الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: دفع دعوى المعارِض العقلي عن حديث (لا يُدخِل أحدًا الجنَّة عملُه)
والجواب عمّا احتجّت به المعتزلة يتّضح فسادُه ببيان الأصل الذي ارتكزوا عليه في إيجابهم استحقاق الثواب جزاءً للعمل = هذا الأصل هو قولهم بالتحسين والتقبيح العقليَّيْن، والذي يراد بهما -عندهم- اتّصاف الأفعال بالحُسن والقُبح، وكون ذلك صفات ذاتية للفعل، لازمة له. وإنما وظيفة الشرع في الكشف عنها.
ثم؛ إنّ المعتزلة بعد رسمهم لمفهوم هذا التحسين والتقبيح جعلوه مرتبطًا ولازمًا لمسائل القدر، والتعديل والتجوير. قياسًا منهم للخالق على خلقه؛ إذْ أجروا أحكام هذا الباب -أعني التحسين والتقبيح العقليين- على الخالق تعالى والمخلوق. فإذا اشتمل الفعل على مصلحة خالصة أو راجحة؛ فإنه يجب على الله طلب تحصيله وإيجاده. وإذا اشتمل على مفسدة خالصةٍ أو راجحة؛ فإنه يجب على الله طلب تركه، والنهي عنه
(1)
. ولمّا كان الله عدلًا حكيمًا؛ ومعنى ذلك = أن تكون أفعاله معلَّلة بالحكمة، وألاّ يفعل القبيح، أو يختاره، ولا يخلّ بواجب
(2)
=لَزِم أن يتنزّه عن العبث - المناقض للحكمة - الذي من جملته تكليفُ العباد، دون حِكْمة مقصودة. وحُسْن التكليف إنّما يتحقّق بتعريضهم للثواب لعَمَل استحقّوا به ذلك؛ وإلاّ كان قبيحًا = فوجب أن يكون الثواب مترتّبًا على العمل.
والأصل الذي انطلقت منه هذه الطائفة؛ قدْرٌ منه يوافقهم عليه أهل
(1)
انظر: "مجموع الفتاوى"(8/ 431).
(2)
انظر: "شرح الأصول الخمسة"(ص 301).
السنة والجماعة، لكن يبقى أن تحرير محلّ النزاع بينهم وبين أهل السنة والجماعة من أهم المقامات؛ لأن حصول الاشتراك في هذا القدْر من هذا الأصل قد يُوهِم بأنّ كلّ من التزم به؛ فإنه -بلا مثنوية - لا بدّ أن يلتزم بكل ما رتّبت المعتزلة عليه من أغاليط نسبتها للشرع.
وعليه؛ فإنّ مِن موارد النزاع بين أهل السنة والمعتزلة، ما يلي:
المورد الأول: أن أهل السنّة والجماعة؛ مع تقريرهم أن العقل يُدرِك حُسن الأفعال وقُبحها، وأنّ للأفعالِ صفاتٍ ذاتيّة تقتضي حُسنها وقُبحها = إلاّ أنهم في الوقت نفسه يقولون: إنّ العقل لا يستقلّ بإدراكٍ الحُسن والقُبح في جميع الأفعال والأحوال. وبناءً على ذلك؛ فإنهم لا يَقْصِرُون وظيفة الشرع على تأييد العقل، وتقرير ما دلّ عليه، بل كما أن الشرع يكون مقرِّرا، كاشفًا لما أدركه العقل؛ فإنه أيضًا يأتي مؤسِّسًا لحُسن بعض الأفعال وقُبحها. فالفعل تارةً يكونُ حُسْنه من جهة نفسه، وتارةً من جهة الأمْر به
(1)
.
المورد الثاني: أن التحسين والتقبيح لا يرتبط بهما الجزاء ثوابًا وعقابًا، خلافًا للمعتزلة الذين رتّبوا على هذا المبدأ الإيجاب والتحريم اللذين هما مُتعلَّق الثواب والعقاب
(2)
.
المورد الثالث: أنه لا تلازُم بين مسألة التحسين والتقبيح، وبين باب القدر. والمعتزلة لمّا نصبوا التلازُم بينهما استولدوا مسائل هي ضلال في الشرع والعقل. ومن ذلك:
أولًا: قياسهم الفاسد بين الخالق والمخلوق؛ إذْ جعلوا باب التحسين والتقبيح واحدًا فيهما. فما حَسُن من المخلوق حَسُن من الخالق، والعكس
(1)
انظر: "مجموع الفتاوى"(8/ 435 - 436)،و (11/ 354) .
(2)
انظر: "مفتاح دار السعادة"، لابن القيم (2/ 542 - 543) .
وهذا باطلٌ من وجهين:
الوجه الأول: أنّ هذا القياس لا يصحُّ إلاّ عند استواء الأصل والفرع في الرُّتبة. ومن المعلوم ضرورةً أن الربّ تبارك وتعالى متّصِفٌ بصفات الكمال التي لا نقْصَ فيها بوجهٍ من الوجوه. وهذا أمرٌ لا ينازِعُ أحدٌ من هذه الأمة فيه
(1)
.
