الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: دفْع المعارِض العقلي عن حديث (لا تُشدّ الرحال
. .)
أمّا الاعتراض الأول؛ وهو زعمهم أنَّ القول بجواز الزيارة ومنع الرحلة تناقضٌ.
فالجواب عن هذا الاعتراض: أنّ التَّناقضَ في مسألتنا هذه مُنتَفٍ؛ لانفكاك مسألة شدّ الرحال عن مسألة الزيارة. إذ لم يقل المانعون بجواز شدّ الرحال ومنعِه في آنٍ واحدٍ؛ ليصحّ التناقض. ولم تَجْرِ أقلامُهم بتجويز الزيارة، ثم منعوا من كلِّ وسائلها المشروعة.
نعم؛ ما لا يتمّ المشروع إلاّ به، ولا مانع منه = فهو مشروعٌ بلا ريب. فليس كل وسيلةٍ يصح أن يتوسل بها إلى مقصد مرادٍ للشارع؛ مع اطمئناننا أن الشارع لا يمكن أن يحثّ على تحقيق مقصدٍ ومطلبٍ ويمنع كل الوسائل المفضية إلى تحقيق ذلك المقصد. وبذا يُعلم أن قاعدة «الوسائل لها أحكام المقاصد» قاعدة أغلبيّة ليست مطّردة. أو إن شئت فقل: قاعدةٌ لا بدّ لها في صحّتها من أمرين:
1 -
توفّر الشروط.
2 -
انتفاء الموانع.
ومن تلك الموانع المانعة من صلاحية وسيلةٍ ما: ورودُ النصِّ بعدم اعتبار هذه الوسيلة وإلغائها. فـ (القواعد والأصول يجوز تخصيصُها بدليلٍ أقوى منها)
(1)
فإطلاقُ مَن أطلق مِن الأصوليين؛ أنّ: (كلَّ وسيلة إلى المطلوب تكون مطلوبةً) إطلاقٌ غيرُ سديد؛ لذا تعقّب الإمام المقري رحمه الله القرافيَّ في إطلاقه لتلك القاعدة، بقوله: (فيه نظر. والتحقيق: كلّ ما
(1)
" شرح مختصر الروضة " للطوفي (2/ 388)
لا يُتَوصَّلُ إلى المطلوبِ إلاّ به فهو مطلوب. وهذا أخصّ من ذلك)
(1)
فتقرّر من ذلك: أنّ الوسائلَ لها أحكامُ المقاصد (هذا هو الأَصل الذي لا يُنتقَل عنه إلا بدليل على غيره، أو معارِضٍ فيه)
(2)
وقد جاء الدليل هنا المُسْتثْنِي لشدّ الرحال من عموم الوسائل المشروعة لزيارة القبور. وعِلّة ذلك - والله أعلم -: سَدًّا لذريعة الاعتقاد في الأموات، والغلوّ فيهم.
يقول الإمام الدَّهلوي مبيِّنًا عِلّةَ نهْي الشَّارع عن شدِّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة: (ومنها - أي: من مظانّ الشرك التي كان أهل الجاهلية عليها -: الحجّ لغير الله تعالى، وذلك بأن يقصد مواضع مُتبركة، مختصّة بشركائهم؛ يكون الحلول بهم تقرُّبًا من هؤلاء = فنهى الشَّرعُ عن ذلك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تُشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد)
(3)
فمَن رمى المانعين من هذه الوسيلة بالتناقض فقدْحُه - عند التحقيق - للنَّص، لا للمانعين؛ لأنهم إنما منعوا وقوفًا عند نواهي الشارع الذي يعلم ما يتمّ به تحصيل مراضِيَه، وما لا يتمّ. ولا يهيض قوة ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة تلك الأسجاعُ الواردةُ في كلام الإخنائي؛ فلم يبنِ اعتراضَه على أصولٍ يُعوّل عليها. يقول شيخ الإسلام رحمه الله ردًّا على الإخنائي فيما ادّعاه:
وأمّا قوله: (إن الزيارة إذا كانت جائزة فالوسيلة جائزة؛ فيجوز السفر
فيقال له: هذا باطلٌ؛ فليس كل ما كان جائزًا، أو مستحبًّا، أو واجبًا = جاز التَّوسُّل إليه بكل طريق؛ بل العموم يدعى في النهي فيما
(1)
"القواعد"للمقّري (2/ 393)
(2)
المصدر السابق (2/ 394)
(3)
" حجة الله البالغة "للدهلوي (1/ 218) والحديث تقدّم سوقه في المطلب الأَوَّل.
