الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: سَوْق أحاديث الإسراء والمعراج
عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به (بينما أنا في الحَطيم
(1)
-وربما قال في الحِجْرِ
(2)
- مضطجعًا إذْ أتاني آتٍ فَقَدَّ - قال
(3)
: وسمعته يقول فشق ما بين هذه إلى هذه- فقلتُ للجارود
(4)
-وهو إلى جنبي-: ما يعني به؟ قالَ: من ثُغْرَةِ
(5)
نحرهِ إلى شِعْرَتِهِ
(6)
وسمعتُه يقول: من قَصِّهِ
(7)
إلى شِعْرَتِهِ - فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا فغسل قلبي ثم حُشي ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض - فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نَعَمْ- يَضَعُ خَطْوَهُ عِندَ أَقصى طَرْفِهِ، فَحُمِلتُ عليه فانطلقَ بي جبريلُ حتَّى أتى السماء الدُّنيا فَاسْتَفْتَحَ، فقيل: مَنْ هَذا؟ قال جبريل، قيل: ومَن مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ.
قِيْلَ: وقَدْ أُرسِلَ إليه؟
(8)
قال: نَعَم، قيل: مَرْحَبا به فَنِعمَ المجيءُ جاء، فَفَتَح. فَلمَّا خَلَصْتُ= فإذا فيها آدَمُ. فقال: هذا أبوك آدمُ فَسَلِّمْ عليه، فَسَلَّمْتُ عليه فَرَدَّ السَّلامَ، ثُمَّ قال: مَرْحَبًا بالابنِ الصَّالحِ والنَّبي الصَّالحِ،
(1)
الحطيم: الحِجر =انظر: "فتح الباري"لابن حجر (7/ 204)
(2)
قال الحافظ ابن حجر: الشكُّ من قتادة." الفتح"(7/ 255)
(3)
القائل قتادة، والمقول عنه أنس رضي الله عنه، انظر"الفتح"(7/ 256)
(4)
الجارود، قال عنه الحافظ ابن حجر: لم أر من نسبه من الرُّواة، ولعلّه ابن أبي سبرة البصري صاحب أنس، فقد أخرج له أبوداود من روايته عن أنس حديثًا غير هذا.) المصدر السابق.
(5)
من ثُغرته: الموضع المنخفض الذي بين الترقوتين=المصدر السابق.
(6)
شِعْرته: أي شعر العانة =المصدر السابق.
(7)
من قَصِّه: أي رأس صدره =المصدر السابق.
(8)
"أرسل إليه": أي: للعروجِ، وليس المراد أصل البعث؛ لأنّ ذلك كان مُشتهرًا في الملكوت الأعلى=المصدر السابق (7/ 262)
ثُمَّ صَعَدَ حَتَّى أَتى السَّماء الثانية فَاسْتَفْتَحَ، قِيَلَ مَنْ هذا؟ قال: جبريلُ، قِيل: ومَنْ مَعَكَ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وقَدْ أُرْسِلَ إليهِ؟ قال: نَعَمْ، قِيْلَ: مَرْحَبًا به فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ، فَفَتَحَ فَلمَّا خَلَصْتُ =إذا يَحْيَى وعِيسى، وهما ابْنَا الخالة، قَالَ هذا يحيى وعيسى فَسَلِّم عَليهِما فَسَلّمْتُ فَرَدَّا، ثُمَّ قالا: مَرْحَبًا بالأَخِ الصَّالِحِ والنَّبيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بي إلى السماء الثالثة فاسْتَفْتحَ، قِيلَ: مَن هذا؟ قال: جبريلُ. قيل: ومَن مَعك؟ قال: مُحمَّدٌ قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نَعَمْ. قيل: مَرحبا به فنعم المجيء جاء فَفُتِحَ، فَلما خَلَصْتُ= إذا يوسفُ، قَال: هذا يُوسُفُ فَسلِّمْ عليه. فَسَلّمتُ عليه فَردَّ. ثم قال: مَرحَبا بالأخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ. ثُمَّ صَعِدَ بي حَتَّى أَتى السَّماءَ الرَّابعةَ فَاسْتَفْتَحَ قيل: مَن هذا؟ قال: جبريلُ. قيل: ومَن معك؟ قال: مُحَمَّدٌ. قِيل: أَوَ قد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مَرْحَبًا به فنِعمَ المجيءُ جاءَ. فَفُتِح. فلمّا خَلَصْتُ إلى إدريس. قال: هذا إدريسُ فَسلِّم عليه. فَسَلّمتُ عليه. فَرَدَّ ثُمَّ قال: مَرْحَبًا بالأَخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصالحِ. ثُمَّ صَعِدَ بي حتَّى أتى السَّمَاءَ الخامسةَ فاسْتَفْتَحَ.
قيل: مَن هذا؟ قال: جبريل قيل: ومَن مَعَك؟ قال: مُحمَّد صلى الله عليه وسلم قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نَعَمْ. قيل: مَرْحبًا به فَنِعمَ المجيءُ جاءَ. فلمَّا خَلَصْتُ= فإذا هارون. قال: هذا هارونُ فَسَلِّم عليه. فَسَلَّمْتُ عليه فَرَدَّ ثُمَّ قال: مَرْحبا بالأَخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصّالحِ. ثُمَّ صَعِدَ بي حتى أتى السماء السَّادسةَ. فَاسْتفتحَ. قيل: مَن هذا؟ قال: جبريلُ. قيل: مَن مَعَكَ؟ قال: مُحمَّدٌ، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نَعَمْ. قال: مَرْحَبَا به فَنِعمَ المجيءُ جاءَ. فلما خَلَصْتُ= فإذا موسى قال: هذا مُوسَى فَسَلِّم عليه فَسَلَّمْتُ عليه. فَرَدَّ، ثُمَّ قال: مَرحبًا بالأخِ الصَّالِحِ والنبيِّ الصَّالحِ فَلمَّا تجاوزتُ= بَكَى. قيل له: ما يُبْكِيك؟ قال: أَبكي لأنَّ غُلامًا بُعثَ بَعْدِي يدخلُ الجَنةَ من أُمته أكثرُ مِمَّن يَدْخُلُها من أُمتي. ثُمَّ صَعد بي إلى السماء السَّابعةَ فاستفتح جبريل. قيل:
من هذا؟ قال: جبريلُ. قيل: ومن معك؟ قال: مُحَمدٌ قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: نَعَم. قال: مَرحبا به فَنِعمَ المَجيءُ جاءَ. فَلمَّا خَلصْتُ =فإذا إبراهيمُ. قال: هذا أبوكَ فَسلِّم عليه. قال: فَسَلّمتُ عليه فَرَدَّ السَّلام. قال: مَرحبًا بالابنِ الصَّالح والنبيِّ الصَّالحِ. ثُمّ رُفِعَتْ لي سِدْرَةُ المُنْتَهى. فإذا نَبِقُها
(1)
مثلُ قِلالِ هَجَرَ
(2)
وإذا ورقها مثل آذان الفيلة.
