الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأوَّل: سوق أحاديث عذاب القبر و نعيمه:
عن البراء بن عازب عن أبي أيوب صلى الله عليه وسلم، قال: خَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقد وَجَبَتِ
(1)
الشَّمسُ فَسَمِع صوتًا، فقال:(يَهُودُ تُعذَّبُ في قُبورها) متفق عليه، وفي رواية مسلم:(بعد ما غربت الشَّمسُ)
(2)
.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّه حَدَّثَهم أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: (إنَّ العبدَ إِذَا وُضِعَ في قَبرِهِ، وتَولَّى عنه أَصْحَابُهُ، وإنَّه لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهم =أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ، فيقولانِ: ما كُنتَ تقولُ في هذا الرَّجُلِ لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فأمَّا المؤمنُ فَيقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ. فيُقالُ له: انْظُرْ إِلى مَقْعَدِكَ مِن النَّارِ قَد أَبْدَلَكَ اللهُ بهِ مَقْعَدًا مِن الجَنَّةِ. فيراهما جميعًا) قال قتادةُ: وذُكِرَ لنا أَنَّه يُفْسَحُ في قَبْرِهِ. ثُمَّ رَجَع إلى حديث أنس قال: (وأَمَّا المنافقُ والكَافِرُ فَيُقال له: ما كنتَ تَقولُ في هذا الرَّجُلِ =فيقولُ: لا أَدْري، كُنتُ أَقولُ ما يقولُ النَّاسُ. فيُقال: لا دَرَيتَ ولا تَليتَ
(3)
ويُضْرَبُ بِمَطَارقَ مِن حَديدٍ ضَرْبَةً فَيصيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُها مَن يَليهِ غَيرَ الثَّقَلينِ) متفق عليه
(4)
.
(1)
وَجبت الشمس: سَقطَت مع المغيب=انظر"النهاية"(959).
(2)
أخرجه البخاري في: كتاب"الجنائز"،باب"التعوّذ من عذاب القبر"(271 - رقم [1375])،ومسلم في: كتاب"الجنة وصفة نعيمها وأهلها"،باب"عرض مقعد الميت في الجنة أو النَّار عليه .. "(4/ 2200 - رقم [2869]).
(3)
ولا تليت: أي: ما استطعت. وقيل: إنها إتباع ولا معنى لها. والأوَّل رجحه الحافظ ابن حجر =انظر:"فتح الباري"(3/ 304).
(4)
أخرجه البخاري في: كتاب"الجنائز"،باب"ماجاء في عذاب القبر"(271 - رقم [1374])،،مسلم مختصرًا في: كتاب"الجنة وصفة نعيمها وأهلها"،باب"عرض مقعد الميت في الجنة أو النَّار عليه .. "(4/ 2200 - رقم [2870]) واللفظ للبخاري.
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنه قال: مَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرينِ فقال: (إنَّهُما لَيُعذَّبَانِ، ومَا يُعذَّبَان في كبيرٍ
(1)
) ثُمَّ قال: (بلى، أمَّا أَحدُهُما فكانَ يَسْعَى بالنَّمِيمَةِ. وأما الآخر لا يَسْتَتِرُ من بَوْلِهِ) ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فكسَرَه باثْنتين ثُمَّ غَرَزَ كُلّ واحد منهما على قَبْرٍ، ثُمَّ قال:(لَعَلَّهُ يُخفَّفُ عَنْهُما مَا لم يَيْبِسا) متفق عليه
(2)
.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم يدْعو: (اللَّهمّ إنِّي أعُوذُّ بك مِن عَذاب القَبْر، ومن عَذابِ النَّارِ، ومن فِتْنَةِ المَحيا والممات
(3)
، ومن فتنة المسيح الدَّجال) متفق عليه
(4)
.
