الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأوَّل: سوق حديث (احتج آدم وموسى)
عن أَبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احتجّ آدم وموسى. فقال موسى: يا آدمُ، أنت أبونا، خيّبتنا
(1)
، وأخرجتنا من الجنة. قال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخَطَّ لك بيده: أتلومني على أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة
(2)
؟!
فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى -ثلاثًا-) متفق عليه
(3)
(1)
خيّبتنا: مِن الخيبة، فالمراد به: الحِرْمان. والمعنى: أيْ كنت سببًا في حرماننا من البقاء في الجنة = انظر: "فتح الباري"(11/ 618).
(2)
اختلف العلماء في المراد بتقدير الله لمعصية آدم قبل خلقه بأربعين سنة، ومَنشأ الاختلاف ما قد يَعْرضُ للوهم أن الحديث معارض لما ثبت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كما في صحيح مسلم (4/ 2044 - رقم [2653]) أن كتابة المقادير= =متحققة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، إذْ إنه يلزم من ذلك أن تقدير معصية آدم متأخر عن كتابة المقادير، فلا يشملها التقدير المتقدم.
= والحاصل: أنه يمكن الإجابة عن هذا المعارض بالتالي:
أن تقدير معصية آدم مخصوص من التقدير العام المتقدم، فتكون الكتابة حاصلة قبل خلق آدم بأربعين سنة. وقد يكون وقوعها مدة لبثه طينًا إلى أن نُفِخت فيه الروح؛ على ما رُوِيَ أن مابين تصويره ونفخ الروح فيه كان مدة أربعين سنة. وكلا التقديرين العام والخاص قد أحاط الله بهما علمًا = وهذا القول اختاره ابن الجوزي رحمه الله. انظر:"كشف مشكل أحاديث الصحيحين"(3/ 383).
أن هذا التقدير حاصل بعد التقدير الأول، والتقدير الأول قد انتظمه واشتمل عليه، فلم يخرج عنه = وهذا اختيار ابن قيم الجوزية = انظر:"شفاء العليل"(1/ 82).
أن هذه الكتابة هي الكتابة في التوراة، كما ورد في بعض طرق الحديث:(فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عامًا، قال آدم: فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} طه: 121 قال: نعم) هذا اختيار المازري = انظر: "المعلم"(3/ 178).
(3)
رواه البخاري في كتاب: "القدر"، باب "تحاج آدم وموسى عند الله"(1392 - رقم [6614])، ومسلم كتاب "القدر" باب "حجاج آدم وموسى عليهما السلام" (4/ 2042
…
- رقم [2652]).
وفي لفظٍ لمسلم
(1)
تفرّد به: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما. فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأَسْجَد لك ملائكته، وأسكنك في جنّتِهِ = ثُمَّ أَهبطت النَّاسَ بخطيئتك إلى الأرض. فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته، وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيًا، فبكم وجدتَ اللهَ كَتبَ التوراة قبل أن أُخلَق؟ قال موسى: بأربعين عامًا. قال آدم: فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} طه: 121؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أنْ عملت عملًا كتبه الله عليَّ أن أَعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنةً) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فحَجَّ آدمُ موسى) .
* **
تمهيد:
يتحرّر القول في هذا الحديث في نَظَرين:
النَّظَر الأول: في صحّة الحديث، وبلوغه حد التواتر.
النظر الثَّاني: في جريان ظاهره على مقتضى الأصول، وعدم مخالفته لها.
وضبطُ القولِ في النَّظرِ الأولِ، بأن يقال:
اتفق أَهل السنة والجماعة على صحة الحديث، وأنه لا مطعن فيه؛ لا من جهة إسناده، ولا من جهة متنه. وبارتقائه إلى درجة التواتر وإِفادةِ العلم= ينحسم الخوض في صحته.
وفي تقرير الصحّة يقول الإمام الدارمي رحمه الله: ( .. وهذه أَحاديث صِحَاح ثابتةٌ لا مَدْفع لها، ولهذا الحديث طُرُقٌ عن أبي هريرة.)
(2)
.
(1)
كتاب "القدر" باب "حجاج آدم وموسى عليهما السلام"(4/ 2043 - رقم [2652]) .
(2)
"الرد على الجهميَّة"(70 - 71) .
وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: (وهذا حديث صحيح ثابت من جهة الإسناد، لا يختلف في ثبوته جماعةٌ من التابعين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخرى من رواية الثقات الأئمة الأثبات)
(1)
.
وممن نصَّ على بلوغه مبلغ التواتر الإمامُ ابن كثير رحمه الله، فقال:(ومن كذَّب بهذا الحديث فمعانِد؛ لأنه متواتر عن أبي هريرة رضي الله عنه. وناهيك به عدالةً، وحفظًا، وإتقانًا. ثم هو مرويٌّ عن غيره من الصحابة .. )
(2)
.
وأَمَّا النَّظرُ الثَّاني: فإنَّ الحديثَ جارٍ على مقتضى الأُصُول الشرعية، ليس مخالفًا لشيءٍ منها؛ حتى قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله:(هذا الحديث من أَوضح ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر ودفع قول القدرية)
(3)
.
ووجه ما ذكره الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: أنّ هذا الحديثَ قد انتظم معاقد الإيمان بالقدر، بدلالة المنطوق، والمفهوم.
فأما دلالته على هذه المعاقد بالمنطوق: فمن جهة أنه وقع التنصيص في الحديث على كتابة الله السابقة لمعصية آدم عليه السلام، ولِمَا ترتّب عليها من مصيبة الإخراج.
والمدلول عليه من هذه الأصول بدلالة المفهوم: تحقُّق العلمِ السَّابِق للكتابة. وأيضًا؛ فإن في لَوْم موسى لآدم عليهما السلام ما يُشعِر بدلالة المفهوم على الأمور التالية:
الأول: خلْقُ الله لهذه المعصية، ولِما انبنى عليها بعد ذلك من الإخراج. ولازم هذا الخلق، هو:
(1)
"التمهيد"(14/ 371) .
(2)
"البداية والنهاية"(1/ 198) وانظر: "العواصم والقواصم" لابن الوزير (8/ 362) .
(3)
"التمهيد"(14/ 375) .
الثاني: سبْق المشيئة له؛ إذ المشيئة تَسْبق الخلقَ، ولا خلق بلا مشيئة تستلزمها. وكما أن الخلق يستلزم المشيئة، فإن المشيئة تستلزم:
الثالث: سبْق العلم بها؛ إذ يستحيل إيجاده -جل وعلا- للأشياء مع الجهل؛ لأن إيجاد الأشياء بإرادة الرب تبارك وتعالى. وهذه الإرادة تستلزم تصوُّر المراد، فالإرادة مستلزمة للعلم قطعًا.
الأمر الرابع: إثبات أن للعبد فعلًا اختياريًا ينسب إليه، ووجه هذا اللزوم، أنه لا معنى من لوم موسى لآدم عليهما السلام على عَمَلٍ لا اختيار له فيه، ولم يَجْرِ احتجاجه عليه السلام بالقدَر لينفي اختياره؛ إذ لو كان كذلك للزم أيضًا أن يكون احتجاجه هو أيضًا لا اختيار له فيه؛ فلا تقوم الحجة إذَنْ. وسيأتي بيان فساد من فَهِم هذا الحديث على خلاف ظاهره.
والمقصود: أنَّ هذا الحديث، هو كما قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله. متضمِّنٌ لمراتب الإيمان بالقدر التي انعقد إجماع أهل السنة عليه. وخلاصتها:
المرتبة الأولى: إثباتُ عِلمِ الله تعالى المُحيطِ بكل شيء، قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} الملك: 14. وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} الأنعام: 59 - 60.
المرتبة الثانية: إثبات أن الله كَتب كلّ ما يكون من حين خلق القلم حتى قيام الساعة وأحصاه؛ فلا يخرج شيء عما كتبه. ومن الدلائل القرآنية على إثبات هذا الأصل: قول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} الحديد: 22.
فهذان الأصلان لم ينازع فيهما أحدٌ من أهل القبلة؛ إلَّا طائفتان القدَرية الغلاة والفلاسفة، فأما القدرية الغلاة فإنهم أنكروه وزعموا أنَّ الأمر أُنُف - أي: مستأنف لم يجر به قَدَر سابق من الله عز وجل؛ لذا تبرأ منهم ابن عمر رضي الله عنه، كما ثبت ذلك عنه في الصحيح
(1)
. وقد نَصّ الأئمة كالشافعي وأحمد على تكفير من أنكرهما
(2)
. وأَمَّا الفلاسفةُ فقد ذهب طائفة منهم كـ"ابن سينا" إلى أنَّ الله تعالى لا يعلم الكُليَّات والجُزئيات، إلاّ على وجه كُلِّيٍّ يتقدَّس عن الزَّمان والدهر
(3)
.