قال: هذه سدرة المُنْتهى، وإذا أربعةُ أَنهارٍ نهرانِ باطنانِ ونَهرانِ ظَاهرانِ، فقلتُ ما هذان يا جبريل؟ قال: أَمَّا الباطنان فنهران في الجنة، وأمَّا الظاهران: فالنِّيلُ والفُراتُ. ثُمّ رُفِعَ لي البيتُ المَعمورُ يدخله كل يومٍ سبعون ألف مَلَك، ثُمّ أُتِيتُ بإِناءٍ مِن خَمر، وإناء مِن لَبَنٍ، وإناءٍ مِن عَسَل؛ فأخذتُ اللّبنَ. فقال: هي الفِطرةُ التي أنت عليها وأمتك. ثُم فُرضتْ عليَّ الصلواتُ خمسينَ صلاةً كلَّ يوم فَرجعتُ فَمررتُ على مُوسى. فقال: بِمَ أُمرتَ؟ قال: أُمرتُ بخمسين صلاةً كلّ يوم قال: أُمتُك لا تستطيع خمسينَ صلاةً كُل يومٍ، وإنِّي -والله- قد جربتُ النَّاس قبلَك وعَالجْتُ بني إسرائيل أشَدَّ المعالجةِ فارْجِعْ إلى ربِّك فاسْألهُ التخفيفَ لأُمَّتِك فرجعتُ فوضعَ عَنِّي عَشْرًا، فرجعتُ إلى مُوسى فقال مثله، فرجعتُ فَوضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرجعتُ إلى مُوسى فقال مثلَهُ، فرجعتُ فوضعَ عنِّي عَشْرًا، فرجعتُ إلى موسى فقال مثلَهُ. فرجعتُ فَأُمرتُ بعشر صلواتٍ كلَّ يوم فَرجعتُ فقال مثلَهُ، فرجعت فأُمِرتُ بخمسِ صَلَواتٍ كلَّ يوم. فرجعت إلى موسى فقال: بمَ أُمرتَ؟ قلتُ: أُمرتُ بخمسِ صلواتٍ كل يوم. قال: إنَّ أُمتَك لا تستطيعُ خمسَ صلواتٍ كلَّ يوم، وإنِّي قد جربتُ الناسَ قبلك وعالجتُ بني إسرائيلَ أشدّ المعالجة= فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف
(1)
النَّبِقُ: ثمر السِّدر، واحدته: نَبِقة ونَبْقَة =انظر "النهاية"لابن الأثير (897)
(2)
قِلال هجر: القلال جمع قُلّة: وهي الحُبّ العظيم، وهَجَر: قرية قريبة من المدينة، وليست هجر البحرين ="المصدر السابق"(769)
لأمتك. قال: سألتُ ربي حتَّى استحييتُ ولكن أرضى وأُسَلِّم. قال: فَلمَّا جاوزتُ نَادَى مُنَادٍ أَمْضيتُ فريضتي وخَفَّفْتُ عن عبادي) متفق عليه
(1)
.
وعن أنس قال: كان أبو ذر صلى الله عليه وسلم يُحدِّثُ أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (فُرِجَ
(2)
سَقْفُ بيتي وأنا بمكةَ، فنزلَ جبريلُ فَفَرَجَ صدري، ثُمَّ غَسَلَهُ بماءِ زَمْزَم، ثُمَّ جاءَ بطست من ذهبٍ مُمتلئٍ حكمةً وإيمانًا فأفرغَها في صدري ثُم أَطبَقه، ثُمَّ أَخذَ بيدي فَعَرَجَ بي إلى السَّماءِ فَلمَّا جاء إلى السماء الدنيا. قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: مَن هذا؟ قال: هذا جبريل. قال: معك أحدٌ. قال: معي مُحَمَّدٌ. قال: أُرْسِلَ إليه؟ قال: نعم، فَافْتَح فلمَّا عَلَونا إلى السماء إذا رَجُلٌ عن يمينه أَسْوِدَةٌ
(3)
، وعن يَساره أَسودة. فإذا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحك، وإذا نَظَرَ قِبل شماله بكى. فقال: مَرحَبًا بالنبيِّ الصَّالحِ والابنِ الصَّالحِ. قلتُ: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا آدم. وهذه الأَسْودةُ عن يمينه وعن شماله نَسَم بَنيِهِ
(4)
فَأهْلُ اليمينِ مِنهمْ أهْلُ الجنةِ، والأَسْوِدة التي عن شماله أَهل النَّارِ. فإذا نَظَر قِبَل يَمِينهِ ضَحِكَ، وإذا نَظَر قِبل شماله بكى. ثُمَّ عَرَجَ بي جِبريلُ حتَّى أتى السماءَ الثانيةَ، فقال لخازنها: افْتَح. فقال له خازنها: مِثْلَ ما قال الأوَّلُ. فَفَتَح. قال أنس: فذكر أنَّه وَجَدَ في السماوات: إدريسَ، وموسى، وعيسى، وإبراهيم.
ولم يُثْبِتْ لي كيفَ مَنَازِلُهمْ غيرَ أنَّه قد ذَكَرَ أنَّه وجد آدمَ في السَّماءِ الدُّنيا، وإبراهيمَ
(1)
أخرجه البخاري في"مناقب الأصار"، باب "المعراج "(5/ 52 رقم-[3887])، ومسلم في: كتاب"الإيمان"، باب"الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم "(1/ 149 - رقم [164])
(2)
فُرِجَ: أي شُقَّ ="الابتهاج في أحاديث المعراج"لأبي الخطاب بن دحية (33)
(3)
أَسْوِدة: جمع سواد كسنام وأسنمة. وفسر الأسودة في الحديث بأنها نَسَم بنيه، وتجمع الأسودة على أساود، و السواد: الشخص. وقيل: السواد: الجماعات =انظر "شرح صحيح مسلم"للنووي (2/ 218)
(4)
نَسَم بنيه: الواحدة نسمة وهي نفس الانسان، والمراد: أرواح بنى آدم=المصدر السابق.
