الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: دفع دعوى المعارِض العقلي عن أحاديث الإسراء والمعراج:
• الجواب عن المعارض الأول: وهو زعمُهم: أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، والعروجَ به؛ كلُّ ذلك في ليلة واحدةٍ مما يحيله العقل.
فيقال: فرْقٌ بين إحالة الحسّ لذلك؛ لعدم مباشرته له، وأن يكون ذلك من محارات العقل وبين أن يحيل العقل ذلك. فأمّا الأول؛ فنَعَم. وهذا مما اختَصَّ الله به أنبياءَه عليهم الصلاة والسلام؛ فإنّ حادثة الإسراء والمعراج ممّا خَصَّ الله به النبي صلى الله عليه وسلم من دون سائر الأنبياء.
فخروجُها عن سنن الكون والعادة ظاهرٌ ولا شكّ فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أقام حجته، ونصب براهين على صدقه في وقوع ذلك له؛ ذلك أنّه لمّا كذّبتْه قريشٌ، وسألوه عن أمرين يكشف بهما عن خبيئة صدقه؛ بأن طلبوا منه أن ينعت لهم بيت المقدس
(1)
فما كان من الصادق المصدوق إلاّ أن أجابهم عمّا سألوا، وأقام الدليلَ على صِدْقِه فيما أخبر به ممّا وقَع له.
فتحصَّل من ذلك: أنّ حادثة الإسراء والمعراج؛ وإن كانت خارجة عن مقدور الثقلين، خارقةً لما اعتادوه؛ ليتمَّ بها نَصْبُ الدلائل على نبوّته صلى الله عليه وسلم إلاّ أنها ليست مخالفة لبدايه العقل ألبتّة، والوحي قد أثبتها. فالتكذيبُ بهذه الأحاديث؛ لكونها أثبتت وقوع الإسراء والمعراج في ليلةٍ واحدة = يؤول إلى الطعن في كمال قدرة الله تعالى، وفي الإيمان به؛ فإن هذا الاعتراض وما بعده من الاعتراضات لا تصدرُ إلاّ ممن لا يؤمن
(1)
أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب"التفسير"، باب "قوله تعالى {أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام} "(987 - رقم [4710]) ،ومسلم، كتاب"الإيمان"، باب"ذكر المسيح الدجال"(1/ 156 - رقم [170])
بالله، أو ممن يشكّ في قدرة الله جل جلاله. فمثل هؤلاء يكون الخطاب معهم في تثبيت هذا الأصل، فإذا ثبت ثبتَ ما بعده؛ فإنّ من عرفَ اللهَ حقّ المعرفة لا يصدر منه مثل ذلك.
ولن يتراخى بي القول إلى تقريب هذه المعجزة العظيمة التي أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم بما استحدث من مخترعات حديثة؛ كان الناس يحيلون أن يقع مثلها؛ فإذا الذي كان بالأمس مُحالًا أصبح اليومَ أمرًا طبعيًّا لا غرابة فيه = أقول: لن يتراخى بي القولُ إلى هذا التقريب؛ لأنه لا يمكن المساواة بين هذه الآيات والبراهين الخارجة عن مقدور الثقلين، وبين ما لا يُعَدُّ كذلك؛ مما كان في وقتٍ من الأوقات مُحالًا، ثم أصبح لا غرابة فيه؛ لقصور العقل البشري عن الإدراك والإحاطة بكل شيءٍ جملةً واحدة. هذا مما ينبغي عقلُه وإدراكُه. فإن سلوك تقريب المعجزات والآيات إلى أذهان المنكرين؛ إلى حدّ تسويتها بما ليس بالغًا هذا المبلغ؛ مما يجري على وَفْق السنن والعادة = هو الضلال بعينه؛ فتأمّل.
فإنْ قيل: كَوْنُ حادثة الإسراء والمعراج ليست مخالِفةً لمناهج العقل وشرائطه؛ لا يقتضي أنّ كلّ ما كان كذلك أن يكون واقعًا حقًّا؛ فالعقل لا يحيل وجودَ جبلٍ من ذهب، أو بحرٍ من زئبق، لكن عدم الإحالة لا يلزم منه الوقوع.
