الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: دفْع دعوى المعارِض العقلي عن أحاديث انشقاق القمر:
والجواب عن هذه المعارضات في الفِقَر التالية:
? أمّا زعمُ بعض الفلاسفة أن الأجرام العلوية لا يعتريها فسادٌ، ولا ذُبولٌ، ولا انشقاق؛ فهي نظرية يونانية باطلة، وبطلانها من جهة مناقضتها لضرورتين:
الأولى: الضرورة الشرعية.
الأخرى: الضرورة الحسية.
أمّا الضرورة الأولى: فقد تقدّم أن هذه الشبهة لا تنقدح في أذهان المؤمنين بالخالق سبحانه وتعالى، وبكمال قدرته؛ فالذي قدر على خلق السموات والأرض قادرٌ على إفناءِ هذا العالم، وقادرٌ على شق القمر؛ فهو القادر على كل شيء جلّ وعلا؛ لا يُعجِزُه شيءٌ أبدًا.
وقد تواتر عن الأنبياء أنهم أخبروا بانشقاق السموات
(1)
أَمَّا الضَّرورة الحسِّيَّة، فتنتظم أمرين:
الأوَّل: وقوع المُعاينة من بعض الخلق لانشقاق القمر.
الأمر الثَّاني: وقوع المعاينة من بعض الخلق لانشقاق بعض الأجرام السماوية.
فأمَّا الأمر الأوَّل: فهو ظاهر لمن رأى انشقاقه من أهل مكَّة، وممن كان خارجها؛ فإنه قد وقع في بعض الرِّوايات حصول هذه الرؤية لغير أهل مكة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: (انشقّ القمر بمكة حتى صار فرقتين، فقال كفار قريش لأهل مكة: هذا سحرٌ سحركم به
(1)
انظر: " الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح ": لابن تيمية (3/ 373)
ابن أبي كبشة؛ انظرُوا السُّفَّار، فإن رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحرٌ سحركم به. قال: فسُئل السُّفَّار - قال: وقد قدموا من كل وِجْهَةٍ، فقالوا: رأينا)
(1)
وأما الأمر الثاني ممَّا يخرق دعوى الامتناع: أَنَّ العلوم الفلكية الحديثة قد أثبتت وقوع الانشقاق في أَجْرَامٍ سماويّة؛ كالمُذَنَّبَات. فقد رصد علماءُ الفلك المُحدَثِين انشقاقَ مُذَنَّب "بروكس" شِقّين، سنة (1889 م) وكذلك انقسام مُذَنَّب " بيلا " إلى جزءين، سنة (1864 م)
(2)
فوقوع هذا الانشقاق ينفي الغرابة عن انشقاق القمر الواقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولعلّ إشكالًا ينقدح في مُخيّلة بعضهم؛ حاصلُه = إذا كان الانشقاق قد وقع في هذه المُذَنَّبات والكواكب، فما وجهُ الإعجازِ حينئذٍ في انشقاق القمر لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
فيُقال: وَجْهُ الإعجازِ: أنّ هذين المُذَنَّبَين انشقّا ولم يلتئما، وأما القمرُ فالآية فيه التئامُه بعد انشقاقه؛ بيانًا لقدرة الله تعالى، وتصديقًا لنبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم؛ إنّ الأبحاث الفلكيَّة: أثبتت نقيض تلك التصورات الساذجة للكون؛ نظرًا لقصور معارفهم، ومحدودية حواسهم. فلقد كان الفلاسفة الأقدمون يظنون أن العالَم بهيئته هذه منذ الأزل؛ بناءً على أَصلهم الفاسد الذي يقضي بأنَّ الله -تعالى الله- علة تامة والكون معلول له، فلا يمكن
(1)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (27/ 85)، و البيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 266)
(2)
انظر: "عوالم بلا نهاية" للعالم الفلكي " سبنسر جونز "، نقلًا عن:"الرُّسُل والرسالات" للدكتور عمر الأشقر (135)
-عندهم- أَن يلحق العالم تغيّرٌ إلَاّ إذا لحق هذا التغيُّر علته -أي الله- فالثاني مستحيل وكذا الأوَّل؛ ومن المعلوم بطلان ذلك شَرعًا، وحِسًّا، فأمَّا شرعًا فالبراهين الدَّالة على كمال قدرة الله تعالى، وكمال مشيئته؛ إذ مقتضى قولهم سلب هاتين الصِّفتين عنه تعالى وهذا خلاف مادلت عليه دلائل الشَّرع، وهو أَيضًا خلاف ما كشفتْه الأبحاث العلمية المتأخّرة؛ فإن العلم الحديث يدلّ على أن الأرض كانتْ جزءًا مما في السماء؛ على خلافٍ بينهم في تحديد أصلها. وهذا ما يدلّ عليه ظاهر القرآن الكريم؛ قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} الأنبياء
(1)
.
