إنكار ما دلّت عليه هذه النصوص.
(1)
"الروض الباسم"(1/ 149) .