كان منهيًّا عنه؛ كان التوسّل إليه محرّمًا؛ وهذا من باب سدّ الذرائع. وأمَّا ما كان مأمورًا به، فلا بدّ أن يكون له طريق، لكن لا يجب أن يجوز التَّوسُّل إليه بكل طريق؛ بل لو توسَّل الإنسانُ إلى الطاعة بما حرّمه الله؛ مثل الفواحش، والبغي، والفجور، والشرك به، والقول عليه بغير علم = لم يجز ذلك. . .وإتيان المساجد للجمعة والجماعة من أفضل القربات، وأعظم الطاعات، وهو إمّا واجبٌ، أو سُنّة مؤكّدة. . . ولو أراد مع هذا أن يسافر إلى غير المساجد الثلاثة ليصلّي هناك جمعة أو جماعةً = لم يكن هذا مشروعًا؛ بل كان محرّما عند الأئمة والجمهور. ولو نذر ذلك لم يوفِ بنذره عند أحد من الأئمة الأربعة، وعامّة علماء المسلمين
…
وقوله - أي الإخنائي -: كيف تكون الرحلة إلى القُربة معصيةً محرَّمة؟
يقال له: هذا كثير في الشريعة؛ كالرحلة إلى الصلاة، والاعتكاف، والقراءة، والذكر في غير المساجد الثلاثة. فإنّ هذا معصية عند مالك والأكثرين؛ كما لو رحلتْ المرأة إلى أمرٍ غير واجب بدون إذن الزوج؛ كحجّ التطوّع فإنها رحلة إلى قُربة؛ وهي معصية محرَّمة بالاتفاق.
وكذلك العبد لو رحل إلى الحج بدون إذن سيّده = كان رحيله إلى قُربة، وكان معصيةً محرَّمةً؛ بالإجماع.
ففي مواضع كثيرة يكون العمل طاعةً إذا أمكن بلا سفر، ومع السّفر لا يجوز. وصاحبُ الشرع قد قال:(لا تُشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) ومعلومٌ أنّ سائر المساجد يستحبُّ إتيانُها بلا سفرٍ؛ فهذا هو الفرقُ، وهو ثابتٌ بنصّ الرسول صلى الله عليه وسلم)
(1)
(1)
الإخنائية (427 - 430) بتصرّف.
الاعتراض الثاني؛ وهو: أنّ تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم واجبٌ، وشدّ الرحال إلى قبره تعظيم = فشدّ الرحل إلى قبره واجب.
فيقال: إن مما لا يُخامر مسلمًا أنّ تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم من لوازم شهادة أن محمدًا رسولُ الله؛ فهو من أعظم الواجبات، ومن أجلّ القربات، ومن مقتضيات الإيمان. ولا يتأتّى إيمانٌ بلا تعظيم، ومَن خلا قلبُه من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا امتراء في كفره. والأدلّة على وجوب تعظيمه صلى الله عليه وسلم كثيرة. ولكنّ " التعظيم " أصبح من الأحرف المُجْمَلة التي يندرجُ تحتها ما هو حقٌّ مطلوبٌ، وما هو باطلٌ مرفوضٌ. ومِن صور التعظيم ما جعله الله شركًا، أوجبَ لأصحابه البُعد والكفر، واستحقاق العذاب الأليم في النار، والخلود فيها.