فيقال: هذا حقٌّ ينطوي على مصائد للباطل؛ وتوضيح ذلك:
كَوْنُ كلّ ما لا يحيله العقل لا يلزم منه أن يكون واقعًا؛ هذا حقٌّ لا مرية فيه. ولكن؛ ما ليس بحقّ هنا نفْيُ الواقع لعدم استدلال الحِسّ عليه. فالحسُّ إن لم يستدلّ هنا على هذه المعجزة لعدم مباشرته لها؛ لا يعني انتفاء دليل تصحيحها، وإثباتها؛ فعدم الدليل ليس علمًا بالعدم؛ لأن جهة إثبات هذه الحادثة هو، إخبار الله سبحانه وتعالى عنها في كتابه، و تواتُر هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،، ومن المحال نَقلًا وعقلًا أن يقع هذا التواتر من الجهتين
اللّتين أَبَنْتُ عنهما؛ ثم يكون هذا الأمر كذبًا بخلاف الواقع، فهذا لا يكون أبدًا ألبتّة. ثم إن التمادي في إنكار هذه الآية؛ لعدم دلالة الحسّ عليها؛ يستلزم إنكار جميع المعجزات والآيات التي جرت للأنبياء السابقين؛ فانقلابُ العصا ثعبانًا تبلعُ ما تجده أمامها من الحبال والعصيّ، ثم تعود في الحال عصًا كما كانت، لا ريب أنّ ذلك من خوارق العادات. كذلك؛ خروج الناقة العظيمة من الجبل الأصمّ، ونتْق الجبل فيكون في الهواء؛ كلّ ذلك يلزم إنكارُه. ومُنكِرُ ذلك لا شكّ أنه فرَّ من مخالفة الضرورة الحسّيّة - في ظنّه - إلى إنكار ما هو مقتضى الضرورة النَّقليَّة والعقلية.
• الثاني: فأمّا احتجاجهم على ردّ هذه الآية بقولهم: إن الجسم الكثيف يستحيل صعوده من الأرض إلى أعالي السماء.
فيقال: هذا القول في غاية الضعف؛ لثبوت النَّقل بضدّه، وشهادة الحسّ له بعكس ذلك.
فأمّا النَّقل: فقد تواترت الأخبار في وقائع متعدّدة على إثبات ذلك، مثل: حَمْل الرِّيح لنبي الله سليمان عليه السلام وهو جسم ثقيل على بساطٍ، ومعه أصحابه. وصعودُ عيسى عليه السلام إلى السماء، ونزوله قبل قيام الساعة. كما قال جل جلاله:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)} آل عمران.
وحَمْلُ عرْشِ بلقيس من اليمن إلى الشام في لحظة. قال الله تعالى حاكيًا قولَ سليمان رحمه الله: {قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} النمل.
فهذه الأخبار تدلّ دلالةً بيِّنةً على حدوث هذا الصعود لتلك الأجسام، وأنه أمر ممكن؛ فضلًا عن كونه واقعًا.
وأمّا شهادةُ الحِسّ لبعض ذلك: فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن رجالٍ في زمانه وقبل زمانه؛ كانوا يُحمَلون في الهواء من مكان إلى آخر، وأنّ هذه الأخبار بلغت مبلغ التواتُر
(1)
.
وفي هذه الأَزمان ما يُوطِّد ذلك فأنت ترى المَركبات الهوائيَّة كالطَّائرات وغيرها وهي أَجسامٌ كثيفة تسبح في الهواء، ممَّا ينقض دعوى الاستحالة.
فهاتان الضرورتان: السَّمعيَّة، والحسّيَّة؛ تشهدان بجواز ذلك. ثم؛ إنّ مَن ينكر صعود الأجسام الكثيفة في الهواء؛ يلزمه على ذلك إنكارُ نزول الأجسام اللطيفة في اللحظة من السماء إلى الأرض. فيكون نزول جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض ممتنعًا؛ وهذا الإنكار يؤول إلى إنكار الشرائع، والطعن في النبوّة!.
