الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: دفع دعوى المُعارِض العقلي عن الأحاديث الدالة على اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بعموم البعثة:
والجواب عن هذا الاعتراض بأن يُقال: إنَّ الإجماع قد انعقد على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم. وقد نقل الإجماعَ في ذلك غيرُ واحدٍ؛ منهم الإمام ابن القطان؛ حيث قال: (واتفقوا على أن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي المبعوث بمكة، المهاجر إلى المدينة = رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الجن والإنس إلى يوم القيامة)
(1)
هذا الإجماعُ المقرر مُستفادٌ من جُمْلة دلائل؛ ومنها:
قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} سبأ: 28 وقوله جل جلاله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الفرقان: 1 وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} هود: 17 وجاء التصريح بشمول رسالته لأهل الكتاب مع العرب؛ بقوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} آل عمران: 20 وقال تبارك وتعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} الأعراف: 158
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيده، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ من هذه الْأُمَّةِ: يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرَانِيٌّ؛ ثُمَّ يَمُوتُ ولم يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ = إلاّ كان من أَصْحَابِ النَّارِ)
(2)
ومقصودُه صلى الله عليه وسلم بـ " الأمّة " هنا: أمّة الدعوة، لا الإجابة.
(1)
"الإقناع"لابن القطَّان (1/ 44).
(2)
رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (1/ 134 - رقم [153])
وتخصيصه صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب بالذكر: (تنبيهًا على أنهم مع كونهم أهل كتاب، وأشرف من غيرهم؛ إذا كانوا كذلك = فغيرهم ممن لا كتاب له أَوْلى بذلك)
(1)
وبالجُمْلة: فاختصاصه صلى الله عليه وسلم من دون سائر الرّسل عليهم السلام، بعموم الرسالة، وشمول بعثته = أمرٌ معلومٌ من الدين بالضرورة
(2)
.
وهذا السّائل لا يخلو حالُه؛ إمّا أن يكون مسلمًا، أو يكون كافرًا.
فإن كان الأول: فمعلومٌ أنّ من مقتضيات الشهادة بأنّ " محمّدًا رسول الله " تصديقه فيما أخبر به، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم؛ باختصاص الرُّسل من قبله بأقوامهم، وعَدَم مجاوَزتِهم لغيرهم؛ بخلاف رسولنا صلى الله عليه وسلم فبمقتضى هذا التصديق يلزمه الإقرار بذلك، والاطمئنان لخبره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مُخبِرٌ عن الله:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} النجم.
فإنْ لم يقرَّ مع بلوغ هذا الخبر إليه، واستيقانه بكون الرسول صلى الله عليه وسلم نطق به = فلا شكّ أنّ مثل هذا النّكول والدّفع كفرٌ مخرِجٌ عن الملّة؛ كما حكى الإجماع على ذلك غيرُ واحدٍ
(3)
.
وإن كان الطاعن كافرًا: فمثله يتّجه الحديث معه إلى تقرير دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم؛ إذ التمادي في تقرير الفرع؛ وهو اختصاصه صلى الله عليه وسلم بعموم البعثة؛ مع عدم ثبوت أصل نبوته صلى الله عليه وسلم عند السائل لا ريب أنّه عَبَثٌ لا طائل من ورائه.
أمَا وقد نُقِلَ هذا الاعتراض، المحتّم: الجواب عنهُ؛ بيانًا للحقِّ، وكشفًا لعظِيم فهم الأئمة رحمهم الله في الجواب عن مثل هذه الأُغلوطات.
(1)
"مبارق الأزهار" لابن الملك (2/ 565)
(2)
انظر: "تفسير القرآن العظيم"(4/ 1495)
(3)
انظر: "الاتباع" لابن أبي العز (29)، و "الإعلام بقواطع الإسلام" للهيتمي (271)
فيقال: إنّ مما يدل على أن الرسل من قبلُ كانوا يُبعَثون إلى أقوامهم خاصّةً: ما نصّ عليه القرآن الكريم؛ فالله تعالى يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)} الأعراف. وقال سبحانه حاكيًا عن هود عليه السلام: {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)} هود.