وعن عائشةَ رضي الله عنه أَنَّ يهوديةً دَخَلت عَليها فَذَكَرَتْ عَذابَ القَبرِ، فَقَالتْ لها: أَعاذَكِ اللهُ مِنْ عذابِ القَبْرِ. فَسَأْلَت عائشةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَن عَذَابِ القَبْرِ، فَقَالَ:«نعم عذاب القبر حق» ،قالت عائشة رضي الله عنها:(فما رَأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ صَلَّى صَلاةً إلَاّ تعوَّذَ مِن عَذَابِ القَبر)
(5)
.
(1)
اختُلف في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم "وما يُعذَّبان في كبير"على أقاويل، لعلَّ أقربها الذي يدل عليه السِّياق هو=أنّ معناه: ليس بكبير عندهما، وهو عند الله كبير فهو كبير في الذُّنوب =انظر:"العدة"لابن العطّار (1/ 140)،و"الفتح"لابن حجر (1/ 152) .
(2)
أخرجه البخاري في: كتاب"الجنائز"،باب"ما جاء في عذاب القبر"(271 - رقم [1378])،ومسلم في: كتاب"الطهارة"،باب"الدليل على نجاسة البول وجوب الاستبراء منه"(1/ 240 - رقم [292]) .
(3)
فتنة المحيا: ما يعرض للمرء مدة حياته من الافتتان بالدُّنيا وشهواتها. وفتنة الممات: ما يُفتن به بعد الموت =انظر:"فتح الباري"لابن حجر (2/ 412 - ط/دار السلام) .
(4)
أخرجه البخاري في: كتاب"الجنائز"،باب"التعوُّذ من عذاب القبر"(271 - رقم [1377])،ومسلم في: كتاب"المساجد ومواضع الصلاة"،باب"ما يُستعاذ منه في الصلاة"(1/ 413 - رقم [588]) .
(5)
أخرجه البخاري في: كتاب"الجنائز"،باب"ما جاء في عذاب القبر"(270 - رقم [1372]) .
تمهيد:
دلَّت الأحاديثُ المُساقةُ على ثبوت فتنة البَرْزَخ، وأنّ في القَبْر عذابًا ونعيمًا للميت؛ بِحَسَبِ عملِه. وذلك مقتضى عدل المولى تبارك وتعالى، وموجبِ أسمائه وكماله، أنْ يُنعِّم أرواحَ وأبدَانَ أوليائه، ويُعذِّبَ أرواحَ وأبدان أعدائه؛ فيُذيقَ بدَنَ المطيع له وروحَه من أنواع النعيم ما يليق به، ويُذيقَ بدنَ الفاجِر والعاصي له، وروحَه ما يستحقُّه
(1)
.
والبَرْزَخ: في اللِّسان: الحاجزُ والحدُّ بين الشيئَيْنِ
(2)
. ومنه: قوله تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} الرحمن: 20
وأمّا عند أهل الاصطلاحِ: فاسمُ ما بينَ الدنيا والآخرة؛ من وقْتِ الموتِ إلى البعث
(3)
.
فإِنْ قِيل: هل ثَمَّةَ فَرْقٌ بين " البَرْزَخ " و " القَبْر "؟
فيُقال: عذابُ القَبْر ونعيمه هو: عذابُ البَرْزَخ ونعيمُه؛ وإنّما أُضيفَ إلى القَبْر لكونه هو الغالب. فتحصَّل من ذلك: أنَّ لفظ البَرْزَخ أَعمُّ من لفظ القَبْر
(4)
؛ إذْ قد يموت إنسانٌ ولا يُدفَن في المقابر؛ بِأَنْ تأكلَه السباعُ، أو الطيرُ، أو يُصلَب .. الخ. فهذا له من عذابِ البَرْزَخ ونعيمه حظُّه؛ بِحَسَبِ أعمالِه.
وقد نصّ الأئمةُ على تواتر الأحاديث في إثبات عذاب القَبْرِ
(1)
انظر:"الرُّوح"لابن قيِّم الجوزيَّة (107).
(2)
انظر: "مقاييس اللغة"لابن فارس (1/ 233).