يقول فخر الدين الرازي في تقرير ذلك: (إنه كما يُستبعَد في العقل
(2)
صعود الكثيف من مركز العالَم إلى ما فوق العرش
(3)
، فكذلك يُستبعَد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالَم؛ فإنْ كان القولُ بمعراج محمد صلى الله عليه وسلم في الليلة الواحدة ممتنعًا في العقول = كان القول بنزول جبريل عليه الصلاة والسلام من العرش إلى مكة في
(1)
انظر: "الجواب الصحيح"(3/ 374)
(2)
هذا منه على سبيل الإلزام، والتنزُّل مع المخالف؛ لا على سبيل التسليم والتقرير؛ لأنه - كما سبق - ليس في إثبات ذلك مخالفة للضرورة العقلية.
(3)
النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ إلى ما فوق العرش؛ وكأنّ الرازي يريد بهذا القول -والله أعلم-: التقرير لما يعتقده من عدم استواء الرب تبارك وتعالى على العرش؛ فبسبب إنكاره أن يكون فوق العرش اللهُ تبارك وتعالى؛ أدّاه ذلك إلى هذا القول.
اللحظة الواحدة ممتنعًا، ولو حكَمْنا بهذا الامتناع كان ذلك طعنًا في جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
…
)
(1)
• الثالث: وأمّا زعمُهم أنّه من المقرَّر علميًّا: أنّ الهواء يُفقَد بعد أميال من فوق سطح الأرض وعلى هذا؛ فلا يمكن والحالة هذه أن يعيش أحدٌ.
فيقال: قد قُرِّر من قبلُ أنّ أمثال هذه الاعتراضات لا تصدرُ إلاّ ممن ينكِر وجود الله تعالى، أو ينكر كمال قُدرتِه؛ فمَن خلق الإنسان مفتقرًا إلى الهواء؛ قادرٌ على أن يجعله مستغنيًا عنه، والعقل لا يستعصي عليه تصوُّر ذلك، وإِنَّما لعدم مباشرة الحس لمثل ذلك تراه ينكر كلّ ما لا يقع في دائرة إدراكه = وهذا هو القصور بعينه.
فإذا كان الحسُّ نفسُه لم يقع له دَرْكُ ما حولَه من عالَم الشهادة؛ فكيف ينفي بعد ذلك ما هو خارجٌ عن مقتضى إدراكه؟!
• الرابع: أما قول القائل: إن إثبات أخبار الإسراء والمعراج يلزم منها تجويزُ الجهل على الله تعالى - تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا - بما يقدِر عليه عبادُه، وما لا يقدرون
…
فالجواب عن ذلك: ليس في الحديث ما يستلزم ذلك أبدًا؛ فليس في الخمسين صلاة التي فرضها الله تعالى على عبده وخليله محمد صلى الله عليه وسلم ما يكون في أدائها استحالة من جهة تعذّر قُدرة العباد على أدائها. وأمّا قول موسى عليه السلام في الحديث: (إنّ أمتك لا يستطيعون ذلك، فارجعْ إلى ربّك فاسأله التخفيف لأمّتك) =فلا يُحقِّق مطلوبهم؛ ذلك أَنَّ نفْي الاستطاعة من موسى - عليه السلام - لا يرادفُ الاستحالة بحال في هذا المقام، وإِنَّما مقصوده - عليه السلام مشقّةُ ذلك على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وبرهان ذلك: أنه أطلق
(1)
"التفسير الكبير"للرَّازي (7/ 293)
هذا اللفظ؛ حتى بعد صيرورة الصلاة من خمسين إلى خمس؛ فقال: (إن أمّتك لا تستطيع خمس صلواتٍ كلّ يوم)