في السَّادسةِ. وقال أنس: فلمَّا مر جبريل بإدريس. قال: مرحبًا بالنبيِّ الصَّالحِ والأَخِ الصَّالحِ، فقلتُ من هذا؟ قال: هذا إدريسُ. ثُمَّ مررتُ بموسى، فقال: مَرْحَبًا بالنبي الصالح والأَخِ الصَّالحِ. قلتُ من هذا؟ قال: هذا موسى. ثُمَّ مررتُ بعيسى. فقال: مَرْحَبًا بالنبيِّ الصَّالحِ والأَخِ الصَّالح. قلتُ من هذا؟ قال: عيسى. ثُمَّ مررتُ بإبراهيمَ فَقالَ مَرْحَبًا بالنَّبيّ الصَّالح والابن الصالح. قلتُ مَن هذا؟ قال: هذا إبراهيمُ)
قال: وأَخبرني ابن حزم
(1)
أنَّ ابن عباس، وأبا حَبَّةَ الأَنْصَاري كانا يقولانِ: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (ثم عُرِجَ بي حتَّى ظَهَرتُ لِمُستوًى
(2)
أَسمَعُ صَرِيفَ الأَقْلامِ)
(3)
قال ابن حزم وأنس ابن مالك}: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فَفَرضَ اللهُ عليَّ خَمسينَ صلاةً فَرَجَعتُ بذلك حتى أمُرُّ بموسى. فقال موسى: مَا الَّذي فُرِض على أُمَّتِك؟ قلتُ: فُرض عليهم خمسين صلاةً. قال: فَرَاجِع ربَّكَ فإنَّ أُمتُك لا تطيق ذلك. فرجَعْتُ فَرَاجَعتُ رَبِّي فَوَضَعَ شَطْرَها، فَرجعتُ إلى موسى، فقال: رَاجِع رَبَّكَ. فَذَكَر مِثلَه. فَوَضَعَ شَطْرَها فَرَجعتُ إلى موسى فأخبرتُه. فقال: راجِعْ ربَّكَ فإنّ أمتُك لا تطيق ذلك. فَرَجَعتُ فَرَاجعتُ ربِّي. فقال: هي خَمسٌ وهي خَمْسونَ، لا يُبَدَّلُ القولُ لَدَيَّ. فَرَجَعتُ إلى موسى، فقال: راجعْ رَبَّك. فقلتُ: قد استحييتُ مِن
(1)
ابن حزم: قال الحافظ ابن رجب: الظاهر أنَّه أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم) ="فتح الباري"لابن رجب (2/ 114)
(2)
ظهرت لمستوى: =أي علوتُ، والمستوى: المصعد، وهو المكان العالي، قيل: هو عبارة عن فضاء فيه استواء=انظر "الابتهاج في أحاديث المعراج"(49)
(3)
صريف الأقلام: صوت ما تكتبه الملائكة بأقلامها من أقضية الله تعالى ووحيه، أو ما ينسخونه من اللَّوح المحفوظ، أو ماشاء الله من ذلك.="فتح الباري"لابن رجب (2/ 114)
رَبِّي. ثُم انْطَلَقَ حتى أتى السدرةَ المُنْتهى، فَغَشِيها أَلوانٌ لا أدري ما هيَ. ثُم أُدْخِلتُ الجنَّةَ فإذا فيها جَنابِذُ اللُّؤلؤ
(1)
وإذا تُرابُها المِسْكُ) متفق عليه
(2)
.
وعن ثابت البُناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أُتِيتُ بالبُراقِ -وهو دابَّة أَبيض طويل فَوْق الحِمار، ودون البغل. يضع حافِره عندَ مُنْتهى طَرْفِهِ- قال: فركِبْتُهُ حتَّى أَتيتُ بيْتَ المَقْدِسِ. قال: فَرَبطْتُهُ بالحَلْقَةِ التي يَربِطُ به الأَنبياءُ. قال: ثُمَّ دَخَلتُ فَصَلَّيتُ ركعتين. ثُمَّ خرجتُ فجاءني جِبريل عليه السلام بإناءٍ من خَمْر وَ إناءٍ من لَبَنٍ =فاخترتُ اللَّبن. فقال جبريلُ عليه السلام: اخْتَرتَ الفِطْرةَ
(3)
ثُمَّ عُرج بنا إلى السَّماء) أخرجه مُسلم.
(4)
* * * *
تمهيد:
قبل إِيراد المعارضات العقلية، وإسلاف جوابات أهل العلم عن آحاد هذه الاعتراضات؛ فإنَّه يَتعيَّن الإِشارة إلى المَلاحِظ التَّالية:
الأول: أنّه قد انعقد إجماع الأمة على وقوع الإسراء والمعراج، وأنَّ هذه الحادثة من البراهين والآيات الدالّة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لذلك
(1)
جنابذ اللُّؤلؤ: جمع جُنْبُذة: وهي القبة ="النهاية"(168)
(2)
أخرجه البخاري في: كتاب"أخبار الأنبياء"، باب "ذكر إدريس .. "(4/ 135 - رقم [3342])، ومسلم في: كتاب"الإيمان"، باب "الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات "(1/ 148 - رقم [163])
(3)
"اخترت الفِطرة": فيه أَقوال أَوجهها: الإسلام، أو الاستقامة، أو الحنيفيَّة. وهذا هو اختيار القاضي عياض في:"إكمال المعلم"(2/ 661 - 664 - ط/الوطن)، واقتصر عليه النَّووي في شَرْحه (2/ 212)
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب"الإيمان"، باب"الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات"(1/ 145 - رقم [162])
ترى مدى احتفال واحتفاء أهل السِّيَر والحديث
(1)
بهذه الحادثة، وعقْدهم المصنّفات في بيانها، والتماس العِبَر منها، ونظْمها في دلائلِ النبوّة وما ذاك إلا لكونها - كما أسلفتُ - من الدلائل العظيمة التي أكرمَ اللهُ بها نبيَّه صلى الله عليه وسلم.
وممَّن نقل الاتفاق والإجماع على ذلك:
- القاضي عياض رحمه الله حيث قال: (فلا خلاف بين المسلمين في صحة الإسراء به
…
)
(2)
- الحافظ أبو الخطاب بن دحية رحمه الله حيث قال: (حديثُ الإسراء أجمع عليه المسلمون، واعترض فيه الزَّنادقة المُلحِدون .. )
(3)
- وقال الإمام محمد بن يوسف الشامي: (اعلم أنّ الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخالف في وقوعه أحدٌ من المسلمين)
(4)
(1)
من تلك الأسفار التي خَصَّتْ هذه الحادثة بمزيد عناية: "الآيات العظيمة الباهرة في معراج سيد أهل الدنيا والآخرة"، لشمس الدين محمد بن يوسف الشامي. وله عدّة مصنفات في هذه الحادثة؛ كلّها مخطوطة. و" السراج المنير الوهاج في حقائق المعراج"، لأبي= =إسحاق محمد بن إبراهيم المصري، و " رسالة في المعراج "، لأبي الحسن علي بن محمد اللخمي، و " الإسراء "، للإمام أبي محمد غبد الغني المقدسي، و"نور المسرى في تفسير آية الإسرا"لأبي شامة المقدسي، و "الآية الكبرى في شرح قصة الإسرا "، لجلال الدين السيوطي، و "الإسراء والمعراج"، للدكتور محمد محمد أبو شهبة، و"الإسراء والمعراج"، للعلاّمة محمد ناصر الدين الألباني - رحم الله الجميع -.
(2)
"الشِّفا"للقاضي عياض (194)
(3)
"الابتهاج"(59) و أبو الخطاب عمر بن دحية (544 - 633 هـ): هو عمر بن الحسين بن علي بن محمد بن دحية الكلبي، المعروف بـ"ذي النسبين"الأندلسي البلنسي، أحد الحُفّاظ، من أعيان أهل العلم، متقننا لعلم الحديث النبوي وما يتعلق به عارفًا بالنحو واللُّغة، وأيام العرب وأشعارها، من مصفاته "التنوير في مولد السراج المنير"=انظر:"مسالك الأبصار"لابن فضل العمري (5/ 495)
(4)
"خلاصة الفضل الفائق"(159) وهو مُستَلٌّ في الأصل من كتابه "سبيل الهدى والرشاد".ومحمد بن يوسف الشامي (؟ -942 هـ): هو ابن علي بن يوسف الشَّامي الصَّالحي الدمشقي، إمام محدث من أجلِّ تلاميذ جلال الدِّين السيوطي، من مصنفاته "سبل الرشاد في سيرة خير العباد"=انظر:"فهرس الفهارس والأثبات"للكتَّاني (2/ 1062)
ومُرتكَز هذا الإجماع: القرآن، والسنّة. فقد نصّ الله سبحانه وتعالى على الإسراء في آيتين من كتابه؛ قال جلّ وعلا:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} الإسراء. وقال تعالى: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)} النجم.