(3)
انظر: "تفسير القرآن"للسمعاني (3/ 490)،و "أحكام القرآن" للقرطبي (12/ 150)،و "أهوال القبور" لابن رجب (20).
(4)
انظر:"الرُّوح"(105 - 106)،و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 299)، و"شرح الصدور" للسيوطي (177)،و "الفَصل في المِلَل والنِّحَل"(4/ 118).
ونعيمِه، ومُساءَلةِ مُنكَر ونكير ،وتظاهرها عنه صلى الله عليه وسلم
(1)
. و ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنّ الآيات الدّالّة على ثبوت عذابِ القَبْر ونعيمه تدورُ على ثلاث آيات؛ كما هو صنيعُ الإمام البخاري
(2)
. وبَلَغَ بها ابنُ القيّم رحمه الله خَمْسَ آياتٍ
(3)
، وابنُ رجب سِتَّ آياتٍ
(4)
.
وبذلك يتقرر أنَّ هذه المسأَلةَ - أعني: عذابَ القَبْر ونعيمَه - وإنْ نصَّتْ الأحاديثُ عليها، وجَلَّتْها؛ فلا يعني ذلك خُلُوّ القرآن من الإشارة إليها.
ومن الدَّلائل التي أشارتْ إليها:
- قوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} غافر: 45 - 46
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في هذه الآية: (وهذه الآيةُ أصْلٌ كبيرٌ في استدلال أهل السُّنَّة على عذاب البَرْزَخ في القبور؛ وهي قوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا})
(5)
.
- قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)} الطور: 45 - 47
فهذه الآية ارتأى بعضُ أهلِ العلم ظُهورَها في الدّلالةِ على عذابِ البَرْزَخ. قال الإمام ابنُ أبي العِزّ: (وهذا يَحْتَمِلُ أنْ يُرادَ به عذابُهم بالقَتْل
(1)
انظر:"التبصيرفي معالم الدِّين"لابن جريرالطبري (211)"العُدَّة"لابن العطار (1/ 140)، و"حكم أهل القبور"لابن تيميَّة (36)"الرُّوح"لابن القيِّم (76)،و"نظم المتناثر"للكتَّاني (113).
(2)
انظر:"الجامع صحيح"،كتاب"الجنائز"،باب"ماجاء في عذاب القبر".
(3)
انظر:"الرُّوح"(108).
(4)
انظر:"أهوال القبور"(86 - 89).
(5)
"تفسير القرآن العظيم"(7/ 3079).
وغيرِه في الدنيا، وأن يُرادَ به عذابُهم في البَرْزَخ؛ وهو أَظْهَرُ؛ لأنّ كثيرًا منهم ماتَ ولم يُعَذَّبْ في الدنيا. أو المُرادُ بهِ: أعَمُّ من ذلك)
(1)
.
ومِنْ تلك الأدلّة القرآنية التي ألْمحَتْ إلى مسألتنا=قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)} الأنعام: 93
قال الإمام ابنُ قَيِّم الجوزيّةِ: (وهذا خطابٌ لهم عند الموت. وقد أَخْبَرت الملائكةُ - وهم الصادقون - أنهم حينئِذٍ يُجزَون عذابَ الهون. ولو تأخّر عنهم ذلك إلى انقِضاءِ الدنيا لَمَا صحَّ أن يُقالَ لهم: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ)
(2)
.
ومنها: قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)} السجدة: 21
وقد قال مجاهد رحمه الله في تفسير (الْعَذَابِ الْأَدْنَى): إنّه عذابُ القَبْر
(3)
،ونُسب هذا القول إلى ابن عباس والبراء بن عازب}
(4)
. ووجه الاستلال بها =أنَّ الله تعالى قد ذكر في الآية أنّ للكافرين عذابَيْنِ: أدْنى، وأكْبَر. فأخبَرَ أنّه يُذيقُهم بعضَ العذاب الأدنى؛ ليَرْجعوا فَفُهم أنّه قد بقيَ لهم من العذاب الأدنى بقيةٌ يُعذَّبون بها بعد عذاب الدنيا. ولهذا قال:(مِنَ الْعَذَابِ) ولم يقل: (ولنذيقنّهم العذابَ الأدنى)
(5)
(1)
"شرح العقيدة الطحاوية"(2/ 573) .
