الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: سوق حديث: (لا يُدخل أَحدًا الجنَّة عَملُهُ)
.
وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(سدّدوا، وقارِبوا، وأَبْشِروا؛ فإنّه لا يُدخِل أحدًا الجنةَ عملُه) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا؛ إلاّ أن يتغمّدني اللهُ بمغفرةٍ ورحمةٍ) متفق عليه
(1)
.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (قارِبوا وسدّدوا، واعلموا أنّه لن ينجوَ أحدٌ منكم بعمله) قالوا: يا رسول الله، ولا أنت؟ قال: (ولا أنا؛ إلاّ أن يتغمّدني
(2)
اللهُ برحمته) متفق عليه
(3)
.
وعن جابر رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يُدخِلُ أحدًا منكم عملُه الجنةَ، ولا يُجيره من النار. ولا أنا؛ إلا برحمةٍ من الله) متفق عليه
(4)
.
تمهيد:
دلّت هذه الأحاديثُ على نفْي دخول الجنة بالعمل. وقد فهِمَ أهل السّنة والجماعة، ومن وافقَهم من شُرّاح الحديث، وغيرهم هذه الأحاديثَ من خلال المُحْكم من القواطع الشرعية المُثْبِتة لكون العمل سببًا للثواب، ولدخول الجنة.
(1)
رواه البخاري في كتاب " الرقاق" باب "القصد والمداومة"(1365 - رقم [6465]) ومسلم كتاب "صفات المنافقين وأحكامهم" باب " لن يدخل أحد الجنة بعمله"(4/ 2171 - رقم [2818]) واللفظ له.
(2)
يتغمدني، أي: يُلْبسنيها ويسترني بها ="النِّهاية"(678).
(3)
رواه البخاري كتاب"الرقاق" باب "القصد والمداومة على العمل"(1365 - رقم [6463]) ومسلم في: كتاب "صفات المنافقين وأحكامهم" باب " لن يدخل أحد الجنة بعمله"(4/ 2169 - رقم [2818]).
(4)
رواه مسلم: كتاب "صفات المنافقين وأحكامهم" باب "لن يدخل أحد الجنة بعمله (4/ 2171 - رقم [2817]).
ومن تلك الدلائل المثبتة:
قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} الأعراف.
وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} الحاقة.
وقوله تعالى: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)} السجدة.
وقوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} الواقعة.
فالحديث جارٍ على مقتضى هذه الأُصُول، وليس مناقِضًا لها؛ للتبايُن بين الموردين: موردِ النّفْي - الواقع في الحديث - ومورد الإثبات. فالاتفاق حاصلٌ على هذا القدر؛ لكنهم اختلفوا في تحرير مناط النّفْي الوارد في هذه الأحاديث، والجمع بينها وبين تلك الأصول = على أقوال:
القول الأول: أنّ النفي في قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنَّه لا يُدْخل أَحدًا الجنَّة عملُهُ) هو =كون العمل عوضًا ومقابلًا لدخول الجنة؛ دون رحمة الله وتفضّله. (فالباء) الداخلة على (العمل) هي (باء) الثمن والعِوض. وأَمَّا المُثبت في الآيات المُتقدِّمة؛ فهو كون العمل سببًا لدخول الجنّة (فالباء) الداخلة على (العمل) في تلك المواطن هي (باء) السببية.
وفي بيان هذا القول؛ يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: «لا مُناقضة بين ما جاء به القرآن وما جاءت به السنّة؛ إذ المُثبت في القرآن ليس هو المنفي في السنّة. والتناقض إنما يكون إذا كان المثبت هو المنفي؛ وذلك أن الله تعالى قال: {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ .... }
…
فبيّن بهذه النصوص أن (العمل) سببٌ للثواب، و (الباء) للسبب
…
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخُل أحدٌ منكم الجنّةَ
بعمله) فنفى بهذا الحديث ما قد تتوهّمه النفوس من أنّ الجزاء من الله عز وجل؛ على سبيل المعاوضة والمقابلة؛ كالمعاوضات التي تكون بين الناس في الدنيا. فإن الأجير يعمل لمن استأجره، فيعطيه أجره بقدر عملِه؛ على المعاوضة، إنْ زاد زادَ أجرتَه، وإنْ نقصَ نقَصَ أُجرته؛ يستحقّها كما يستحقّ البائع الثمن = فنفى صلى الله عليه وسلم أن يكون جزاءُ الله وثوابه على سبيل المعاوَضة، والمقابلة، والمعادلة. و (الباء) هنا كالباء الداخلة في المعاوضات
…
»
(1)
.
اختار هذا القولَ جمهرة من أهل العلم؛ كابن القَصَّاب
(2)
، والقاضي عياض
(3)
،والنَّووي
(4)
،وابن القيّم
(5)
، وابن الوزير
(6)
، والمَقْريزي
(7)
، والأمين الشنقيطي
(8)
، وغيرهم.
القول الثاني: أنّ أصل دخول الجنّة والخلود فيها يكون برحمة الله تعالى؛ وهذا ما دلّت عليه تلك الأحاديث. وبالأعمال يقع التفاوت في المنازل؛ كما دلّت على ذلك الآيات.
وهذا القول هو ظاهر اختيار سفيان بن عيينة؛ حيث قال: «كانوا
(1)
رسالة في دخول الجنة (1/ 145 - 148 - ضمن جامع الرسائل بتحقيق محمد رشاد سالم) .