وهاتان الآيتان نصّتا على الإسراء، وأشارت آيةُ النجم إلى المعراج؛ ولا يعني ذلك عدم وقوعه، فوقوعه بالمستند الآخَر للإجماع؛ وهو ما دلّت عليه السُّنّة من إثبات وقوع ذلك.
الأمر الثاني: أنه قد تواتر الخبرُ بذلك. وممّن نقل التواتر في ذلك:
1 -
الإمام أبو الخطاب عمر بن دحية- رحمه الله حيث قال: (تواترت الرِّوايات في حديث الإسراء .... ) ثم ساق أسماء الصحابة رضي الله عنهم الذين رووا هذا الحديث
(1)
2 -
شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (أحاديثُ المعراج، وصعوده إلى ما فوقَ السَّموات، وفرض الرَّب عليه الصلوات الخمس حينئذ، ورؤيته لما رآه من الآيات، والجنَة والنَّار، والملائكة والأَنبياء في السموات، والبيت المعمور، وسِدرة المُنتهى. وغير ذلك=معروفٌ متواترٌ في الأحاديث)
(2)
(1)
"الابتهاج"لابن دحية (59)
(2)
"الجواب الصحيح" لابن تيميَّة (3/ 367 - 368)
3 -
. الإمام الزرقاني
(1)
رحمه الله.
4 -
الكتّاني؛ حيث أودعَه كتابَه " نظم المتناثر "
(2)
الثالث: أنّه قد ينقدِح اعتراضٌ مُحصَّلُه:
كيف يُنقَل الإجماع على ثبوت الإسراء والمعراج، وأنّه من جُمَل عقائد أهل السنة؛ مع ثبوت المخالفة فيه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَنْ بعدَهم؟
فيقال: الإجماعُ متحقّق في إثبات الإسراء والمعراج، لذا وصْف بعض أهل العلم منكِرَه بـ"الإلحاد " كما تقدم عن ابن دحية.
فإن قيل: كيف يكون ما ذكرتَ؛ مع ما تقدّم إيرادُه من وقوع الاختلاف؟
فيقال: الجواب عن ذلك من وجوهٍ:
الأول: أن الخلاف الوارد في هذه المسألة ليس في أصل وقوع الإسراء والمعراج؛ بل في كيفيّته. وبرهان ذلك: أنك ترى أهلَ العلم حين سوقهم لقصة الإسراء والمعراج نجدهم يصدّرون حديثهم بذكر اختلاف السلف: في كون الإسراء وقع بجسده، أم بروحه
(3)
وهذا غاية المروي عن عائشة <؛ إذا قالت: (ما فُقِد جسدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّ الله أسرى بروحه)
(4)
(1)
نقله عنه الكتاني. انظر: نظم المتناثر (220)، والزُرقاني (1055 - 112 هـ): هو محمد بن عبد الباقي الزرقاني، أبو عبد الله المالكي، إمام متفنن، من مؤلفاته "شرح المواهب اللدنية"، و"شرح موطأ مالك"=انظر:"شجرة النور الزكية"(1/ 317)
(2)
"نظم المتناثر"(220)
(3)
انظر مثلًا: "الشفا"(202)، و"الابتهاج"(13)، و" تفسير القرآن العظيم"(5/ 2063)
(4)
رواه ابن إسحاق، قال: حدثني بعضُ آل أبي بكر، به. انظر: السيرة النبوية، لابن هشام (1/ 319)
وكلُّ مَن ذهب إلى أن الإسراء لم يكن بجسده صلى الله عليه وسلم؛ فإِنَّما كان اعتمادُه على هذا المحْكِيّ.
ولا شكّ أنّ هناك فرقًا بين القول بأن الإسراء كان بروحه، وبين الذهاب إلى أنّه كان منامًا، وفي تقرير هذا الفَرْقِ يقول الإمام ابن القيم: (فرقٌ بين الأمرين؛ فإن ما يراه النائم قد يكونُ أمثالًا مضروبةً للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عُرِج به إلى السماء، أو ذُهِب به إلى مكة وأقطار الأرض، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإِنَّما مَلَكُ الرُّؤيا ضَرَب له المثال.
والذين قالوا: عُرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان:
- طائفة قالت: عُرِج بروحه وبدنه.
- وطائفة قالت: عُرج بروحه، ولم يُفقَد بدنُه.
وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان منامًا، وإِنَّما أرادوا أن الروح ذاتَها أُسرِيَ بها وعُرج بها حقيقةً، وباشرتْ من جنس ما تُباشِر بعد المفارقة، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة؛ في صعودها إلى السموات سماءً بعد سماءٍ، حتى تنتهي بها إلى السماء السابعة، فتقف بين يدي الله عز وجل
…
ومعلومٌ أنّ هذا أمرٌ فوق ما يراه النائم)
(1)
وقد غَلِط الإمام محمد بن إسحاق رحمه الله فظنّ أنّ في هذا المرويّ عن عائشة، وفيما رُوي عن معاوية أنه كان إذا سئل عن مَسْرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(كانت رؤيا من الله تعالى صادقةً)
(2)
= ما يدلّ على أنّ الإِسراءَ كان منامًا. وممّا قوَّى ذلك عنده؛ ما جاء عن الحسن البصري رحمه الله أَنَّه كان يرى أنَّ سببَ نزولِ قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا
(1)
"زاد المعاد"لابن القيم (3/ 40)
(2)
رواه ابن إسحاق قال: حدّثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، به = انظر:"السيرة النبوية"لابن هشام (1/ 400) وسيأتي بيان حاله.
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} هو الإسراء والمعراج. فجعل الرُّؤيا هنا رؤيا منام، ثم حمل قول عائشة، ومعاوية على ذلك؛ ولكنّه لمّا رأى الأحاديثَ ظاهرها إثباتُ مسراه صلى الله عليه وسلم بجسده دعاه ذلك إلى التوقّف، فتراه يقول بعد أن نقَل المرويّ عن عائشة، ومعاوية رضي الله عنهما: (فلم ينكر ذلك من قولهما؛ لقول الحسن: إن هذه الآيات نزلت في ذلك
…
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني - يقول: (تنام عيناي، وقلبي يقظان) والله أعلم أيّ ذلك كان قد جاءه، وعايَن فيه ما عايَن من أمْر الله؛ على أيّ حالَيْه كان: نائمًا، أو يقظان = كلّ ذلك حقٌّ وصِدْقٌ)
(1)
فتأمّلْ في أنّ ما جَنَح إليه ابن إسحاق رحمه الله لم يكن مؤسَّسًا على إحالة عقلية لحادثة الإسراء والمعراج؛ كما هو صنيع المخالفين، وأنّ ما ذهب إليه لا يُشكِل على الإجماع المنعقد؛ ذلك أنّه توقَّف، ولم يجزم بأي الحالين كان منه صلى الله عليه وسلم؛ فهو لا يحيل وقوعَ الإسراء بجسده صلى الله عليه وسلم، ولا يجزم به في الوقت نفسه. والتوقُّف غير الجزم - بلاشكّ -. هذا أمرٌ.