المرتبة الثالثة: إِثبات المشيئة النافذة في خلقه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وجميع ما يقع من الحوادث فقد شاءه وأراده الله تعالى قدَرًا، ولم يُرِدْه شرعًا؛ لأن الإرادة الخَلْقية الكونية لا تستلزم رضا الرب ومحبته.
ومن دلائل هذا الأصل: قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} المائدة: 48،وقوله تبارك وتعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} الكهف: 23 - 24،وقال:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)} آل عمران: 6 وقال تبارك وتعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} هود: 107
المرتبة الرابعة: إثبات خلق الرب تبارك وتعالى، فهو الخالق وما سواه مخلوق. قال تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} الزمر: 62 وقال {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} الفرقان: 2
(1)
أخرجه مسلم كتاب "الإيمان"،باب"الإيمان والإسلام والإحسان"(1/ 36 - رقم [8]) .
(2)
انظر: "درء التعارض"(9/ 396)،و"جامع العلوم والحكم"(60) .
(3)
انظر:"الإشارات والتنبيهات"(3/ 295)،وفي حكاية أقوال الفلاسفة في علم الله=انظر:"نهاية الأقدام"للشهرستاني (215) و"درء تعارض العقل والنقل"(9/ 399 - وما بعدها) .
وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} القمر: 49
(1)
.
وقد نازع في هذه المرتبة من القدريةِ؛ المعتزلة، فأنكروا عموم مشيئته وخلقه -كما سيأتي تحريره بإذن الله-.
الأصل الخامس: إثبات أن للعبد مَشيئةً، وقُدرةً، وفعلًا تُنسب إليه حقيقتُه. وكل ذلك ليس خارجًا عن إرادة الله عز وجل الكونية ومشيئته. ويتجلَّى هذا الأصل في أنواع الدلائل التي تضمنها القرآن الكريم. ومن تلك الأنواع:
1 -
إسناد الفعل إليه. ومن أفراد هذا النوع: قول الرب تبارك وتعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)} النحل.
2 -
إسناد العَمَل إليه. قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)} البقرة.
3 -
إسناد الإيمان إليه. ومن ذلك: قول الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)} الأعراف: 52 وقال سبحانه {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)} النحل.
4 -
إسناد الكفر إليه. ومن ذلك: قول الرب تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)} آل عمران، وقال سبحانه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)} الفرقان.
(1)
انظر: "شفاء العليل"(1/ 133 - 226) .
5 -
إِسناد التقوى إليه. قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)} الأنعام.
6 -
إسناد الصنع إليه. قال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} المائدة: 63
وأنواع الدَّلائل المثبِتة لهذا الأصل كثيرة، يَصْعُب تقصِّيها في هذا المقام؛ فضلًا عن الإلمام بآحادها.
وبهذه الأصول نطق أهل السنة والجماعة، وانعقد إجماعهم. قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: (قد أجمع المسلمون قبل حدوث الجهميَّة والمعتزلة والحرورية على أن لله علمًا لم يزَلْ .. وعِلْم الله سابق في الأشياء
…
= فمن جَحَدَ أن لله علمًا؛ فقد خالف المسلمين، وخرج عن اتفاقهم)
(1)
.
وقال ابن القطان: (وأجمعوا على أن الإقرار بالقدر مع الإيمان به واجب .. وأجمع المسلمون على قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وعلى قول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن
…
وأجمعوا على أنه تعالى قدّر أفعال جميع الخلق، وآجالهم، وأرزاقهم قبل خلقه لهم، وأثْبت في اللوح المحفوظ جميع ما هو كائن منهم. وأجمعوا على أنه الخالق لجميع أفعال العباد، وأرزاقهم، والمنشئ لجميع الحوادث وحده؛ لا خالق لشيءٍ منها سواه)
(2)
.
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (وممّا اتفق عليه سَلَفُ الأمة وأئمتها مع إيمانهم بالقضاء والقدر .. أن العباد لهم مشيئة وقُدرةٌ، يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه، مع قولهم: إن العباد لا يشاءون إلا أن يشاء الله)
(3)
.