فعِلْم الفَلك يكشِف عن (أَنَّ الإشعاعَ الصادرَ عن الشمس يُنقِص كتلتها؛ وإن كان القدْر الذي يُنقِصُه ضئيلًا جدًّا بالنسبة لحجمها " تحويل 1% من كتلة الشمس من الهيدروجين إلى الهيليوم يمدّها بطاقة تكفي لإبقائها مضيئةً لمدة 1،000،000،000 عام.
إن كمّية الطاقة التي ترسلها الشمس هي من العِظَم بحيث أن كتلة الشمس تتناقص بمعدّل 4،3 بليون كيلو جرام في كلّ ثانية! ولكنّ هذا قدرٌ ضئيلٌ جدًّا من كتلة الشمس؛ بحيث أن التغيير هذا لا يكادُ يلاحَظ .. يعتقد أن عمْر شمسنا 4،5 بليون سنة، وأنها ستستمر في نشاطها إلى 4،5 سنة أخرى)
(2)
فها هو العلم الحديث يُثبِتُ أن التغيُّر والنقص حاصلٌ في " الشمس "، وأنّ هذا الكونَ برُمّتهِ كما أنّ له بدايةً فإنّ له نهايةً؛ متى أذِن اللهُ بذلك.
(1)
انظر في هذا: "التوحيد والإعجاز العلمي في القرآن" للدكتور عبد المجيد الزنداني (66 - 67)، و "من آيات الإعجاء العلمي السماء في القرآن الكريم" للدكتور زغلول النجّار (95)
(2)
"الفيزياء ووجود الخالق" للدكتور جعفر شيخ إدريس (73) و: "الموسوعة العالمية"(20/ 3679)
يقول أحدُ علماء "الطبيعة البيولوجية""فرانك آلّن": (ولكن قوانين
…
"الديناميكا الحرارية " تدلّ على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيًا، وأنها سائرة حتمًا إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض؛ هي الصفر المُطلَق. ويومئذٍ تنعدم الطاقة، وتستحيل الحياة .. أما الشمس المستعرة، والنجوم المتوهّجة، والأرض الغنية بأنواع الحياة = فكلُّها دليلٌ واضحٌ على أنّ أصل الكون، أو أساسه يرتبط بزمانٍ بدأَ في لحظة معيّنة؛ فهو إذًا حدَثٌ من الأحداث)
(1)
وبذا تنهار تلك الرؤية الباطلة للكون؛ من جهة النقل أوّلًا، ومن جهة العقل والحسّ ثانيًا.
? وأما الزعم بأن انشقاق القمر لو وقع = لتوافرت الدواعي على نقله متواترًا، ولَمَا خفِي على أهل الأقطار؛ فيقال في جوابه:
أوّلًا: إنّ هذه الحادثة وقعتْ ليلًا، ومن شأنِ الليل أن يكون أكثر الناس فيه نيامًا، مستكنّين الأبنية
(2)
.
ثانيًا: أنّ هذا إِنَّما يلزم لو جُوِّزَ استواءُ أهل الأرض في إدراك مَطالِعِه
(3)
ومن المعلوم أن القمر لا يطلع على أهل الأرض كلهم في زمانٍ واحدٍ؛ بل يطلع على قوم قبل طلوعه على آخَرين.
ثالثًا: أنه يمكن حصول رؤيته لخلق كثير، ولكنهم اتّهموا أعينهم، وحسبوا أن ما رأوه خيالًا؛ ولذا لم يأبهوا بنقله وإشاعته.