والأمر الآخر: أنّه وإنْ جَزَم بأنّ الإسراء لم يكن بجسده؛ بل كان منامًا؛ اعتمادًا منه إلى الروايتين اللتين نقلهما عن عائشة، وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم = فإنّ جَزْمَهُ لا يقدحُ في الإجماع؛ ذلك لكون مخالفته حادثةً بعد انعقاد الإجماع؛ فهو محجوجٌ به.
فإن قيل: كيف يصحّ ما قرّرته من انعقاد الإجماع، مع وقوع المخالفة من عائشة، ومعاوية - {-، وهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم في طبقة التابعين؛ مثل: الحسن البصري؟
فيُقال: هذا ما أرجأتُ الحديثَ عنه؛ ليتبيّن أنّه لا يوجد أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا المتقدّمين فيما بلغ إليه علمي= خالَف في
(1)
"السيرة النبوية"(1/ 400)
أصل وقوع الإسراء والمعراج، و الأمّة في سالف زمانها ما كانت تعرف غيرَ ذلك. كلُّ ما في الأمر هو توقُّف ابن إسحاق رحمه الله في المسألة، مع عدم امتناع ذلك عنده؛ بل قد يقال إن ظاهر صنيعه؛ الميل إلى إثبات كون الإسراء بجسده أكثر من كونه منامًا منه صلى الله عليه وسلم ذلك أنّه قدّم الروايات الدالّة على ذلك قبل روايته عن عائشة وعن معاوية - {-، ثم عن الحسن البصري رحمه الله.
وأمّا ما رُوِي عن عائشة <، أنها قالت:(ما فُقِد جسدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أسرى اللهُ بروحه)
فيقال: هذا الأثر لا يصحّ عنها؛ وذلك لأمور:
الأول: أن ابن إسحاق لا يُحتَجُّ بحديثه؛ إلا إذا صرّح بالتحديث، وكان سندُه متّصلًا
(1)
. وفي هذا الموطن ترى أن ابن إسحاق يحدّث عن رجل من آل أبي بكر؛ ففي هذا الإسناد علّتان:
الأولى: الانقطاع.
الثانية: وجودُ راوٍ مجهول؛ وقد نصّ على ذلك الأئمة. فقد نفوا صحة هذا الأثر، ومن أولئك: الإِمام ابن عبدالبر رحمه الله حيث قال: (وإنكْارُ عائشةَ < الإِسراء بجَسَده لا يصِحُّ عنها ولا يثبت قولها: ما فُقِدَ جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. )
(2)
وكذلك أبو الخطاب بن دحية الكلبي
(3)
، والقاضي عياض
(4)
، و الزرقاني.
(5)
(1)
انظر: "ميزان الاعتدال "للحافظ الذهبي (3/ 475)، و " تقريب التهذيب " للحافظ ابن حجر (825)
(2)
"الأجوبة عن المسائل المستغربة"لابن عبدالبرِّ (156)
(3)
انظر: "الابتهاج في أحاديث المعراج"(68)
(4)
انظر: "الشفا"(208)
(5)
انظر: "شرح المواهب اللدنّية"للزّرقاني (6/ 4)
الثاني: إن مما يدل على وَهَن هذه الرواية = أنّ عائشة - < - لم تحدّث به عن مشاهدةٍ؛ لأنها لم تكن زوجًا له صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت؛ لذا قال الإمام أبو الخطاب بن دحية: (لم يَبنِ بعائشةَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإجماع من جميع الطوائف إلَاّ بالمدينة تزوجها بمكة، وهي بنت ست سنين، وفي رواية بنت تسع سنين، والإسراء كان في أول الإسلام)
(1)
فتكون بذلك قد حدّثت به عن غيرها = فحينئذٍ فإنّ العدول عن روايتها التي حدّثت بها عن غيرها إلى خبر غيرها المؤيّد بالمشاهدة - كما نصّت على ذلك أمّ هانئ رضي الله عنها هو المتوجّب في هذا المقام
(2)
.
الثالث: أن مما يدل على سقوط هذه الرواية عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: هو أنّه قد ثبت أن عائشة تنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربّه
(3)
. ومن المعلوم أن إنكار رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه عيانًا فرعٌ عن إثباتها لتحقّق الإسراء بجسده صلى الله عليه وسلم، وإلَّا لو كان الإسراء منامًا = لم تُنكِرْها
(4)
. هذا من جهة ما يتعلّق بالخبر المرويّ عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وأما ما يتعلّق بالخبر المرويّ عن معاوية رضي الله عنه فهو أيضًا لم يصحّ؛ ذلك أن ابن إسحاق يرويه عن " يعقوب بن عتبة "، وهو وإن كان قد وثّقه بعض أهل العلم
(5)
؛ إلا إن علة الحديث المقتضية لعدم قبوله = أن " يعقوب " يرويه عن معاوية رضي الله عنه ويعقوب لم يدركْ أحدًا من صحابة
(1)
"الابتهاج"(69)
(2)
انظر: "الشفا"للقاضي عياض (208)
(3)
أخرجه البخاري، كتاب "التوحيد" باب " قول الله تعالى {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} "(9/ 116 - رقم [7380])، ومسلم كتاب " الإيمان " باب:"معنى قول الله عزوجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} النجم"(1/ 159 - رقم [184])
(4)
انظر: "الشِّفا"(208)
(5)
انظر: "التقريب"لابن حجر (1089)
رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، فيكون بذلك منقطعًا. فهذه الرواية إذًا ليست بثابتة عن معاوية رضي الله عنه، فلا يُعوَّل عليها.
وأمّا استنادُه - أي: ابن إسحاق - إلى تفسير الحسن البصري لتعضيد المروي عن عائشة ومعاوية - {- فعملٌ غيرُ سديدٍ؛ لأمور:
الأمر الأول: أنّ الأصل أن يكون قول المتقدم عاضدًا ومقوّيًا لترجيح المتأخّر، لا العكس؛ فاعتضادُه بقول الحسن لتعضيد ما ذهب إليه كلٌّ من عائشة ومعاوية - {- خلاف ما درج عليه أهل العلم؛ لأنه لا شك أن قول التابعي هو الذي يفتقر إلى ما يقوّيه؛ لا أن الصحابي يفتقر إلى قول التابعيّ؛ لأنه من المعلوم بداهةً فضل المتقدم على المتأخر جملةً؛ مع كون المتقدم هنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أعلم بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ممّن جاء بعدهم.