(1)
"الإبانة"(109)، وانظر:"درء تعارض العقل والنقل"(9/ 396) .
(2)
"الإقناع في مسائل الإجماع"(1/ 76 - 82) .
(3)
"مجموع الفتاوى"(8/ 459) .
فتبيّن بَعْدُ ما انطوى عليه حديث المحاجّة من الأصول العظيمة في هذا الباب التي قام الإجماع عليها؛ إلا أَنَّ هناك قَدْرًا من الحديث جالت فيه فهوم أهل العلم رحمهم الله؛ وهو حقيقةُ ما وقع عليه لَوْم موسى، وحقيقةُ ما احتج به آدم عليهما السلام. ومنشأ الخلافِ - والله أعلم - أَمران:
الأوَّل: أنَّ سائرَ الرِّوايات وقع فيها ذكر خطيئة آدم الواقع في سياق لوم موسى عليه السلام له.
الآخر: أَنَّ في الرِّواية التي تفرّدَ بها مُسلمٌ، احتجاج آدم عليه السلام بالقدر على الذنب.
وحاصل هذه الأنظار تتمحور في ثلاثة أنظار:
النظرُ الأوّل: أنّ موسى لامَ آدم عليهما السلام على الذّنْبِ. وأرباب هذا النظر تَشعّبت أقاويلهم في وجه غَلَبة آدم عليه السلام بالحُجَّةِ، على أقوال:
القول الأوَّل: أَنَّ آدم احتج بالقدر على الخطيئة، وهذا خاص به؛ لأَنَّ اللومَ حاصلٌ بعد التَّوبةِ، وقبولِها =فحَسُن من آدم هذا الاحتجاج، ولا يصح من غيره؛ لأنه لا يعلم أقُبِلت توبته أم لا = وهذا القول، ذهب إليه الإمام القنازعي، وتلميذه ابن عبد البر -رحمهما الله تعالى-. وفي تقرير هذا القول، يقول القنازعي:(وإنما صَحّت الحُجّةُ في هذه المسألة لآدم على موسى؛ من أجل أن الله عز وجل قد غفر لآدم ذنبه، وأما غيره من النَّاس فلا يحتج على معصية؛ بأن يقول: إن الله قد قدّرها عَليَّ؛ إذ لا يدري كيف ينجو منها في الآخرة .. فكلُّ مَنْ لم يَعْلم هل غُفِرَ ذنْبُهُ أم لم يغفر؟ لم تقم له حجة؛ بأن يقول: إنّ الله قد قدَّره عليَّ)
(1)
.
فاللوم عند أصحاب هذا القول كان على نفس المعصية كما يبدو، فكان الاحتجاج بالقدر عليها.
(1)
"تفسير الموطأ"(2/ 740) . و انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 373) .
القول الثاني: أَنَّ اللوم والمحاجّة كانا في غير دار التكليف، وهذا القول اختاره زكريا الأنصاري
(1)
، وأحد قَوْلَي ابن الملك
(2)
.
القول الثالث: أنَّ آدمَ غلبَ بالحُجَّةِ موسى عليهما السلام؛ لأَنَّه أَبٌ وموسى ابنٌ = وليس للابن أن يلوم أباه. وهذا القول حكاه القرطبي، ولم يُسمِّ قائله. ونقله عنه الحافظ ابن حجر
(3)
.
القول الرَّابع: أنه إنما حَجَّه لأَنَّ الذَّنْبَ كان في شَريعةٍ واللوم في شريعة
(4)
.
النَّظَرُ الثَّاني: أنَّ لوم موسى لأبيه آدم عليهما السلام كان على مصيبة الإخراج لا على الذنب. وهذا القول نَصَرَه أبو محمد ابن حزم
(5)
، واختاره أيضًا ابن تيمية، وابن كثير-رحمهما الله-
(6)
. يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في بيان ذلك: (الصواب في قصة آدم وموسى رضي الله عنه: أن موسى لم يَلُمْ آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل، لا لأجل أن تارك الأمر مذنبٌ عاصٍ)
(7)
.