وقال عن صالح عليه السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} الأعراف: 73
ومن المعلوم: (أنّ أكمل الشرائع المتقدمة؛ شريعة التوراة؛ مع أن موسى عليه السلام لم يُبعَث إلا لبني إسرائيل، ولمّا أخذهم من مصر، وعبر البحر؛ لم يَعُدْ لمصر، ولا وعَظَ أهلَها، ولا عرّج عليهم ولو كان رسولًا إليهم لمَا أهملهم؛ بل إِنَّما جاء لفرعون ليسلِّم له بني إسرائيل فقط؛ فلما انقضى هذا الغَرَضُ؛ أهملهم، ولم يعُدْ لمصرَ ألبتّة. وإذا كان هذه حديث موسى عليه السلام = فغيره أَولى، وقد أخبرنا سيد المرسلين بذلك)
(1)
.
فإن احتجّ المعترض - وقد فعل - بوقوع الهلاك لجميع أهل الأرض بالطوفان، وما ذاك - حسب زعمه - إلَّا لمخالفة نوح عليه السلام؛ فلو لم يكن مُرسَلًا إلى جماعتهم = لما أهلكهم الله بمخالفته، ودعا عليهم.
فالجواب عن ذلك: أنَّ عموم البعثة هنا مِن لزوم الوجود؛ لا أَنَّها في أَصل رسالته عليه السلام؛ إذ لم يكن في الأرض عند إرسال نوح عليه السلام إلَّا قوم نوح (فبعثته خاصة؛ لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة؛ لعدم وجود غيرهم. لكن؛ لو اتّفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثًا إليهم)
(2)
.
(1)
"الأجوبة الفاخرة في الرد على الأسئلة الفاجرة " للإمام القرافي (9)
(2)
"فتح الباري"، لابن حجر (1/ 576) وانظر:"مبارق الأزهار"(3/ 70)، و:"خصائص النبي صلى الله عليه وسلم "، لابن الملقّن (176)
فإن قيل: وقد جاء في حديث الشفاعة في حقّ نوحٍ عليه السلام: (أنتَ أوّلُ الرُّسلِ إلى الأرض)
(1)
.
فالجوابُ عن ذلك بأحد أمرين:
الأول: أن يقال: ليس المرادُ بالخبر هنا عموم بعثته عليه السلام؛ بل المقصود إثبات أوّلية رسالته.
الثاني: أنّه على تقدير أن يكون العموم واردًا؛ فهو مخصوص بنصّ الله تعالى على خصوص بعثته عليه السلام، وقد تقدّم ذِكْرُ بعضِها.
وأمّا دفْع السائل لهذا التخصيص الوارد في كتاب الله؛ بأنه إن ثبت فيلزم مثله في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتُخَصّ به؛ لأن الله تعالى يقول: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} سورة التوبة: 128
فيقال: الخطاب في الآية وإن كان خوطب به العرب ابتداءً؛ فلا يلزم من ذلك قصْر رسالته عليهم؛ لأن الله تعالى يقول: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} سورة الأنعام: 19 فكلّ من بلغَتْهُ دعوةُ النبي صلى الله عليه وسلم فيلزمه الانضواء تحتها، واعتقادها، والعمل بما فيها. وفي تقرير معنى الآية يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والتحقيق: أنّه خوطب به أوّلًا العربُ؛ بل خوطب به أولًا قريش، ثم العرب، ثم سائر الناس من أهل الكتاب والأميين غير العرب.
فقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ} : الكاف كاف الخطاب؛ فهو خطاب لمن جاءه الرسول، وبَلَغَهُ القرآنُ؛ فهو مخاطَب بهذه الآية، من جميع الأمم، وهو من أنفسهم: من الإنس؛ ليس من الملائكة؛ فإنه لو كان من الملائكة لم يطيقوا الأخْذ عنه.
(1)
أخرجه البخاري في: كتاب "أحاديث الأنبياء"، باب"الأرواح جنود مُجنَّدة"(679 - 680 - رقم [3340])، ومسلم في كتاب "الإيمان"، باب"أدنى أهل الجنَّة منزلة فيها"(1/ 184 - 185 - رقم [194])
وكذلك قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} سورة البقرة: 151: هو خطاب لكلِّ من خُوطِب بالقرآن؛ وهم جميعُ الخلق. والجنّ يدخلون في ذلك أيضًا؛ فإن الرسول إلى الجن والإنس منهم؛ ليس من الملائكة. والجنّ يأكلون، ويشربون، وينكحون؛ كالإنس، ويطيقون الأخذ عن الإنس، ويفهمون كلامهم؛ بخلاف الرسول المَلكي.