(2)
"الرُّوح"(109) .
(3)
أخرجه يحي بن سلام في"تفسيره"(2/ 692)،وابن جرير في"جامع البيان" (18/ 631 - ط/هجر) وانظر:"تفسير القرآن العظيم"لابن أبي حاتم (9/ 3110) .
(4)
انظر:"أهوال القبور"(85)،و"تفسير القرآن العظيم"لابن كثير (6/ 2774) .
(5)
انظر: الرُّوح (109) وانظر - في استيفاء الأدِلّة القرآنية، والكلامِ عنها -:"الأجوبة عن المسائل المستغْرَبة، لابن عبد البَرّ (189 - 190)،والرُّوح (109 - 110)،و"أهوال القبور" (85 - وما بعدها)،و"اليوم الآخر " لعبد المحسن المطيري (94 - وما بعدها) .
وانعقد الإجماعُ عندَ أهلِ الإسلام على ثبوتِ عذابِ القَبْر ونعيمِه، وأنّ الناسَ يُفْتَنُون في قبورهم. وقد نقلَ غيرُ واحدٍ الإجماعَ على ذلك:
قال الإمام ابنُ عبد البَرّ رحمه الله: (وليس من أئمة المسلمين وفقهائهم، وحمَلَة الآثار منهم؛ من الصحابة، والتابعين، ومَنْ بعدهم = أحدٌ يُنكِرُ فتنةَ القَبْر. فلا وجْهَ للاشتغالِ بأقاويلِ أهل البِدَع والأهواءِ المُضِلَّةِ)
(1)
.
وقال الإمامُ ابنُ القطّانِ: (وأجْمَع أهل الإسلام من أهل السُّنّة على أن عذاب القَبْر حقٌّ، وعلى أنّ مُنْكَرًا ونكِيرًا مَلَكَي القَبْر حقٌّ، وعلى أنّ النّاسَ يُفتَنُونَ في قبورهم بعدما يُحْيَون فيها؛ فيُقالُ له: مَنْ ربُّك؟ وما دينُك؟ ومَنْ نبيُّك؟ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} إبراهيم: 27)
(2)
.
وقال الإمام ابن العطَّار رحمه الله: ( .. إثبات عذاب القبْرِ، .. هو مذهب أهل السُّنَّةِ، وهو ممَّا يجبُ اعتقادُ حقيقتهِ، وهو ممَّا نقلته الأُمَّة مُتواترًا =فمن أنكر عذاب القبرِ، أو نعيمَهُ =فهو كافرٌ؛ لأنَّه كذَّب اللهَ تعالى، ورسولَه في خَبَرِهما)
(3)
.
والعذابُ أو النعيم عند أهل السُّنّةِ على روح الميت وبدَنِه. فالرُّوح
(1)
"الأجوبة عن المسائل المستغربة"(189)،وانظر:"الاستذكار"(8/ 118) .
(2)
"الإقناع"(1/ 52) .
(3)
"العُدَّة في شَرحِ العُمْدة"(1/ 140)،وابن العطَّار (654 - 724 هـ):هو علي بن إبراهيم بن داود، علاء الدين، أبو الحسن العطار الدمشقي الشَّافِعي، إمام حافظٌ زاهد تلمذ على الإمام النَّووي تخرَّج به، من تآليفه:"تحفة الطالبين في ترجمة الإمام النَّووي"،و"حكم صوم رجب و شعبان" =انظر:"معجم الشيوخ"للذهبي (2/ 7)،و"الأعلام"(4/ 251) .