رابعًا: دعواهم أنّ أهل التواريخ لم ينقلوا ذلك؛ مما يؤكد على عدم حصول هذه الآية. فيقال: النفي ليس بعلم؛ فأين البرهان على أن أهل التواريخ لم يدوّنوا ذلك في أسفارهم. ثمّ؛ إنه لم يثبت عن أحدٍ من
(1)
"التوحيد والإعجاز العلمي في القرآن الكريم"(59 - 60)
(2)
انظر: "أعلام الحديث" للخطّابي (3/ 1619)
(3)
انظر: "المُفهِم" لأبي العبَّاس القرطبي (7/ 404)
أهل التاريخ، ولا من المعانين للتنجيم نفي ذلك؛ وهذا (كافٍ، فالحجّة فيمن أثبت، لا فيمن يوجدُ عنه صريح النفي؛ حتى إن وُجِد عنه صريح النفي يُقدَّم عليه من وُجِد منه صريحُ الإثبات)
(1)
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله أنّ هذه الواقعة أُرِّخ بها في بعض بلاد الهند، وأنه بُنِي بناءٌ تلك الليلة، وأُرِّخ بليلة انشقاق القمر
(2)
و ذكر الدكتور محمد حميد الله رحمه الله: أنه رأى في إحدى المخطوطات الهندية القديمة المحفوظة في مكتبة المركز الهندي بالمتحف البريطاني بمدينة لندن، برقم (2807/ 152 - 173) أنّ أحد ملوك مليبار (وهي إحدى مقاطعات جنوب غربي الهند)، وكان اسمه " شاكرواني قارماس " عايَنَ انشقاق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ يحدّث الناس بذلك
(3)
خامسًا: أن خبر انشقاق القمر مما تواتر علمُه عند أهلِ الإسلام. وقد ثبت في معلمات السُّنّة ودواوينها، وفي كتب أهل السَّيَر، وفي أسفار مَنْ صَنَّف في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وتناقَلَه الأئمة الثقات = فالقدْح في روايتهم مع ما عُلِم بالضرورة عنهم من شدّة تمحيص الروايات، ومعرفة أصول نقلها، والبلوغ في هذا الشأن أعلى درجات التثبُّت، مع ما في هذه الحادثة من الإعجاز الذي تحدّى به النبي صلى الله عليه وسلم مَن عايَن هذه الواقعة من المشركين، لا شك أنّ مَن جَعل ذلك كلّه دَبْرَ أذنيه فقد أنكر الضروريات، وكابر المقطوع به. فإن جلّةً من الأئمة قد حكموا بالتواتر لهذه الحادثة، وحكوا الإجماع على وقوعها. وهذا التواتر مستفادٌ من أمرين لا ينكرهما إلا من يجحد الحقائق؛ هذان الأمران:
(1)
"فتح الباري"لابن حجر (7/ 236)
(2)
انظر: "البداية والنهاية"(4/ 299)
(3)
نقلًا عن: "السماء في القرآن الكريم"(542 - 543)
الأول: ثبوت هذه الحادثة بنص القرآن الكريم. والقرآن منقول بنقل الكافة عن الكافة، لا يمتري في هذا اثنان.
الثاني: رواية الجمِّ الغفير لهذه الحادثة من الصحابة، وروى عنهم أمثالهم من التابعين، إلى أن دُوِّن في دواوين الإسلام. فمن أولئك: الإمام ابن عبد البَرّ رحمه الله؛ حيث قال: (قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجمّ الغفير، إلى أن انتهى إلينا، ويؤيّد ذلك بالآية الكريمة. فلم يبق لاستبعادِ مَن استبعدَه عذرٌ)
(1)
، والحافظ ابن كثير رحمه الله؛ حيث قال:(وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام، وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة، تفيد القطع عند من أحاط بها، ونظر فيها .. )
(2)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (أجمَعَ المفسّرون، وأهلُ السِّيَر على وقوعه؛ قال: ورواه من الصحابة: عليّ، وابن مسعود، وحذيفة، وجبير بن مُطعِم، وابن عمر، وابن عباس، وأنس)
(3)
وكذا مِثْله القرطبي؛ حيث قال: (وقد روى هذا الحديث جماعة كثير من الصحابة
…
وفاضتْ أنوارُه علينا، وانضاف إلى ذلك ما جاء من ذلك في القرآن المتواتر عند كل إنسان؛ فقد حصل بهذه المعجزةِ العلمُ اليقين الذي لا يَشكُّ فيه أحد من العاقلين)
(4)
.