وانظر كذلك: " الردّ على من قال بفناء النار"(ص 85) و " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"(ص 259) .
(2)
انظر: "نكت القرآن (3/ 721 - 722) .
(3)
انظر: "إكمال المُعلِم"(8/ 353) .
(4)
انظر: "حادي الأرواح"(1/ 176) .
(5)
انظر: "شرح صحيح مسلم"(17/ 166) .
(6)
انظر: "العواصم والقواصم"(7/ 299) .
(7)
انظر: "تجريد التوحيد المفيد"(108 - 109)،والمقريزي (766 - 845 هـ):هو أحمد بن علي بن عبدالقادر المقريزي، تقي الدين أبو العباس الشافعي، إماما متفنِّنا متبحرا في التاريخ، من. مؤلَّفاته:"الخطط"،و"شارع. النجاة"=انظر:"البدرالطالع"(95)،و"الأعلام (1/ 177) .
(8)
انظر: "العذب النمير"(3/ 270 - 273) .
يقولون: ينجون من النار بعفوه، ويدخلون الجنّة بالرحمة، ويتقاسمون المنازل بالأعمال»
(1)
وهو اختيار ابن بطّال
(2)
، وابن الزاغوني
(3)
.
وهذا القول لا يتماسك مع ما جاء من التصريح في الآيات؛ بجعل المُقتضي للدخول =العمل.
القول الثالث: أن العملَ من حيث هو عملٌ لا يستفيد به العامل دخولَ الجنّة؛ ما لم يكنْ مقبولًا. ومردّ القبول من الله؛ فإن حصل فبرحمةٍ منه إذا قَبِلَه.
وهذا القول هو اختيار الحافظ ابن حجر رحمه الله؛ حيث قال: (ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جوابٌ آخر؛ وهو: أن مجمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخولَ الجنّة ما لم يكن مقبولًا. وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى؛ إنما يحصل برحمة الله لمن يُقبل عملُه = وعلى هذا؛ فمعنى قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} النحل: 32 أي: تعملونه من العمل المقبول. ولا يضرّ بعد هذا أن تكون (الباء) للمصاحَبة، أو للإلصاق، أو المقابلة. ولا يلزم من ذلك أن تكون سببيّة)
(4)
.
وممّا يُضعِف هذا الاختيار: أنْ ليس أمْرُ القبول وحده مرهونًا برحمة الله؛ بلْ يَسْبِق ذلك التوفيق إلى العمَل؛ فهو في حقيقة الأمر يرجع إلى رحمة الله وفضله أنْ أنهض العامل إليه، ويسّره له
(5)
.
(1)
نقله عنه ابن تيمية. انظر: "جامع الرسائل"(1/ 151)، وابن القيم في "حادي الأرواح"(1/ 176) .
(2)
انظر: "شرح صحيح البخاري"(10/ 180) .
(3)
انظر: "الإيضاح في أصول الدين"(ص 550) .
(4)
"فتح الباري"(11/ 358 - ط/دار السلام) .
(5)
انظر: "الوعد الأخروي"(2/ 657) .
لذا كان القول الأوّل- والله أعلم - أسدُّ وأولى بالترجيح.
وبعد تجلية موقف أهل السنة والجماعة، ومن وافقهم في هذه المسألة؛ تَجْدُر الإشارة إلى موقف المخالفين لهم في تناول هذه الأحاديث. وهي لا تخرج عن موقفين:
الموقف الأول: من صحح الحديث من جهة الثبوت؛ لكن حمَله على غير ظاهره ومعناه المراد؛ بأنْ جعل النّفْي الواردَ للعمل هو نَفْيٌ لسَبَبِيَّتِه لدخول الجنّة؛ فلا ارتباط له بالجزاء. فالعمل-عندهم- لا يعْدو أن يكون علامةً وأمارة يحصُل عندها الثواب به.
وفي تقرير هذا المذهب يقول الرَّازي: «العملُ لا يوجب دخولَ الجنّة لذاته، وإنما يُوجّه لأجل أن الله تعالى - بِفَضْلهِ- جعله علامةً عليه، ومعرفةً له»
(1)
.
ويقول إبراهيم البيجوري: «فليست الطاعةُ مستلزمةً للثواب، وليست المعصية مستلزمة للعقاب؛ وإنما هما أمارتان: تدلّان على الثواب لمن أطاع، والعقاب لمن عصى»
(2)
.
الموقف الثاني: من طعن في الحديث؛ بناءً على أنه لا يمكن دخول الجنّة إلا إذا كان على جهة الاستحقاق مجرّدًا. فالثواب والجزاء عِوضٌ عنِ الأَعمال، وعِدْلٌ لها.
والذاهبون إلى ذلك هم المعتزلة.
وفي بيان موقفهم يقول الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَنُودُوا
(1)
"مفاتيح الغيب"(5/ 244) .
(2)
"تحفة المريد"(ص 105) وانظر: "طوالع الأنوار"، للبيضاوي (ص 228) .
أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} الأعراف: 43: «بسبب أعمالكم؛ لا بالتفضّل؛ كما تقول المُبْطِلَةُ»
(1)
.
ويأتي في المطلب القادم -بحول الله- مَزِيدُ بسطٍ لأقوالهم في هذا الباب، مع بيان الأصول التي انطلق منها كلا الفريقين.
(1)
"الكشّاف"(364) . وانظر: "الإيضاح في أصول الدين"لابن الزَّاغوني (ص 550)، و"مفاتيح الغيب"للرَّازي (5/ 244) .