وممّا يبيّن أنّه عامٌّ في العرب وغيرهم؛ قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} سورة الجمعة، الآية: 2 {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} سورة الجمعة: 3)
(1)
فإذا تقرّر ذلك؛ بقي أن يقال: إنّ نكتة اختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم بعموم بعثته: أنّ شريعته ناسخةٌ لجميع الشرائع التي قبله، وكتابَه مهيمنٌ على جميع الكتب السابقة، مُبطِلٌ لها؛ فلا يجوز العمل بها، والاعتداد بها. بخلافِ مَنْ قبْلَه؛ فإن اختصاص الرسول بكتابٍ لا يلزم منه إبطالُ غيره. ولذلك استحفظ الله علماءَ كلِّ دين هذه الكتب، ولم يضمن لهم حفظها؛ بخلاف كتابه " القرآن "؛ فهو جل جلاله متولٍّ حفظَه. والحكمة في ذلك - والله أعلم - ما أراده الله تعالى من بقاء هذه الشريعة إلى أن يرث الله الأرضَ ومَنْ عليها. ودليلُ هيمنة هذا الكتاب على الكتب السابقة؛ قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} المائدة: 48.
يقول الإمام ابن عقيل رحمه الله: (إنّ خصيصة النبي صلى الله عليه وسلم حاصلةٌ من جهة خفيّة عن كثيرٍ من العلماء؛ وذلك أن شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم جاءتْ ناسخةً
(1)
"تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء"لابن تيميَّة (1/ 236 - 238)
لكلّ شريعةٍ قبلها، فلم يبق يهوديةٌ ولا نصرانيةٌ، ولا دينٌ من سائر الأديان التي جاءتْ بها النبوات إلاّ أمر بتركها، ودعا إلى شريعته.
ومعنى قوله: (كلّ نبي بُعِث إلى قومه): المراد: أنه قد كان يجتمع في العصر الواحد نبيّان؛ يدعو كلّ واحدٍ منهما إلى شريعةٍ تخصّه، ولا يدعو الأمة التي بُعِث فيها إلى غير دينه، ولا يصْرف عنه، ولا ينسخ ما جاء به الآخر فهذه خصيصة لم تكن لأحدٍ قبلَه؛ حتى إنّ نوحًا لم يُنقَل أنّه كان معه نبي فدعا إلى ملّته ملّة ذلك النبي، ولا نسخها وهذا يدفع ما قالوه، وما قدّروه من الأسئلة، وعقّبوه من الأجوبة.
ويوضح هذا: أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا وجد ورقة من التوراة بيد عمر؛ قال: (ألم آتكم بها بيضاءَ نقيّةً؟ والله، لو أدركني موسى لَمَا وسِعه إلاّ اتباعي)
(1)
لأنه لا يقدر عيسى - عليه السلام - أن يقول في التوراة، ولا في حقّ موسى هذه المقالة = فعُلِم أنّ هذه الخصيصة التي امتاز بها عن جميع الأنبياء دون ما توهّمه السائل من البعثة العامة إلى جميع النّاس، ودون أرباب الشرائع. والله أعلم)
(2)
فَعُلم بذلك بطلان ما اعتُرض به على هذه الأَحاديث، وبان بذا مخالفة المخالفين للأحاديث الصحيحة.
وصدق الإمام ابن قتيبة في قوله: (وفي مخالفةِ الرِّواية وَحشَةٌ؛
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 376)، والدَّرامي في باب "ما يتقى من تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم "(1/ 115)، وحسنه الألباني في "الإرواء"(6/ 34)
(2)
نقله ابن الجوزي عنه: انظر"مشكل أحاديث الصحيحين"(3/ 43) وانظر: "الحاوي للفتاوي" للسيوطي (2/ 296)، و"إحكام الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 159)
فكيف بمخالفة الرِّوايةِ والإجماع لما استحسن [يعني النظَّام])
(1)
(1)
"تأويل مختلف الحديث"(22)
الباب الثالث دَفْعُ دَعْوَى المُعَارِضِ العَقْلِيِّ عن الأحاديث المتعلّقةِ بأشراط السَّاعة واليوم الآخر
وفيه فصلان:
- الفصل الأول: دَفْعُ دَعْوَى المُعارِض العَقْليِّ عن أحاديث أشراط السَّاعة.
- الفصل الثاني: دَفْعُ دَعْوى المُعَارِض العقلي عن الأحاديث المتعلّقة باليوم الآخر.