تبقى بعد فراق البَدَن مُنَعَّمَةً، أو مُعَذَّبَةً. وأنّها تتّصل بالبدنِ أحيانًا، فيحصُل للبَدَنِ معها النعيمُ، أو العذابُ
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (العذابُ على النَّفْسِ والبدن جميعًا؛ باتِّفَاقِ أهلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ. تُنَعَّمُ النفسُ وَتُعذَّبُ منفردةً عن البدن، وتُعَذَّبُ متّصِلةً بالبدن، والبدنُ مُتّصل بها؛ فيكون النعيمُ والعذابُ عليهِما في الحال مجتَمِعَيْنِ، كما يكونُ للروح منفردةً عن البدن)
(2)
.
وقد اختلفت مواقف المخالفين لأَهل السُّنَّة من عذاب القبر، على النَّحو التَّالي:
القول الأوَّل: من ذهب إلى نَفْيِ (عذابِ القَبْر) مُطلقًا: كطوائف من الخوارِج
(3)
، وبشر المريسي
(4)
وبعضُ المعتزلة. ومِمّن اشتهر عنه ذلك: ضرار بن عمرو
(5)
. وأمّا بقية المعتزلة؛ فالذي يظهرُ: أنهم يُثْبِتُون ما دلّت عليه النصوص في الجُمْلة. وقد قال القاضي عبد الجبّار: (سألتُ أبا
(1)
"حكم أهل القبور"لابن تيمية (36)،فتاوى ابن حجر العسقلاني"ضمن مجموعة الرسائل المنيرية"(4/ 41) .
(2)
المصدر السابق (34) وقد نقله عنه ابن القيم في كتابه: الرُّوح (75) والصنعاني في: جمع الشتيت (55) .
(3)
انظر: "مقالات الإسلاميين"للأَشعري (127) .
(4)
بشر المريسي (؟ -218 هـ):هو بِشر بن غياث بن أبي كريمة العدوي مولاهم البغدادي المَريسِي، ينْتحِل مذهب جهم في الأُصول ومن مقالاته القول بخلق القرآن، وأن الإيمان هو التصديق، وكان على مذهب أبي حنيفة في الفروع، كفَّره عدد من الأئمّة، من مؤلّفاته: كتاب "الاستطاعة"،و"كفر المشبِّهة"=انظر:"السير"(10/ 199) .
(5)
ضرار بن عمرو (؟ -؟):هو القاضي، شيخ الضرارية، رأس من رؤوس المعتزلة، له مقالات خبيثة، خالف المعتزلة في بعض مقالاته، وله تصانيف في الرَّدِّ على الخوارج، المعتزلة، والرَّوافض=انظر:"السير"(10/ 544)،و"لسان الميزان"لابن حجر (4/ 342) .
عليٍّ عن عذاب القَبْر، فقال: سألتُ الشّحَّامَ
(1)
، فقال: ما مِنّا أحدٌ أنْكَره، وإنّما يُحكَى ذلك عن ضرار)
(2)
.
وقال القاضي أيضًا: (وجُمْلةُ ذلكَ - أي: عذابُ القَبْر -: لا خِلافَ فيه بين الأمة، إلا شيءٌ يُحْكَى عن ضرار بن عمرو؛ وكان من أصحاب المعتزلة، ثم التحق بالمُجْبِرة. ولهذا ترى ابنَ الرّاوَنْدي يُشنّع علينا، ويقول: إنّ المعتزلة يُنكِرون عذاب القَبْر، ولا يُقِرّون به)
(3)
.
وأمّا بِشْر المريسي؛ فقد ساق الخطيبُ البغدادي بسنده عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال:(دخل حميد الطوسي على أمير المؤمنين - وعنده بشر المريسي -، فقال أميرُ المؤمنين لحميد: أتدري من هذا يا أبا غانم؟ قال: لا. قال: هذا بشر المريسي. فقال حميد: يا أمير المؤمنين! هذا سيد الفقهاء، هذا قد رفع عذاب القَبْر، ومسألة منكر ونكير، والميزان، والصراط. انظر: هل يقدرُ أن يرفعَ الموت؟ ثم نظر إلى بشر، فقال: لو رفعت الموتَ كنتَ سيّدَ الفقهاء حقًّا)
(4)
.