قال العَلَّامَةُ المُعَلِّمي رحمه الله: (كانت الصلاة قبل الهجرة ركعتين ركعتين؛ كما ثبت في الصحيح
(1)
فخمسون صلاةً مائة ركعة؛ وليس أداء مائة ركعة في اليوم والليلة بمستحيل، وفي النَّاس الآن من يُصلِّي نحو مائة ركعة، ومنهم من يزيدُ. وفي تراجم كثير من كبار المسلمين: أنّ منهم مَن كان يصلّي أكثر من ذلك بكثيرٍ
(2)
؛ بل إن أداء مائة ركعة في اليوم والليلة ليس بعظيم المشقة في جانب الله عز وجل من الحقِّ، وما عنده من عظيم الجزاء في الدنيا والآخرة
…
فأمّا الله تعالى فالفرضُ في علمه خمس صلوات فقط؛ ولكنّه سبحانه إذا أراد أن يرفع بعضَ عباده إلى مرتبةٍ هيّأَ له ما يستحق به المرتبة؛ ومن ذلك: أن يهيّئ ما يفهم منه العبدُ أن مكلّفٌ بعمل معيَّن شاقٍّ، فيقبَل التكليف، ويستعدّ لمحاولة الأداء فحينئذٍ يُعفِيهِ اللهُ تعالى من ذلك العمل، ويكتبُ له جزاءَ قبوله، ومحاولة الوفاء به، أو الاستعداد لذلك ثوابُ من عمله، ومن هذا القبيل قصة إبراهيم - عليه السلام - في ذبح ابنه.
وأمّا محمد صلى الله عليه وسلم فكان يعلم أنّ الأداء ممكِنٌ - كما مرّ -، وكان في ذلك المقام الكريم مستغرقًا في الخضوع والتسليم، ووفّقه الله عز وجل لقبول ما فهمه في فرْض خمسين، والاستعداد لأدائها؛ ليكون هذا القبول والاستعداد مقتضيًا لاستحقاق ما أراد الله عز وجل أن يعطيَه وأمّته من ثواب خمسين صلاة
…
(1)
أخرجه البخاري في كتاب "الصلاة"باب"كيف فرضت الصلوات في الإسراء "(1/ 79 - رقم [350])، ومسلم في كتاب"صلاة المسافرين وقصرها"، باب"صلاة المسافرين وقصرها"(1/ 478 - رقم [685])
(2)
كما تراه في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل - مثلًا -؛ انظر: مناقب الإمام أحمد بن حنبل، لابن الجوزي (382)
فأمّا المراجعة للتخفيف بعد مشورة موسى رحمه الله = فإِنَّما كانت بعد أن استقرّ القبول والعزمُ على الأداء، وعلى وجه الرّجاء؛ إنْ خفّف به فذاك، وإلاّ فالقبول والاستعداد بحاله.
ولم يذكر في الحديث أنّ أحدًا من الرسل اطّلع على فرض الصلاة، وإِنَّما فيه: أنّه لمّا مر محمد بموسى عليهما السلام سأله موسى، فأخبره .. واختُصَّ موسى بالعناية؛ لأنه أقرب الرسل حالًا إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن كُلًا منهما رسول مُنَزَّلٌ عليه كتابٌ تشريعيٌّ سائسٌ لأمة أريد لها البقاء، لا أنْ تُصْطَلَم بالعذاب)
(1)
فتقرّر بذلك انتفاءُ هذا اللازم عمّن يثبِت أخبارَ الإسراء والمعراج؛ لشمول علم الله تعالى، ومعرفته بأحوال عباده، وما يصلحهم. ولكنّ الباري جل جلاله أراد أن يُظهِر فضيلة محمد صلى الله عليه وسلم في خضوعه وتسليمه، وفضيلة موسى رحمه الله؛ بأن جعله سببًا للتخفيف عن هذه الأمة، مع إبراز عظيم رحمته بهذه الأمة، ومع ما في هذه المراجعة من كريم المناجاة بين الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم.