الأمر الثاني: أنّه على فرْضِ صحّة الأول؛ وهو تعضيد ما ذهب إليه المتقدم بقول المتأخر = فإن الاعتضاد هنا لا يتأتَّى؛ لِمَا تقدّم ذِكْرُه من ضعْف المرويّ عن عائشة ومعاوية - {- فيؤول الأمر إلى البحث عمَّا يجبر تفسير الحسن البصريُّ للآية = ولا يوجَد.
كلّ ما سبق هو على جهة التسليم بأن مقصود الحسن البصري رحمه الله من أنّ معنى الرُّؤيا الواقعة في الآية هي الرُّؤيا الحلمية المنامية؛ وهذا ما تبادر إلى ذهن الإمام ابن إسحاق رحمه الله؛ لكن يقال: إن الرُّؤيا هنا مُجمَلة؛ لأنها تأتي بأحد معنيين:
المعنى الأول: الرُّؤيا المنامية.
والمعنى الثاني: الرُّؤيا البصرية.
(1)
"تهذيب الكمال " للحافظ المزي (8/ 175)
فحَمْل قول الحسن البصريّ على الثاني هو المتوجّه في هذا المقام؛ لأمور:
الأول: أنَّه قد نسب إليه ابن الجوزي رحمه الله تقييده الرُّؤيا بالبصريَّة
(1)
، فحينئذ يُفَسَّر الإطلاق من خلال هذا القيد.
الثاني: أنّ اللائق به رحمه الله عدمُ خَرْقه للإجماع؛ فمن غير المعقول ذهابُه إلى مخالفة ما استقر عند الجيل الأول رضي الله عنهم، وقد تقدّم أنه لا يُعرَف عنهم خلافُ ذلك.
الثالث: أن "الرُّؤيا" بهذا المعنى معهودةٌ في اللسان ليست مستنكَرة؛ ومن ذلك قول الراعي:
فكبَّر للرؤيا وهشَّ فؤادُه
…
وبشَّرَ نفسًا كان قبلُ يلومُها
(2)
وهو يعني: رؤية صائدٍ بعينه.
وقول أبي الطيب المتنبي:
* رؤياكَ أحلى في العيونِ من الغَمْضِ
(3)
*
قال ابن الأنباري: (المُختارُ في هذه الرؤية أن تكون يقظةً، ولا فَرْقَ
(1)
انظر: "زاد المسير"(819)
(2)
وهو من شواهد لسان العرب (3/ 10) مادة (رأي)
(3)
"ديوان المتنبي"(157)، وهو من شواهد اللسان (3/ 11) مادة (رأي) وصدر البيتِ: *مَضَى اللَّيلُ والفضْل الَّذي لك لا يمضي*
بين أن يقول القائل: رأيتُ فُلانًا رؤيةً، ورأيته رؤيا، إلَاّ أنّ الرؤية يَقِلُّ استعمالها في المنام، والرُّؤيا يكثُر استعمالها في المنام، ويجوزُ كلُّ واحدٍ منهما في المعْنَيينِ)
(1)
وقد ردّ الإمام محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله على مَن جعل (الرُّؤيا) في الآية السابقة بأنها رؤيا منام؛ فقال: (وزعَمَ بعضُ أهل العلم: أن المراد بالرُّؤيا في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} رؤيا منام
…
والحقّ الأوّل)
(2)
فإن قيل: قد خالف في ذلك بعض أئمة اللغة
(3)
، وغلَّطوا أبا الطيب المتنبي في استعماله " الرُّؤيا " - بالألف - للرؤية البصرية، وعدّوا ذلك لحنًا منه؛ معتلين في تخطئتهم بأنّ الرُّؤيا البصرية تكون (بالتاء) لا (بالألف)
فيقال: إنْ خطّأ بعضُهم ورودَه بهذا الاستعمال، فقد صحّحه البعضُ الآخر من أئمة اللغة؛ فإنه وإنْ كان المتنبي ليس ممن يُحتجُّ بشعره؛ لكونه من المولّدين
(4)
فإنّه يشهدُ له لغةً كلامُ الراعي النّميري
(5)
،
(1)
"زاد المسير"لابن الجوزي (819) وابن الأنباري (271 - 328 هـ): هو محمد بن القاسم بن محمد، أبو بكر الأنباري، إمام في اللُّغة ذو معرفة واسعة بعلوم القرآن والحديث والنحو والشِّعر، من المعنيين بالغريب ونحو الكوفيين، من تصانيفه"الزاهر في معاني كلمات الناس"و"الأضداد" انظر "إنباه الرواة"للقفطي (3/ 201)، و"معجم الأدباء"(6/ 2614)
(2)
"أَضواء البيان"(3/ 469)
(3)
كابن مالك، وأبي القاسم الحريري. انظر"دُرَّة الغوَّاص على أوهام الخواص"للحريري (85) و"شرح المواهب"للزرقاني (6/ 3)
(4)
انظر ضابط من يُحتجُّ بشعره ومن ليس كذلك: " الاقتراح في أصول النحو"، للسيوطي (1/ 611 - وما بعدها، مع شرحه فيض الانشراح)، و "شرح كفاية المتحفظ"، للإمام= =محمد بن الطيب الفاسي (101)
(5)
الرَّاعي النميري (? - 90 هـ): هو عُبَيد بن حُصين بن معاوية بن جندل، النميري، أبو جندل. من فحول الشعراء المحدثين، كان من وجوه قومه، ولقب بالراعي لكثرة وصفه الإبل وكان بنو نمير أهل بيتٍ وسؤدد. وقيل: كان راعَي إبلٍ من أهل بادية البصرة.=انظر: "طبقات فحول الشعراء"(2/ 502)، و "الشعر والشعراء"لابن قتيبة (1/ 415)
وهو عربي قُحٌّ من فحول " الإسلاميين " الذين يُعتَدُّ بشعرهم، ويُحتَجُّ به في الألفاظ والتراكيب، وإثبات القواعد
(1)
وهَبْ أنّه لا يُحتجُّ بشعرَيْهما، ولا يوجد ما يدلُّ على هذا الاستعمال في اللسان؛ إلاّ أنه ليس هناك ما يُحوِج إلى بيان اللغة، وتطلُّب ذلك في شعر الشعراء، مع ثبوت تفسير هذه الآية وفهمها على الوجه الذي تقدم عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ العرب الأقحاح، الذين هم من أعلم الناس بمواقع ألفاظ الكتاب العزيز. وبرهانُ ما ذُكِر: أنّه يُغنِينا عن شعر " الراعي " و " المتنبي "، وغيرهما: ما صحّ عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّه فسّر " الرُّؤيا " في الآية بأنها رؤيا عين. فقد أخرج البخاري عنه، أنه قال في معنى قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ؛ قال: هي رؤيا عين أُرِيها النبي صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسرِي به .. )
(2)
وقد أخرج ابن جرير بسنده زيادةً في قول ابن عباس؛ حيث قال: (هي رؤيا عين
…
وليست رؤيا منام)
(3)
فتحصَّل من ذلك كله: أنّ ما ورد عن الحسن البصري رحمه الله من إطلاقٍ؛ مُقيَّدٌ بما نسبه إليه ابن الجوزي، وأنه على تقدير عدم صحة النسبة، فإنه يُحمَل حينئذ على أحسن المحامل؛ بكونه أراد بالرُّؤيا " رؤيا العين " لا " المنام "، فإنْ لم يحمل على هذا الوجه، فلا أكثرَ من أن يُتوَقَّفَ في الجزمِ بأحد المرادين. والله أعلم.