فمناط كفر النصارى: رفعُهم لمرتبة نبي الله عيسى عليه السلام من رتبة العبودية والرسالة إلى رتبة الخالق سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة، آية: 72]. فما كان ما ظنّوه تعظيمًا لنبي الله عيسى عليه السلام شافعًا لهم عند الله، ولا مُنْجيًا لهم من استحقاق عذابه، وسخطه، وذَمّه.
وقارَفَ أقوامٌ الشركَ الأكبرَ باسم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، فصرفوا أنواعًا من العبادة؛ كالاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودعائه، والمبالغة في إطرائه، ووصفه بما هو من خصائص الله تبارك وتعالى؛ حتى قال بعضُ غُلاتِهم:
يا نبيَّ الهُدى استغاثَةُ ملْهُو
…
فٍ أَضَرَّتْ بحالِه الحوبَاءُ
يَدّعي الحُبَّ وهو يأمر بالسُّو
…
ءِ ومَن لي أن تصدق الرَّغباءُ
هذه عِلّتي وأنت طبيبي
…
ليس يخفى عليك في القلبِ داءُ
ومِن الفوز أن أبثَّك شكوى
…
هي شكوى إليك وهي اقتضاءُ
(1)
(1)
"الهمزية " للبوصيري (1/ 94=المنح المكية للهيتمي)
ويقول آخر:
محمّدٌ الحاوي المَحامِدَ لم يَزَلْ
…
لمن في السماءِ السبعِ والأرضِ سيِّدا
ثمالي ومأمولي ومالي وموئلي
…
وغايةُ مقصودي إذا شئتُ مَقْصِدا
شددتُ به أزْري وجَدَّدتُ أنعُمي
…
وأَعْدَدْتُه لي في الحوادِث مُنجِدا
وقيّدتُ آمالي به وبحبِّه
…
ومَنْ وجد الإحسانَ قيدًا تقيّدا
أَجِبْ يارسولَ الله دعوةَ مادِحٍ
…
يراكَ لما يرجو من الخيرِ مَقْصِدا
توسَّل بي قُربًا إليك صويحبٌ
…
ليمحو كتابًا بالذُّنوبِ مُسوّدا
وما زال تعويلي على جاهِك الذي
…
يُؤَمِّلُه العبدُ الشقيّ ليُسْعِدا
فَقُم بابن موسى أحمد المذنب الذي
…
رجاكَ وهب في الحشر موسى لأحمدا
فأعيت مسافاتٌ مواسمَ ربْحِهِ
…
فحجَّ وما زار النبيَّ محمدا
(1)
فنعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، ونعتصِمُ به من الشرك دقيقه وجليله. .
فهؤلاء تنكّبوا عن الجادّة، وخالفوا مقاصد بعثته صلى الله عليه وسلم؛ فإنه عليه الصلاة والسلام ما بُعِث إلاّ بالتوحيد، وإزالة رسوم الجاهلية، وتجريد التوحيد لله تبارك وتعالى.
وكما غلا أقوامٌ في تعظيمه، والخروج عن الحد المشروع في ذلك = جفتْ طوائف عن تعظيمه وتوقيره. والحقُّ وسطٌ بين الفريقين، وحسنةٌ بين السيئتين؛ بين غلو الغلاة، وجفاء الجُفاة.
وتحرير المقام يستدعي بيان سبب ضلال مَن ضلّ في تعظيمه صلى الله عليه وسلم؛ سواءً بجنوحه إلى طوائف الغلاة، أو إلى فريق الجُفاة. ذلك؛ أنهم فاتهم أنّ التعظيم عبادة شرعية؛ وقد سبق أَن العبادات لا تصح إلَاّ بعد توفر شَرطين، وهما:
- الإخلاص لله تعالى، وتجريد العبودية له.
(1)
ديوان البرعي (191 - 192)
- تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا تقرّر ذلك، واستبان لنا أن " تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم " من جنس العبادات التي تُلتَمَسُ حدودُها من موارد الشرع، وأنّ الخروج عن هذه الموارد ابتداعٌ وضلالةٌ=علمتَ مدى خروج كثيرٍ من الناس عن مقتضى السَّنَن الأبْين، والصراط القويم في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم. فتعظيمه المشروع يدور على القلب، واللسان، والجوارح.