ومِن هنا يتحصّل أنّ في نِسبة نفْيَ (عذاب القَبْر) إلى عموم المعتزلة = نظرًا. والإنصاف يقتضي عدم التشنيعِ على المذاهب بشذوذات أفرادِها؛ مما يتبرّأ جُلُّهم منها
(5)
.
(1)
أبو يعقوب، يوسف بن عبد الله بن إسحاق الشَّحّام. أحدُ رءوس المعتزلة، انتهت إليه رئاسة الاعتزال في البصرة. وكان من أصحاب أبي الهُذيل. وله كُتُبٌ في الردّ على= =مخالفيهم، وفي تفسير القرآن. عاش ثمانين سنة.="طبقات المعتزلة"لابن المرتضى (71 - 72) .
(2)
" طبقات المعتزلة " لأحمد بن يحيى المرتضى (72) .
(3)
"شرح الأصول الخمسة"(730) . وانظر:"فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة"(201)،و"كشف الفضايح اليونانية " للسَّهْروردي (148) .
(4)
"تاريخ بغداد"(7/ 60) .
(5)
انظُرْ - مثلًا - ممن غلط في نسبة نفي عذاب القَبْر ونعيمه إلى عموم المعتزلة: الأشعري في"مقالات الإسلاميين"(430)،وأبو المُظَفَّر الإسفرائييني في"التبصير في الدين"(66 - 67) .
القول الثاني: من ذهب إلى إنكار النعيم والعذاب على البدَنِ. وقَصر ذلك على الرُّوح؛ كالفلاسفة بناءً على أصْلهم في إنكار المَعادِ الجسمانيّ
(1)
.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (
…
قولُ من يقول: إنّ النعيمَ والعذابَ لا يكون إلا على الرُّوح، وأنّ البدن لا يُنَعَّمُ ولا يُعذَّبُ. وهذا يقولُه الفلاسفةُ المنْكِرون لِمَعادِ الأبدان. وهؤلاء كُفّارٌ بإجماع المسلمين)
(2)
.
وقد وافَقَهُم - فيما ذهبوا إليه - مِنْ أهل العلم: ابنُ عقيلٍ الحنبلي، وابنُ الجَوزيّ
(3)
، وابنُ حزْم رحمهم الله؛ فأنكروا أن يكون العذاب والنعيم لبدنِ الميت مع روحه. وقال ابنُ حزْمٍ بإِثباتِ تلك الأمور على " الرُّوح " فقط. قال:(فتنة القَبْر وعذابه، والمُساءَلة: إنَّما هي للروح فقط، بعد فراقه للجسد إِثْر ذلك؛ قُبِر، أو لم يُقبَر)
(4)
.
وقال أيضًا: (" فصْلٌ " وأنّ عذابَ القَبْر حقٌّ، تلقّاهُ الأرواحُ بعد فراقها للأجساد، وهي المسئولة المُجِيبَةُ)
(5)
. وسيأتي - بحول الله - بيانُ شُبهتِهم التي دعتهم إلى هذه الأقوال المخالِفة لدلالة الأخبار على ثبوت العذاب والنعيم، للروح والبدن.
والذي ينبغي توجيهُ النظر إليه: أن ابنَ حزْمٍ رحمه الله وإنْ وافقَ الفلاسفةَ في إنكار حصول العذاب والنعيم، ووافقهم في أصل الشبهة - التي سيأتي ذِكرُها - للبدن = إلاّ أنه رحمه الله لم يوافقهم في أصلهم الباطل؛ وهو: إنكار المعاد للأبدان، الذي ساقهم إلى إنكار العذاب والنعيم للبدن مع الرُّوح = فإنّه يخالفهم في ذلك تمام المخالَفة؛ بل إنّه
(1)
انظر:"المِلَل والنِّحَل" للشهرستاني (538 - 540)،و"تهافت الفلاسفة"للغزالي (308) .