النَّظَر الثالث: تصحيح النَّظَرَين. أي = تصحيح جواز أن يكون لَوْمُ موسى عليه السلام على المصيبة. ويمكن أن يكون اللوم متوجهًا على الذنب؛ لكونه سبب المصيبة. وهذا القول ذهب إليه ابن قيم الجوزية. فقد قال -بعد أن ساق جواب شيخ الإسلام-: (وقد يتوجّه جواب آخر؛ وهو: أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع، ويضرّ في موضع. فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته؛ كما
(1)
انظر: "منحة الباري"(8/ 539) .
(2)
انظر: "مبارق الأزهار"(3/ 9) .
(3)
انظر: "فتح الباري"(11/ 622) .
(4)
انظر: "شفاء العليل"(1/ 83)، وفتح الباري (11/ 622) .
(5)
انظر: "الإحكام في أصول الأحكام"(1/ 26) .
(6)
انظر: "البداية والنهاية"(1/ 198) .
(7)
"مجموع الفتاوى"(8/ 319) .
فعل آدم عليه السلام. فيكون في ذِكْر القدر إذْ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذَّاكرُ والسَّامِعُ؛ لأنَّه لا يدفع بالقدَر أمرًا ونهيًا، ولا يُبطل به شريعة؛ بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقُوَّةِ .. وأمَّا الموضعُ الذي يضرّ الاحتجاج به = ففي الحال، أو المستقبل؛ بأن يرتكب فِعْلًا مُحرَّمًا، أو يترك واجبًا، فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته وإصراره، فَيبْطل بالاحتجاج به حقًا، ويرتكب باطلًا = ونكتة المسألة: أنَّ اللومَ إذا ارتفع؛ صَحَّ الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعًا؛ فالاحتجاجُ بالقَدَرِ باطلٌ)
(1)
.
واختار هذا الجمع أيضًا الإمام ابن الوزير رحمه الله
(2)
.
ولوم موسى عليه السلام على الذنب لكونه سببًا لإخراج آدم والذرية من الجنة؛ لا أنّه لَوْمٌ على الذنب لِذاتِه؛ كما ذهب إليه أصحاب النَّظرِ الأوَّل. وهذا هو الفارق بين النظرتين.
وخلاصة القول: أنّ النَّظر الثالث متضمن للنَّظرِ الثَّاني وزيادة، وكلاهما له ما يدل عليه.
وأَمَّا النظر الأول فَمرْجوحٌ؛ ذلك أن موسى عليه السلام لم يَنُطْ لَوْمَه بالذنب، ولم ينطق بذلك. فإناطة اللوم بذلك مع سكوت النص عنه دعوى لا دليل عليها.
فإذا استبان لنا بطلان هذا الوجه من النظر = لزم من ذلك بطلان ما اندرج تحتها من أقوال. وزيادة في البيان، يقال:
أما القول الأول: فلا يصح؛ لثلاثة أوجهٍ:
(1)
"شفاء العليل"(1/ 94 - 95) .
(2)
انظر: "الروض الباسم"(2/ 465) .
الوجه الأول: أن آدم عليه السلام لم يَجْرِ على لسانه ذِكْر الذنب والتوبة منه، ولا جعل ذلك حجة على موسى عليه السلام.
الوجه الثاني: عِلْمُ موسى عليه السلام بالله وبدينه يحول دون لوم آدم عليه السلام على ذنب قد أخبره الله تعالى أن فاعله تاب منه، وأنه اجتباه بعدُ، وهَداه.
الوجه الثالث: ما سبق ذكره من كون ذلك يستلزم إلغاء ما علق به النبي صلى الله عليه وسلم وجه الحجة، واعتبار ما ألغاه = وما كان كذلك؛ فيسقط الاعتداد به
(1)
.
وأما القول الثاني: وهو أن اللوم والمحاجة كانا في غير دار التكليف .. الخ = فلا يَصحُّ أيضًا؛ لأن آدم لم يتطرق لذكر دار التكليف، فالله يلوم من استحق اللوم في غير دار التكليف فيلومهم بعد الموت، ويلومهم يوم القيامة
(2)
.
وأما القول الثالث: وهو أن آدم غلب بالحجة لكونه أبًا لموسى .. الخ فقول لا يصمد لسهام النقد، فإن حُجة الله يجب المصير إليها مع من كانت؛ سواءً مع الأب، أو الابن، أو غيره من الخلق
(3)
.