فتعظيم القلب: تابعٌ لاعتقاد كونه صلى الله عليه وسلم عبدًا منَّ الله عليه بالرسالة، وشرّفه بالعبودية، فينشئُ فيه استشعار هيبته صلى الله عليه وسلم، وجلالهِ صلى الله عليه وسلم، واستحضاره لمحاسنه، ومكانته صلى الله عليه وسلم، والمعاني الجالبة لحبّه.
وتعظيمُ اللسان: يكون بالثَّناءِ عليه بما هو أهله صلى الله عليه وسلم، مما أثنى به عليه الله تعالى، ومما أثنى به صلى الله عليه وسلم على نَفْسِه، مع التحرُّز من وَضَر التَّفْريط، أو الإِفراط. ومن أعظم ذلك: الصَّلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
ومن تعظيم اللسان: تعداد فواضله وخصائصه صلى الله عليه وسلم،والتأدُّب عند ذِكره صلى الله عليه وسلم؛ بِقَرْنِ ذكر اسمه بلفظ النبوّة، أو الرسالة، مع الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
ويدخل تحت سرادق هذا التعظيم = ذكر دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ هذا الذِّكرَ مِمَّا يزيدُ في محبَّتِه صلى الله عليه وسلم التي تستولدُ بعد ذلك اتباعًا على نَهْجه صلى الله عليه وسلم، وتمسُّكًا بسنَّتِه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك هو:
- تعظيمٌ بالجوارح: بلزوم سُنته صلى الله عليه وسلم، واتباع شريعتِه صلى الله عليه وسلم. فهذا التعظيم
(1)
هو المحكُّ الذي تتّضح به حقيقة الدعوى من زيفها. ولذا قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} آل عمران، آية: 31
فمن جعل تعظيمه عليه الصلاة والسلام في مخالفته أمره صلى الله عليه وسلم = فقد
(1)
انظر: "تيسير العزيز الحميد"(1/ 561) .
وقع في التناقض، وكان فعله من جنس فعل النصارى الذين كذّبوا المسيح عليه السلام في إخباره عن نفسه بالعبودية، فادّعوا فيه الربوبية.
ثم إنه يقال: إن نتيجة مقدمتي القياس المذكور؛ إن أُخِذتا على إطلاقهما = هي: أنّ زيارة القبر واجبة؛ فيلزم من هذه النتيجة لوازم فاسدة، فيلزم منها أن تارك هذه الزيارة عاصٍ، مستحقٍّ للذم والعقوبة، منتفية عدالتُه؛ فلا تصحّ شهادتُه، ولا روايته. وفي هذا تفسيق لمن لم يُعرف عنه زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا أقبح من قول الرافضة؛ فالرافضة كفّروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ نفرًا منهم. وهؤلاء بلازم قولهم يكفّرون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛لكونهم تركوا شد الرحل إليه، وهو تعظيم، وتارك تعظيمه صلى الله عليه وسلم كافرٌ. إذْ لم يُعرَف عن أحدٍ منهم أنه شدّ رحاله لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم، ولا زيارة قبر غيره.
بل لازمُ قولهم شرٌّ من قول الخوارج؛ إذ الخوارج يكفّرون بالكبيرة التي حقيقتُها مخالفةُ مقصودِ الشارع، وهؤلاء المقابرية يكفّرون من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم، ووافقَ قصدَه! إذْ زيارتُه على قولهم واجبةٌ، وترْك التعظيم كفرٌ
(1)
.