وقد نظمها الإمام الكتّاني رحمه الله في سِلك الأحاديث التي بلغتْ مبلغَ
(1)
نقلًا عن: "فتح الباري"لابن حجر (7/ 236)
(2)
"البداية والنهاية"(4/ 293)
(3)
نقلًا عن: "نظْم المتناثر من الحديث المتواتر " للكتاني (223)
(4)
"المفهمِ"(7/ 403) وانظر كذلك: "الفتوحات السبحانية" للإمام المناوي (1/ 349) و (2/ 32 - 33)، و "الخصائص الكبرى" للسيوطي (1/ 312 - وما بعدها)
"التواتُر " و "الاستفاضة"
(1)
.
وفي تقرير هذين الأَمرين، يقول شيخ الإِسلام: (ومعلوم أن هذه المعجزات لا ريب فيها وانشقاق القمر قد أخبر الله به في القرآن وتواترت به الأحاديث كما في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود وأنس وابن عباس وغيرهم وأيضا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهذه السورة في الأعياد والمجامع العامة فيسمعها المؤمن والمنافق ومن في قلبه مرض، ومن المعلوم أن ذلك لو لم يكن وقع لم يكن ذلك:
أمَّا أولًا: فلأن من مقصوده أنَّ النَّاسَ يصدقونه ويقرون بما جاء به، لا يخبرهم دائما بشيءٍ يعلمون كذبه فيه فإن هذا ينفرهم ويوجب تكذيبهم لا تصديقهم.
وأمَّا ثانيا: فلأنَّ المؤمنين كانوا يسألونه عن أدنى شبهة تقع في القرآن
…
... فكيف يقرأ عليهم دائمًا ما فيه الخبر بانشقاق القمر، ولا يَردُّ على ذلك مؤمنٌ، ولا كافرٌ، ولا مُنافق؟)
(2)
سادسًا: أما زعْمُ الجاحظ: أَنّه لو انشقّ القمر لوجب أن تختلف التقويمات بالزيجات؛ لأنه قد عُلم سيرُه في كل يوم وليلة؛ فلو انشقّ لكان وقت انشقاقه لا يسيْر)
(3)
.
فالجواب عن ذلك:
أنّ قوله: بأنه (لو انشقّ لكان وقت انشقاقه لا يسير): دَعْوى بلا برهان؛ فمن أين للجاحظ أن انشقاقَه يلزمُ منه توقّفُه عن السَّيْر. ويمكِن أن يُعارَض بأنّه وقت انشقاقه - مع قِصَر مدّة هذا الانشقاق - يمكن أن يستمر القمر في سيره، والله تعالى لا يُعجِزُه شيءٌ أبدًا.
(1)
انظر: "نظم المتناثر"(222 - 223)
(2)
"الصفدية"(1/ 139 - 141)
(3)
"الأزمنة والأمكنة"(1/ 69)
سابعًا: أنّ بعض الفلَكيين وافق ما كان مستقرًّا في قلوب أهل الإيمان؛ مما استفادوه من كلام الله تعالى، والخبرِ الثابتِ عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي لا يقبل الشكّ عندهم. فقد أثبتوا أن القمر قد وقع له انشقاق، والتقطوا للقمر وقتَ " البدر الكامل " صُورًا تبيّن شقّ القمر في منتصف سطحه تقريبًا. هذا بالإضافة لما استبان لبعض علماء الفضاء الذين وقفوا على وجود تمزّقات طويلة جدًّا وغائرة في متن القمر؛ مما حدا بهم إلى إثبات أن القمر كان قد انشقّ ثم اللتحم
(1)
وسواء كانت هذه التمزقات أثرًا عن الانشقاق أم لم تكن=فإن الضرورة الشرعية أثبتتها، وتضافر الدلائل من كتاب وسُنّة وإجماع كلّها براهين على وقوع هذه الحادثة فتخرج بذلك عن دائرة المخيال والخُرافة، ذلك أنّ التسويةَ بين الحقائق المُطابقة لما في الواقع، والخُرافة التي لاتطابق الواقع، ولم تنتصب الدلائل على تحقّقها ضربٌ من المكابرة، ومنكر القطعيات لا حيلة فيه! فليس بعد ثبوت هذه الحقائق حجةٌ لمُعتَرِضٍ، وشُبهةٌ لمُنكِر، وليس بعد الحقّ إلا الضّلال.
* * *
(1)
انظر: " السماء في القرآن الكريم "(544، 546 - 547)