وأما القول الرابع: وهو أن آدم غَلَبه؛ لأَنَّ في شريعته أَنَّ المُخَالف يجوز له أن يحتج بسابق القدر .. الخ =فدعوى لا دليل عليها؛ إذ العِلمُ باختلاف ذلك في الشريعتين موقوف على النقل، ولا نقل = فبطل هذا القول.
وبعد سَوْق أنظار أهل العلم في القدر المختلف فيه من الحديث = يتجلّى أنّهم مع اختلافهم في هذا القدر متفقون على أن حقيقة ظاهره لا تدل على تسويغ الاحتجاج بالقدر على المعايب، وإسقاط الملامة عمّن
(1)
انظر:"مجموع الفتاوى"(8/ 319،321)، و"شفاء العليل"(1/ 84) .
(2)
انظر:"شفاء العليل"(1/ 84) .
(3)
انظر: "المصدر السابق"(1/ 84) .
أذنب؛ لأن ظاهره لا يدل على ذلك. في حين أن المخالفين لأهل السُّنة والجماعة من القدريَّة والجبرية فهموا من الحديث ما هو خلاف ظاهره الحقيقي، فتقاطعت فهومهم على أن الحديث يدل بظاهره على صحة الاحتجاج بالقدر على المعايب. وعلى هذا الاعتبار = يسقط اعتبار التكليف والمؤاخذة على الجُرْم.
ومع تحقق الاتفاق في هذا القدر = إلا أنّ كلتا الفرقتين التزمت نقيض ما التزمته الفرقة الأخرى:
فالتزمت المعتزلة ومن وافقها رَدّ الحديث والطعن في دلالته. وممن اشتهر عنه التصريح بالردِّ: أبو علي الجُبَّائي
(1)
.
وأما الجبرية فلم أَظفر بنصٍّ يُبيِّن استدلالهم بهذا الحديث على ما ذهبوا إليه من الاحتجاج بالقدر على فِعل المعاصي، وإسقاط الملامة. والذي نقله عنهم أصحاب المقالات وشرّاح الحديث؛ هو: نِسبةُ ذلك إلى عموم المذهب، لا إلى خصوص أعيانهم. وإن كان لازمًا لمذهبهم الاستدلال بهذا الحديث -كما سيتضح من خلال أطاريحهم-.
يقول الحَلَاّج
(2)
مقررًا مذهب الجبر:
ما حيلةُ العبدِ، والأقدارُ جاريةٌ
…
عليه في كُلّ حالٍ، أيّها الرائي
ألقاهُ في اليمّ مكتوفًا وقال له
…
إيّاك إيّاك أنْ تبتلّ بالماء!
(3)
(1)
انظر "مجموع الفتاوى"(8/ 304) . وأَبو علي الجُبَّائي (؟ -303 هـ):هو محمد بن عبدالوهاب البصري، من شيوخ المعتزلة، من تصانيفه "الأصول"،و"النَّهي عن المنكر"=انظر:"السير"(14/ 183) .
(2)
الحلاج (ت 309): هو الحسين بن منصور بن مَحْمِي، أبو عبد الله، ويقال: أبو مغيث. صوفي رُمي بالزندقة والشعبذة، والقول بالحلول. أَفتى القضاة بقتله على الزندقة فقتل ببغداد. من مؤلفاته:"طاسين الأول" و "ظل ممدود"، و "الأبد والمأبود" = انظر "تاريخ بغداد"(8/ 688 - 720) و "سير أعلام النبلاء"(14/ 313 - 354) .
(3)
"ديوان الحلاج"(179 - مع شرحه) .
وممن انتحل هذا المذهب: ابنُ عربي الطائي
(1)
؛ حيث يقول: ( .. كل حُكْمٍ ينفذ اليوم في العالم أنه حكم الله عز وجل، وإن خالف الحكم المقرر في الظاهر المسمى شرعًا؛ إذ لا ينفذ حكم إلا لله في نفس الأمر؛ لأن الأمر الواقع في العالم إنما هو على حكم المشيئة الإلهية، لا على
(2)
حكم الشرع المقرر؛ وإن كان تقريره من المشيئة. ولذلك نفذ تقريره خاصة، فإن المشيئة ليست لها فيه إلا التقرير، لا العمل بما جاء به. فالمشيئة سلطانها عظيم .. فإن الأمر الإلهي إذا خولف هنا بالمسمى معصية؛ فليس إلا الأمر بالواسطة، لا الأمر التكويني. فما خالف أحد قطّ في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة؛ فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة = فافهم. وعلى الحقيقة؛ فأمر المشيئة إنما يتوجه على إيجاد عين الفعل، لا على من ظهر على يديه، فيستحيل ألاّ يكون. ولكن في هذا المحل الخاص؛ فوقتًا يُسمّى به مخالفةً لأمر الله، ووقتًا يسمى موافقةً وطاعةً لأمر الله، ويتبعه لسان الحمد أو الذم على حسب ما يكون. ولما كان الأمر في نفسه على ما قررناه؛ لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة على اختلاف أنواعها)
(3)
.