• الخامس: وأمّا قول القائل: أنّ في ثبوت هذا الخبر ما يستلزم التناقضَ؛ إذْ كيف يرى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في بيت المقدس، ويصلي بهم، ثم يكون في الوقت ذاته في السماء؟ وكيف يكون موسى عليه السلام في السماء السادسة، ويراه في الوقت نفسه في قبره يصلّي؟
فيقال: ليس هناك تناقضٌ ألبتّة؛ ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حينما أُسرِي به إلى بيت المقدس، وأَمَّ الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام؛ وهو ظاهر رواية ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه، وهو ما اختاره الحافظ ابن حجر
(1)
الأنوار الكاشفة، للمعلمي (120 - 121) وانظر في التماس حكمة اختصاص موسى عليه السلام بالمراجعة:"الأجوبة المرضيّة"للإمام السَّخاوي (2/ 446)
العسقلاني
(1)
رحمه الله. ومن المعلوم أن وقت صلاته بهم لم يكن هو ذاتُه وقت رؤيته لهم في السماء؛ حينما عُرِج به. وشرط التناقُض: وحدة الزمان؛ وهذا غير متحقق هنا.
وفي بيان انتفاء التناقض يقول الإمام عقيل القضاعي رحمه الله مُعقِّبًا على الإمام الحُميدي في قوله عما حصل من رؤيته صلى الله عليه وسلم لإخوانه الأنبياء في مواطن مختلفة: (ومن المحال أَن يكونوا في مكانين مختلفين في وقت واحد) قال الإمام القضاعي: (وقول الحميدي
…
قول صحيح في نفْسه، معلومٌ ببديهة العقل
…
إن كونهم [أَي الأنبياء] تلك الّليلة في السَّماوات إِنَّما كان بسبب عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السَّماوات، فيكون كونهم هنالك ككونهم ببيت المقدس، وككون موسى في قبره يُصلِّي، ثم ينتقلون من ذلك الموضع إلى حيثُ شاء الله من الجنَّة، أو من غيرها.
ويجوز أن يكون ذلك موضعهم في الغالب، ولا نقول إنَّه موضعهم على الدَّوامِ بسبب كونهم ببيت المقدس تلك الَّليلة، وكما جاز في تلك الليلة يجوز في غيرها =وعلى الجُملة فالدُّخولُ في مثل هذه المضايق لا ينبغي لعاقِلٍ، فإنَّها مغيَّبة عنّا، وإِنَّما نتكلّم فيها بِحَسَبِ ما فهمناه من الشَّريعة .. )
(2)
وقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في رؤيته صلى الله عليه وسلم للأنبياء: هل
(1)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (7/ 274)، وذهب الإمام ابن كثير إلى أن العروج كان قبل الذهاب إلى بيت المقدس. انظر: تفسير القرآن العظيم (5/ 2062)
(2)
"تحرير المقال "(1/ 107 - 108) والإمام عقيل القضاعي (549 هـ-608 هـ): هو عقيل بن عطية بن أبي أحمد القضاعي، حافظ متقن مُتصرف في فنون من العلم مع حسن الخطِّ والمشاركة في الأدب، ولي قضاء غرناطة وسجلماسة، من مصّفاته:"شرح مقامات الحريري"، و"رد على ابن عبدالبر في بعض تواليفه وتنبيه على أغلاطه"=انظر:"صلة الصلة "لابن الزُّبير (4/ 170 - 171)، و"التكملة لكتاب الصلة" (4/ 33 - 34) وانظر:"مُقدِّمة محقّق "تحرير المقال".
كانت رؤية لأشخاصهم وأبدانهم؟ أم كانت رؤيتُه لأرواحِهم فحسب؟ يُستثنى من هذا
…
عيسى عليه السلام.
فالأوَّل: قال به جماعة من أَهل العلم، وهو ظاهر اختيار الإمام
…
البيهقي
(1)
رحمه الله وغيره.
والثاني؛ هو اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
(2)
. وقد بَسَط أَدلّةَ هذا القول تلميذهُ الإِمام ابن قيمٍ الجوزية
(3)
.