وما سبق تقريره في معنى الرُّؤيا في الآية محمولٌ على أَنَّ الآية
(1)
انظر: "شرح كفاية المتحفظ"للفاسي (101)
(2)
أخرجه البخاري كتاب " التفسير باب "(وما مجعلنا الرُّؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) "، (989 - رقم [4716])
(3)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (15/ 110)
سيقت لبيان مارآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، إلاّ ففي توجيه معنى الآية أَقاويل ذكرها أَهل العلم، لذا قال الإمام ابن عبدالبرِّ:(وأَمَّا قوله عزوجل: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} فمُخْتَلَفٌ في تأْويلِها اختلافًا كثيرًا يطولُ ذكره)
(1)
ولمّا كان الأمر ما رأيتَ من ضعْف ما ارتكز عليه الإمام ابن إسحاق = كان ذلك مما دفع الإمام ابن جرير إلى التشنيع على ابن إسحاق في فهمه الذي ذهب إليه.
وأسوقُ كلامَه لمتانته وقوّته. قال رحمه الله بعد أن ذكر قول ابن إسحاق: (والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ كما أخبر الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله حمله على البراق حين أتاه به، وصلَّى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه ما أراه من الآيات؛ ولا معنى لقول من قال: أُسرِي بروحه دون جسده؛ لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون دليلا على نبوته، ولا حجة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك، وكانوا يدفعون به عن صدقه فيه؛ إذ لم يكن مُنكَرا عندهم، ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم = أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل؟
وبعد؛ فإنَّ الله إِنَّما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده؛ وليس جائزا لأحد أن يتعدَّى ما قال الله إلى غيره
…
ولا دلالة تدل على أن مراد الله من قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} أسرى بروح
(1)
"الأجوبة عن المسائل المستغربة"لابن عبدالبَرِّ (156)
عبده بل الأدلة الواضحة، والأخبار المتتابعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرى به على دابة يقال لها: البراق = ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق؛ إذْ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجسام؛ إلَّا أن يقول قائل: إنَّ معنى قولنا: أسرى بروحه رأى في المنام أنه أسرى بجسده على البراق. فيكذِّبُ حينئذ بمعنى الأخبار التي رُوِيَت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن جبرائيل حمله على البراق؛ لأن ذلك إذا كان منامًا على قول قائل هذا القول، ولم تكن الروح عنده مما تركب الدواب، ولم يحمل على البراق جسم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على قوله حُمِل على البراق؛ لا جسمه، ولا شيء منه، وصار الأمر عنده كبعض أحلام النائمين = وذلك دفع لظاهر التنزيل، وما تتابعت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به الآثار عن الأئمَّة من الصَّحابة والتَّابعين)
(1)
وسأُجْمِل ردَّه في الآتي:
الأول: أن الإسراء لو كان منامًا، أو بروحه؛ لما كان في هذه المعجزة والبرهان دلالة على صدق رسالته، ولا حجّة على نبوّته.
الثاني: أنه لو كان ذلك منامًا، أو بروحه؛ لَمَا أنكر المشركون حقيقة ذلك؛ إذ رؤية الرائي في المنام أنه يسير هذه المسافات في ليلة ليس بمستبعد عند ذوي الفِطَرِ الصحيحة.
الثالث: أن الله تعالى أخبر أنه أسرى {بِعَبْدِهِ} . والعبد: مجموع (الروح والجسد) ولم يخبر أنه أسرى بروحه فقط. وقصر الإسراء على الروح تعدٍّ لما قاله اللهُ إلى غيره.
الرابع: أنّ مَن جعل الإسراء بالروح فقط؛ فقد خالَف ظاهر
(1)
"جامع البيان" لابن جرير (15/ 26 - 27) وانظر أيضًا: "تثبيت دلائل النُّبوَّة" للقاضي عبد الجبار (1/ 48 - 49)
القرآن، وما استفاضت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاءت به الآثار عن الصحابة والتابعين.
ومن الأوجه الدالّة على فساد قول من قال: إن الإسراء وقع لروحه صلى الله عليه وسلم، أو منامًا؛ ممّا يمكن إضافته لما ذكره الإمام ابن جرير رحمه الله ما يلي:
• أن الله جل جلاله قدّم " التسبيح " قبل سَوْق خبر الإسراء؛ فقال تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}
…
الآية. والتسبيح إِنَّما يكون عند الأمور العظام، ولو كان منامًا لم يكن مُستعظَمًا؛ فيكون التسبيح بلا معنى؛ وهذا غير جائز.
(1)
• أَنَّ اللهَ جل جلاله أَثنى على نبيِّه صلى الله عليه وسلم بما كان منه ليلة الإسراء بما كان منه ليلة " الإسراء "، فقال:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} النجم. . والبصر من آلات الذات لا الروح؛ فلو كان الإسراء بالروح، أو منامًا = لبَطَلَ معنى الآية
(2)
.
وقد أُورِدَتْ على هذا الحديث عِدَّةُ اعتراضات عقليّة؛ تختلف باختلاف مَشارِب المُورِدين. ومُحصَّل هذه الشُّبهات يؤول إلى إحالة هؤلاء المعترضين لما تضمّنه الحديث، ومَناطُ إحالتِهم؛ خروجُ حادثة " الإسراء والمعراج " عن مقتضى العادة، وعدم مباشرة الحسِّ لها فالتبس عليهم الأمرُ، فظنّوا أنّ ذلك يستوجبُ إحالة العقل لهذا الحديث، فلا يمكن على مقتضى ذلك التسليمُ بهذه الآية التي أكرم الله جل جلاله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بها، فزلّتْ بهم أقدامُهم إلى هاويتين:
الهاويةُ الأولى: ردُّ الحديث، وتطلُّبُ العِلَل الواهية التي لا تقوى على إبطال حقيقة ما دلّت عليه هذه الآية العظيمة.
(1)
انظر: "تفسير القرآن العظيم"لابن كثير (5/ 2063)
(2)
انظر: "المصدر السابق (5/ 2063)
ومَن ألطَفَ النظرَ فيما انطوت عليه هذه الطعون تحصَّل لديه أنها لا تصدُر إلاّ مِمّن يَشكُّ في قدرة الخالق سبحانه وتعالى على خَرْقِ سنن الكون، لا ممّن يؤمن بالله تعالى، وبكمال قُدرته.
الهاوية الثانية: تأويل الحديث؛ تأويلًا يُخرِجُه عن حقيقته التي فهمها الجيل الأوّل - رضوان الله عليهم -. هذا التأويل لم يكن في دَرَكةٍ واحدةٍ؛ بل تفاوتت درَكَاتُه بحسب ما ارتآه كل فرد من أفراد المؤولين.