فابن عربي -كما ترى- يُسقط الاعتداد بالإرادة الأمرية الشرعية؛ لأن صدور المخالفة وهذه المعصية هو في الحقيقة طاعة بالنّظَرِ إلى موافقة الإرادة التكوينية الخلقية. فصدورها عن مقتضى هذه الإرادة يلزم
(1)
محيي الدين ابن عربي (ت 638 هـ):هو أبو بكر، محمد بن علي بن أحمد، الطائي، الحاتمي، المُرسِيُّ. نزيل دمشق، متصوف من أصحاب وحدة الوجود. قال الذهبي:(من أردأ تواليفه كتاب "الفصوص" فإن كان لا كفر فيه، فما في الدنيا كفر، نسأل الله العفو والنجاة فواغاثاه بالله!!) من تصانيفه: "الفتوحات المكية" = انظر "سير أعلام= =النبلاء"(23/ 48) .
(2)
في الأصل: علم. ولعل الصواب ما أثبت.
(3)
"فصوص الحكم"(1/ 165 - 166) .
منه عنده رضا الله عز وجل عن هذه المخالفة. ولأن جميع الأفعال هي في الحقيقة خير في ذاتها لا توصف بالشر إلا بطريق العَرَض، وإذا كان الشَّرُّ بطريق العَرَض= فكذلك الغضب الإلهي من أجلها عرضي أيضًا
(1)
.
وجبريّة ابن عربي جبريَّةٌ وَحدويَّة تُلغي الفَرْقَ بين وجود الخالق ووجود المخلوق، وتَعْتبِر الوحدة بينهما، فهي قائمة في الأَساس على اعتقاده أَنَّ الأَعيان كانت ثابتة في العدم، فظهورها كان بإفاضة الحق عليها من وجوده الذاتي؛ كلُّ ماهية قَبِلت من هذا الوجود المطلق بحسب ما اقتضاه استعدادُها، فظهرت بعين وجود الحق. وهذا الظهور هو ظهور بحكم الأسماء، فليس لله اسم قبل إفاضته عليها من وجوده، وأنَّ وجوده كان وجودًا مطلقًا لا وجود له إلَّا وجودًا ذاتيًّا، لم يتحقق هذا الوجود في الخارج إلاّ بعد ظهور هذه الأعيان
(2)
.
ومن ثَمَّ؛ فابن عربي بامتناعه عن التمييز بين الوجود الواجب للخالق، والوجود الممكن للمخلوق =يجعل الوجود وجودًا واحدًا؛ هو الوجود الإلهي فحسب، وما سواه فَمَظَاهِرٌ للتجلّي الإلهي.
وممن اعتبر القدر حُجّةً لسقوط الملامة والذم على المعاصي: أبو علي ابن سينا. فإنّه عَدَّ العارف حقيقةً هو: مَن أحجم عن الملامة، ولم يَسْتهْوِه الغَضب عند معاينة المنكر؛ لاستبصاره بسر الله في القدر. وفي بيان ذلك يقول:(العارفُ لا يعنيه التجسُّس والتحسُّس، ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر كما تعتريه الرحمة = فإنه مستبصرٌ بسِرِّ الله في القدَر)
(3)
.
وسيأتي بيان فَسَاد ما ذهبت إليه كلتا الطائفتين.
(1)
انظر "التعليقات على فصوص الحكم" للدكتور أبي العلا العفيفي (2/ 120 - 121) .
(2)
انظر: "با شورة النصوص" لعماد الدين الواسطي (32 - 33) .
(3)
"الإشارات والتنبيهات"(4/ 104) .