وقد حكى الإمام ابن رجب الحنبلي القولين، ولم يرجّح
(4)
.
فعلى القول الثَّاني: تكون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لموسى - عليه السلام وهو يصلي في قبره رؤيةً لجسده، ورؤيتُه في بيت المقدس وفي السماء رؤية لروحه.
فإن قيل: كيف يصلي في قبره وهو ميت، وروحه في السماء؟
فيقال: أجاب الإمام ابنُ تيميّة عن ذلك بقوله: (وأَمَّا كونُه رأى موسى قائمًا يُصلِّي في قبره، ورآه في السَّماء أَيضًا فلا منافاة بينهما؛ فإنَّ أمرَ الأَرواحِ من جِنس أَمر الملائكة. في اللَّحظة الواحدة تصعدُ وتهبِطُ كَالمَلَكِ، ليست في ذلك كالبَدَنِ)
(5)
فللرُّوح تعلُّقٌ بالبدن بعد الموت، وإشرافٌ عليه. فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم جسده في قبره مدفون، وروحه في الرفيق الأعلى؛ إلا أن الله يردّ روحه إلى جسده ليردّ السلام على من سلّم عليه من أمته. قال عليه الصلاة والسلام: (ما من أحدٍ يسلّم عليّ إلّا ردّ الله عليّ روحي حتى أردّ عليه السلام
(6)
(1)
انظر: "حياة الأنبياء"للبيهقي (58)
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى "(4/ 328)
(3)
انظر: "زاد المعاد"(3/ 41)، و:"الروح"(67)، وانظر:"الأجوبة المرضيّة " للحافظ السخاوي (3/ 1157)
(4)
انظر: "فتح الباري"لابن رجب (2/ 113 - 114)
(5)
"مجموع الفتاوى"(4/ 329)
(6)
أخرجه أحمد في مسنده (16/ 477 - رقم [10815=ط/الرسالة])، و أبو داود في السنن، كتاب "المناسك "، باب " زيارة القبور"(2/ 366 - رقم [2041])، والبيهقي في "السنن الكبرى " كتاب "الحج"، باب "زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم "(5/ 245) والحديث صَحَّح إسناده النَّووي في "الأَذكار"(211)، وابن القيم في "جلاء الأفهام" (108) وتعقَّب السخاويُ من صححه بقوله في "القول البديع" (316):(وفيه نظر) وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(6/ 596 - ط/دار السلام): (رواته ثِقات) وتعقَّبه أَيضًا تلميذه السَّخاوي بقوله: (قلتُ: لكن انفراد يزيد بن عبد الله بن قُسيط بروايته له عن أَبي هريرة يمنع من الجزم بصحَّته؛ لأنَّ فيه مقالًا) وحسنه كلٌّ من السخاوي في "القول البديع"(316)، والألباني في "السلسلة الصحيحة"(5/ 338) ولعل الأَقرب ما قالاه لحال كل من أبي صخر "حميد بن زياد"و يزيد بن عبد الله المقري فقد تُكلِّم فيهما.
ولِعالَم الأرواح خصوصية تختلف عن شأن البدن، ومن امترى في ذلك فقد خالف الضرورة التي يجدها الإنسان من نفسه. فأنت تجدُ من روحك تآلُفًا وتناسُبًا لبعض الأرواح؛ حتى لكأنها في غاية القُرب والتجاوُر؛ مع بُعْدِ ما بين جسدَيْكما، وتنائي ما بين شخصيكما. والعكس بالعكس؛ فتجد الروحين المتنافرتين المتباغضتين؛ بينهما غاية البُعد؛ وإن كانت الأجسادُ متجاورةً.