أمّا تأويل الحديث: فقد استرْوَح إليه عددٌ من المتأخرين.
ومن أولئك: [العلامة " شاه الدهلوي "
(1)
رحمه الله؛ حيث فسّر حديث الإسراء تفسيرًا يخالف ظاهره، ويؤول به إلى موافقة بعض الفلاسفة القائلين بـ "عالَم المُثُل "؛ فقال: (وأُسرِي به إلى المسجد الأقصى، ثم إلى سدرة المنتهى، وإلى ما شاء الله، وكلّ ذلك بجسده في اليقَظَة
(2)
، ولكنّ ذلك في موطنٍ هو برزَخٌ بين المثال والشهادة، جامعٌ لأحكامها، فظهر على الجسد أحكام الروح، وتتمثّل الرّوح والمعاني الروحية أجسادًا؛ ولذلك بأن لكلّ واقعة من تلك الوقائع تعبيرًا. وقد ظهر لحزقيل، وموسى، وغيرهما عليهما السلام نحوٌ من تلك الوقائع، وكذلك لأولياء الأمة؛ ليكون علوّ درجاتهم عند الله كحالهم في الرُّؤيا. والله أعلم .... وأَمَّا ركوبه على البراق فحقيقته: استواء نفسه النطفية على نسمته التي هي الكمال الحيواني، فاستوى راكبًا على البراق، كما غلبت نفسُه النطقية على البهيميّة، وتسلّطت عليها
…
وأمّا ملاقاتُه مع الأنبياءِ - صلوات الله عليهم - ومفاخرته معهم فحقيقتها: اجتماعهم من حيث ارتباطهم بحظيرة القُدُس، وظهور ما اختصَّ به من بينهم من وجوه الكمال.
وأمّا رُقيُّه إلى السموات؛ سماءً بعد سماء؛ فحقيقته: الانسلاخ إلى مستوى الرحمن منزلةً بعد منزلة، ومعرفةُ حال الملائكة الموكّلة بها، ومَن لحق بهم من أفاضل البشر. والتدبير الذي أوحاه الله فيه، والاختصام الذي يحصل بين مَلَئها.
وأمّا بكاءُ موسى: فليس بجسدٍ، ولكنه مِثال لفَقْدِه عمومَ الدعوة، وبقاء كمالٍ لم يحصله مما هو في وجهه.
وأما سدرة المنتهى: فشجرةُ الكون، وترتّب بعضها على بعض، وانجماعها في تدبيرٍ واحدٍ؛ كانجماع الشجرة الغزية والنامية، ونحوهما. ولم تتمثّل حيوانًا؛ لأن التدبير الجملي الإجمالي الشبيه بالسياسة الكليّ أفرادُه؛ وإِنَّما أشبه الأشياء به الشجرة دون الحيوان، فإن الحيوان فيه قُوىً تفصيلية، والإرادة فيه أصرح من سنة الطبيعة
…
وأمّا الأنوار التي غشيتها: فتدلّياتٌ إلهية، وتدبيراتٌ رحمانية، تلعْلعت في الشهادة؛ حيثما استعدّت لها.
وأمّا البيت المعمور؛ فحقيقته: التجلِّي الإلهي الذي يتوجه إليه سجداتُ البشر وتضرُّعاتُها؛ يتمثّل مبيّنا على حَذْو ما عندهم من الكعبة وبيت المقدس
…
وأُمِر بخمس صلواتٍ بلسانٍ متجوّز؛ لأنها خمسون باعتبار الثواب، ثم أوضح اللهُ مرادَه تدريجيًا؛ ليعلم أن الحرج مدفوع، وأن النعمةَ كاملةٌ. وتمثَّل هذا المعنى مستندًا إلى موسى عليه السلام بأنه أكثر الأنبياء معالجةً للأمّة، ومعرفةً بسياستها
…
)
(3)
] [*]
وأمّا محمد حسين هيكل فإنه أوَّلَ هذه الآية؛ بأنْ فسّرها تفسيرًا روحيًّا، لا يتحقق تحته أي وجود حقيقي لهذه المعجزة، فتراه يقول: (
…
ففي الإسراء والمعراج في حياة محمد الروحية معنىً سامٍ؛ غاية في السموّ، معنىً أكبر من هذا الذي يصوّرون، والذي قد يشوب بعضَه من خيال المتكلمين حظٌّ غيرُ قليل.
فهذا الروح: القُوى قد اجتمعت فيه ساعة الإسراء والمعراج وحدةُ هذا الوجود، بالغةً غايةَ كمالِها. لم يقف أمام ذهن محمد وروحه في تلك الساعات حجابٌ من الزمان، أو المكان، أو غيرهما من الحجب التي تجعل حكمنا نحن في الحياة نسبيًّا، محدودًا بحدود قوانا المُحِسّة، والمدبّرة، والعاقلة. تداعتْ في هذه الساعة كلُّ الحدود أمام بصيرته، واجتمع الكون كلُّه في روحه؛ فوعاه منذُ أزلِه إلى أبده، وصوّره في تطوّر وحدته إلى الكمال؛ عن طريق الخير، والفضل، والجمال، والحق؛ في مغالبتِها، وتغلُّبِها على الشرّ والنقص
…
بفضلٍ من الله ومغفرة.
وليس بمستطيعٍ هذا السموَّ إلا قوة فوق قوة الطبائع الإنسانية. فإذا جاء بعد ذلك ممن اتبعوا محمدًا مَنْ عجِز عن متابعته في سموّ فكرته،
(1)
هو العلامة الشَّاه ولي الله أحمد بن عبدالرحيم الدهلوي الهندي (1110 هـ-1176 هـ) من أفراد المتأخرين علمًا وعملًا، أحيا الله به الحديثَ والسُّنّة بالهند، من مؤلفاته:"شرح تراجم أبواب البخاري"، و"الفوز الكبير في أصول التفسير".=انظر:"فهرس الفهارس والأثبات"لعبد الحي الكتاني (1/ 178 - 180)، و"الإمام المُجدِّد الشَّاه ولي الله الدهلوي حياته ودعوته"لمحمد بشير السّيالكوني.
(2)
ظاهره إثباتُ حقيقة الإسراء؛ لكنّ ما بعده يناقض ذلك.
(3)
"حجة الله البالغة"للدهلوي (2/ 1195 - 1197)
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين معكوفين ليس في المطبوع، وأثبتناه من أصل الرسالة العلمية
وقوة إحاطته بوحدة الكون؛ في كماله، وفي جهاده لبلوغ هذا الكمال = فلا عجب في ذلك، ولا عيب فيه)
(1)
وبعد تحقيق القول في ثبوت إجماع السلف على وقوع الإسراء والمعراج بجسده صلى الله عليه وسلم، وبيان موقف المخالفين من هذه الآية= لم يبق إلاّ قطع سُوْق الشبهات بسَوْق البراهين، فدونك بيان ذلك في الصفحات التالية.
(1)
"حياة محمد"(207)