(2)
"حكم أهل القبور"لابن تيميَّة (34) .
(3)
انظر: "أهوال القبور" لابن رجب (153) .
(4)
"الفَصْل"(4/ 117) .
(5)
"الدرة فيما يجب اعتقاده"(282) .
أطلق القول بتكفير من أنكر البعث الجُسمانيّ. وفي تقرير ذلك يقول: (اتفق جميعُ أهل القبلة - على تنابُذِ فِرَقِهم - على القول بالبعث في القيامة
(1)
، وعلى تكفير من أنكر ذلك. ومعنى هذا القول: أنّ لمكث الناس وتناسلهم في دار الابتلاء - التي هي الدّنيا - أمَدًا يعلمُه الله تعالى؛ فإذا انتهى ذلك الأمدُ ماتَ كلُّ مَنْ في الأرضِ، ثم يُحيِي الله عز وجل كلَّ من مات مُذْ خلق الله عز وجل الحيوان إلى انقضاءِ الأمد المذكور، وردّ أرواحَهم التي كانت بأعيانِها إلى أجسادها، وجمَعَهم في موقف واحدٍ، وحاسبهم عن جميع أعمالهم، ووفّاهم جزاءهم؛ ففريقٌ من الجنّ والإنس في الجنّة، وفريقٌ في السعير. وبهذا جاءَ
…
القرآنُ، والسُّنَنُ
…
)
(2)
.
القول الثالث: قولُ من يقول: إنّ البَرْزَخ ليس فيه نعيمٌ ولا عذابٌ؛ بل لا يحصل ذلك حتى تقوم القيامة الكبرى، وأنّ حالَ الميت كحال النائم والمَغْشِيّ عليه؛ لا يُحسّ بالضرب، ولا بغيره؛ إلا بعد الإفاقة)
(3)
.
القول الرابع: قولُ من يقول: إن العذاب والنعيم إنّما يقعان على الجسد فقط، وأن الله قادرٌ على خلق الإحساس فيه، دون افتقارٍ إلى الرُّوح. وهذا القول: نُسِب إلى ابن جرير الطبري رحمه الله، وجماعة من الكرّاميّة
(4)
.
ولعلّ من نَسب هذا القولَ إلى الإمام ابن جرير=فَهِمَه من مساق ردّ ابن جرير على مَنْ أنكر عذاب القَبْر، وذلك في قوله: ( .. فإنْ زعموا
(5)
أنه - تعالى ذِكْرُه- أخبَرَ من ذلك بما تصدّقه العقول = قيل لهم: فإذا كان خبره بذلك خبرًا يُصدِّقه العقل - وإن لم تكونوا عاينتم مثله
(1)
"المصدر السابق"(282) .
(2)
"الفصل"(4/ 137) .
(3)
انظر: "حكم أهل القبور"(35) و" فتح الباري"لابن حجر (3/ 301) .
(4)
انظر:"فتح الباري"(3/ 298 - ط/دار السلام) .
(5)
يعني المنكرين لعذاب القبر.
= فأجيزوا كذلك أنّ في عذاب الله - تعالى ذِكْرُه - ألمًا ولذّةً، وعلمًا في جسمٍ لا حياةَ فيه؛ وإنْ لم تكونوا عاينتم مثله فيما شاهدتُم)
(1)
.
وهذا القول من ابن جرير رحمه الله أراد به -والله أعلم - إلزامَ المُحيلين لوقوع العذاب أَو النَّعيمِ على بدن المقبور لِمُفارقةِ الحياةِ البدنَ؛ أنَّه كما أجزتم بقاء الحياة في الجسم الَّذي تَحْرِقُه النَّارُ في حال إحراقه تصديقًا منكم لخبر الله؛ ولأنَّ العقل لا يُحيله مع أنَّكم لم تُعاينوه في الشاهد=فيلزمكم كذلك التصديق بحصول الألم أو اللَّذة لبدن المقبور مع مفارقة الحياة المعهودةفي الدُّنيا له؛ فإن منعتم فأقيموا الفرق بين ما أجزتموه ومنعتموه=ولافرقَ.