(1)
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: (ومن كَثُف إدراكُه، وغلُظتْ طباعُه عن إدراك هذا = فلْينظُرْ إلى الشمس في عُلُوِّ محلّها، وتعلُّقِها، وتأثيرها في الأرض، وحياة النبات والحيوان بها. هذا؛ وشأن الروح فوق هذا؛ فلها شأنٌ، وللأبدانِ شأنٌ. وهذه النار تكون في محلّها، وحرارتُها تؤثر في الجسم البعيدِ عنها؛ مع أن الارتباط والتعلُّق بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك، وأتمّ. فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف)
(2)
- نقضُ تأويل الحديث:
وأمَّا [تأويل الشيخ وليّ الدين الدهلوي فلا مسوّغ له؛ إِذ التأويل فرع الاستحالة. والقطْعُ بامتناع تَعارُض ما هو من شرائط العقولِ مع ما صحّ من المنقول في هذه الأخبار؛ هو المتقرّر، ولا محيص عنه. والتنصُّل من ذلك بمجرّد طروء الاحتمالات الوهمية التي تتولّد في الذهن ليس من مَيَاسِم أهل التحقيق. وقد قال الغزالي رحمه الله:(وأمّا الاحتمال الذي لا يعضُدُه دليل = فلا يخرج اللفظ عن كونه نصًّا)
(3)
والتنصيص مستفادٌ من ألفاظ القرآن الكريم، ومن استفاضة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استفاضةً تقطع كلّ احتمال.
ثم؛ إنه - فيما يظهر؛ - أراد الفرارَ عمّا أشكلَ عليه في هذا الحديث بالتأويل فوقع في مزالق أعظم مما فرّ منه؛ ذلك أنه فسّر الإسراء - كما سبق نقل كلامه - بِرَدِّ معاني الأحاديث إلى " عالَم المِثال ". ويكفي أن نعلم أنّ " عالَم المثال " لا يوجَد إلّا في الأذهان، وليس له تحقُّقٌ في الواقع. فحَمْلُ كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم على هذا الضرب من التفسير = عبَثٌ لا شكّ في ذلك.
ثُمّ؛ إن المعاني التي ذكرها على ما فيها من الركاكة = غير معهودة في لسان الجيل الأوّل. ولو كان الأمر غير ذلك لحملت لنا دواوينُ أهل العلم أقاويلَهم الموافقة لما ذهب إليه الدهلوي؛ لكنّ كلّ ذلك لم يكن؛ فعُلِم فسادُ هذا التأويل، وعدم صحّتِه.
وما تقدّم ذِكرُه يحيطُ أيضًا بـ] [*]ـتأويل " محمد حسين هيكل " الذي أوَّل أحاديث الإسراء
(1)
انظر: "الرُّوح"لابن قيِّم الجوزية (67)
(2)
"زاد المعاد"(3/ 41) وانظر بيان شيخ الإسلام لمن شبّه الروح وتصرُّفها بالشمس نقله عنه تلميذه الإمام ابن قيِّم في كتابه "الروح"(67)
(3)
"المستصفى"للغزالي (3/ 86)
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع، وأضفناه من أصل الرسالة الجامعية
والمعراج بوحدة الكون في نفسه صلى الله عليه وسلم!! وهذا - كما ترى - مبنيٌّ على ضِيْقِ عَطَنِ هؤلاء، وتقَزُّمِ أفهامهم عن قبول ما دلّت عليه هذه المعجزة العظيمة الحاصلة للنبي صلى الله عليه وسلم.
فالحديثُ دالٌّ على حصول الإسراء به صلى الله عليه وسلم من مكان إلى مكان، وتتحقّقُ معاينتُه لما كشف الله تعالى له في تلك الليلة؛ إكرامًا. فلو كان الأمر لا يعدو سوى وحدة الكون في نفسه، فيقال له: فلِمَ بادرَ المشركون إلى ردِّ ما قال عليه الصلاة والسلام؟ ولِمَ استفهموه عن بعض ما يحقِّقُ صِدْقَه عندَهم؟ ولِمَ ارتدَّ بعضُ ضَعَفَةِ الإيمان حين سمعوا خبر هذا المسرى؟ أفيكون ذلك لتوحُّد الكون في نفسه؟! هذا لا يقوله مَنْ له أدنى مسكة عقل!.