ثم؛ إنه بقولهم هذا: جعلوا زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وشدّ الرحال إليه آكدُ من الهجرة إليه في حياته صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام ابن عبد الهادي رحمه الله: (إذا كانت زيارة قبره واجبةً على الأعيان؛ كانت الهجرةُ إلى القَبْر آكدُ من الهجرة إليه في حياته؛ فإن الهجرة إلى المدينة انقطعت بعد الفتح. . . . وعند عُبّاد القبور: أن الهجرة إلى القبر فرض عينٍ على من استطاع إليه سبيلًا. وليس بخافٍ أنّ هذا مراغمةٌ صريحةٌ لما جاء به الرسول وإحداثٌ في دينه ما لم يأذنْ به،
(1)
انظر: " الصارم المنكي " لابن عبد الهادي (332)
وكذِبٌ عليه وعلى الله؛ وهذا من أقبح التنقّص)
(1)
ثم؛ إن شد الرحال إلى قبره لو كان تعظيمًا؛ لكان ممّا لا يتمّ الإيمان إلاّ به، ولكان فرضًا متعيّنًا، ولما فرّط السابقون الذين هم من أسرع الخلق لتحصيل الخيور، وإصابة الأجور.
لازمُ ذلك: أن المخالفين أعلمُ بأبواب البرّ والأجر من السابقين.
فانظر كيف تضمّن قياسُهم الفاسد صنوفًا من المراغمة والمحادّة للنصوص، والإزراء بأولياء الله المتقين.
الاعتراض الثالث: قولهم: لا يمكن أن تكون زيارةً منفكّة عن الحركة من مكان إلى مكان؛ فالزائر لا يطلق عليه زائرٌ إلاّ بعد حركته، وانتقاله، وخروجه عن محلّه، وارتحاله
…
فالجواب عنها: أن يقال: العقلاء يفرّقون بين شدّ الرحال إلى بقعة، وبين الزيارة المجرّدة عن شدّ الرحال؛ فإن الأوّل يقتضي سفر الزائر وتكلف الزيارة، بخلاف الزيارة المجردة عن ذلك، التي لا تعدو أن تكون نقل الخُطا لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم، أو بغير سفرٍ لها.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (وأمّا نقل الخُطا إلى المساجد فهو إتيانٌ لها بغير سفر؛ وهذا مشروعٌ. فهذا نظير نقل النبي صلى الله عليه وسلم خطاه إلى زيارة أهل البقيع؛ فإن ذلك عملٌ صالحٌ. وكذلك الزيارة المستحبة من البلد نقلُ الخُطا فيها عملٌ صالحٌ)
(2)
ويقول الإمام زين الدين العراقي رحمه الله مبينًا عدم التناقض بين زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لقباء، وبين نهيه عن شدِّ الرِّحال إلى مسجد سوى المساجدِ الثلاثة: (ولا ينافي هذا خبر لا تُشَّد الرحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد؛ لأنَّ
(1)
" الصارم المنكي "للإمام ابن عبدالهادي (332)
(2)
المصدر السابق (430)
بين قباء والمدينة ثلاثةَ أميال وما قرب من المِصْر ليس في الذهاب إليه شَدُّ رحل)
(1)
ومن البراهين الدَّالةِ على الفَرْق أيضًا: أنَّ الصلاة مُطلقًا قُرْبةٌ، لكنَّ السَّفرَ إليها ليس بقربة إلَّا إلى المساجد الثلاثة. فتبين أنَّ الفرق بين شد الرحال إلى القبر وبين نقل الخُطا إليه دون شدٍّ = معلومٌ بضرورة العقل والنَّقل. و «المعلوم ضَّرورة لا يُنفى نَظَرًا» ومنكر الضَّرورات؛ لا حيلة فيه.
* * *
(1)
بواسطة "فيض القدير"للعلامة المناوي (4/ 245)
الباب الثاني دَفْعُ دَعْوَى المُعَارِضِ العَقْلِيِّ عن الأحاديث المتعلّقةِ بالنبوّة
وفيه ثلاثة فصول:
- الفصل الأول: دَفْعُ دَعْوَى المُعارِض العَقْليِّ عن الأحاديث المتعلّقة بعصمة الأنبياء.
- الفصل الثاني: دَفْعُ دَعْوى المُعَارِض العقلي عن الأحاديث المتعلقة بآيات وبراهين الأنبياء.
- الفصل الثالث: دَفْعُ دَعْوى المُعَارِض العقلي عن الأحاديث المتعلقة باختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بعموم البعثة.