وحتَّى يستبين لك أنَّ ما ذكره الإِمام ابنُ جرير إنَّما كان على سبيل الإلزام لا التقرير =يحْسُن سوق كلامه ليتحرّر مرادُهُ رحمه الله: (قيل لهم: أَو كلُّ مالم تُشاهِدوه، أو تُعاينوه، أَو مثله =فغيرُ جائزٍ كَونُهُ عندكم؟.
فإن قالوا: نعم
قيل لهم: أَفشاهدتم جِسْمًا حيًّا لا تُفارِقُهُ الحياةُ بالاحتراقِ بالنَّارِ؟
فإن زعَمَوا أَنَّهم قد شاهدوا ذلك وعاينوه =أَكذبتهم المُشاهدةُ مع ادِّعائهم ما لايخفى كذبُهم فيه. وإن زعموا أَنَّهم لم يُعايُنوا ذلك ولم يُشاهدوه =قيل لهم: أَفتُقرُّون بأنَّ ذلك كائنٌ، أَم تُنْكِرونه؟
فإن زَعَمُوا أَنَّهم يُنْكِرونَه؛ خرجوا مِنْ مِلَّة الإِسلامِ بِتْكذيبهم مُحكم القرآن. وذلك أنَّ الله تعالى ذِكره قال فيه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} فاطر: 36.
فإن قالوا: بل نُقِرُّ بأنَّ ذلك كائنٌ =قيل لهم: فما أنكرتم من وجود العلم وحِسِّ الأَلَمِ واللَّذةِ مع فَقْدِ الحياةِ؟ وإن لم تكونوا شاهدتم
(1)
"التبصير في معالم الدين"لابن جرير الطبري (210) .
ولا عاينتم عالِمًا، ولا حاسًّا إلَاّ حيًّا له حياةٌ، كما جاز عندكم وجود الحياة في جِسْمٍ تُحْرِقُه النَّارُ، وإن لم تكونوا عاينتم جِسْمًا تتعاقبه الحياةُ مع احتراقهِ بالنَّار.
فإن قالوا: إنَّما أَجزنا ما أجزنا من بقاء الحياة في الجِسمِ الَّذي تحرقه النار في حال إحراقه النار، تصديقًا مِنَّا بخبر الله جلَّ ثناؤه.
قيل لهم: فصدَّقتم بخبر الله -جلَّ ثناؤه -بما هو ممكنٌ في العقول كونُه=أو بما هو غيرُ ممكن فيها كونه؟ فإن زعموا أنَّهم أجازوا ما هو غير ممكن في العقول كونه =زعموا أنَّ خبر الله عز وجل بذلك تُكذِّب به العقولُ وترفع صحته، وذلك كُفْرٌ عندنا وعندهم. ولا إخالهم يقولون ذلك. فإن زعموا أنّه تعالى ذكره أخبر من ذلك بما تصدقه العقول .. ) .
ثم ساق كلامه الذي تقدم نقله عنه.
ومما سبق يُعلَم أنّ البَوْنَ لائح بين مقام الردّ والحِجاج الذي يَسْتدعي نصب الحديث فيما هو محل النزاع، وإمْطَار المُخالف بصنوف القوادح والإلزامات التي تكْشِف له فساد مذهبه، وكل ذلك يلزم منه عدم استيفاء العبارة فيما خرج عن أَصل الخلاف =وبين مقام التقرير الذي تُبسط فيه الدَّلائل، وتُحرَّرُ فيه المَسَائِلُ= وعلى هذا؛ فلا يمكن القطْع بنَحْلِ الإمام ابن جرير رحمه الله هذا القولَ، وأنّه عقَدَ قلبَه عليه. لانتفاء البرهان على ذلك. والله أعلم.