وهو -سبحانه- أيضًا يُجَلُّ عن أن يكون له مثيل في ذاته، أو صفاته، أو أفعاله. قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11 وقال تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)} النحل: 60
فكيف يتأتّى قياس مَن له الكمال المُطلق، والغِنى الذاتي على مَنْ صفته النقص، والفقر الذاتي؟!
الوجه الثاني: أَنَّ الفِعلَ يحسُنُ من العبد؛ لجلبه المنفعةَ، ويقبُح؛ لجلْبه المضرّة. ويحسُن؛ لأنّ العبد أُمِر به، ويقبُح؛ لأنّه نُهي عنه = وهذان الأمران منتفيان في حقّ الربّ تبارك وتعالى
(2)
.
فإذا تبيّن فساد هذا الأصل = بانَ بُطلان ما تشعّب منه؛ وهو: القول بالإيجاب العقلي على الله تعالى. إذْ لازم هذا القولِ القدحُ في الرّبوبية؛ لأنّ حقيقته سلْبُ الاستعلاء والاختيار عنه سبحانه وتعالى
(3)
. والله له الاختيار المطلق، والمشيئة النافذة؛ فهو ربُّ كلّ شيء ومليكه، ما شاء كان، وما لم يشأْ لم يكن، لا موجب عليه؛ لأنّ حقيقة هذا الإيجاب لا تكون إلاّ بوجود آمِرٍ أو ناهٍ أعلى من الربّ تبارك وتعالى. ولا أحدَ أعلى منه؛ فكلّ ما سواه مربوبٌ مخلوقٌ.
(1)
انظر: "الرسالة الأكملية"(ص 8) .
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى "(11/ 353) .
(3)
انظر: "أبكار الأفكار"(4/ 353) .
وما ورد من وجوب الرحمة والثواب والوعد في الدلائل الشرعية؛ كقوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} الأنعام: 54 وغيرها من الدلائل = فإنَّ وقوع ذلك واجب؛ بحُكم وعده الصادق، هو الموجِب على نفسه تفضُّلًا منه تبارك وتعالى؛ لا أن العباد أوجبوا عليه. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله:«وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى، والتحريم؛ بالقياس على خلقه = فهذا قول القدريّة. وهو قولٌ مبتدَع، يخالف الصحيح المنقول، وصريح المعقول. وأهل السنة متفقون على أنّه سبحانه خالق كل شيء ومليكه، وأنّ ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئًا. ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب؛ قال: إنّه كتب على نفسه، وحرَّم على نفسه؛ لا أنّ العبدَ نفسَه يستحقّ على الله شيئًا كما يكون للمخلوق على المخلوق .. »
(1)
.
فإذا ظهر بطلان الإيجاب العقلي على الله سبحانه؛ لبطلان أصله، وبطلانه في نفسه = عُلِم أن الاستحقاق مبناه على فَضْل من الله ورحمة، كما قال تعالى:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} الروم: 45
وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)} الأحزاب.
وقال تعالى: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} الحديد: 21.
ولهذا الفَضلِ الرَّبَّانيِ جهاتٌ:
الجهة الأولى: أن الهداية إلى العمل الصالح محْض فضْلٍ من الله تعالى، كما قال سبحانه:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} الحجرات: 17 وقال تبارك وتعالى:
(1)
"اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 785) وانظر أيضًا: "منهاج السنة النبوية"(1/ 448) .
الجهة الثانية: أنّ الأعمال الصالحة إنما صلحت برحمة الله تعالى وفضله.
الجهة الثالثة: أنّ العاملَ وعملَه داخلان في عموم خلق الرب تبارك وتعالى؛ فهو المُنْعِم في الابتداء والانتهاء. والمعتزلة أناطوا مسألة إيجاب الاستحقاق على ما انتهوا إليه في مذهبهم من استقلال العبد في إيجاد فعله. ولا رَيْب أن نظريتهم في أفعال العباد تناقض حقيقة الإيمان، بالقدر الذي ينتظم عموم خلق الله تبارك وتعالى كما سبق بيانه-.
الجهة الرابعة: أنه لو استوجب العبد بمقتضى العقل الثوابَ الأبدي على فعل الواجب؛ لاستوجب الربّ تعالى كذلك الشكر الأبديّ على العبد بنعمه السابقة؛ بل أولى=واللازم
…
ممتنع؛ لما فيه من لزوم التكليف في دار الخلود. وهذا خلاف المتقرّر شرعًا
(1)
.
الجهة الخامسة: أن مقدار الأجر المستحقّ - على تقدير وجوبه- غير معروف عقلًا، وقد يكون صغيرًا. ومع ذا فقد جعل الربّ تبارك وتعالى الجنّةَ جزاءً للعمل الحقير؛ كرمًا، وفضلًا
(2)
.
الجهة السادسة: أن العمل لا يصلح بمفرده أن يكون عدلًا ومقابلًا للجنة؛ لأنّ العمل لو قيس ببعض نعم الله المُنعَم بها على العبد لاستفْرغتْها
(3)
.
الجهة السابعة: أن دخول الجنة كما أنه يكون بالعمل؛ فإنّه لا بدّ
(1)
انظر: "أبكار الأفكار"للآمدي (4/ 352) .
(2)
انظر: " العواصم والقواصم"لابن الوزير (7/ 296) .
(3)
انظر: "نكت القرآن"، للقصاب (1/ 548)،و "مفتاح دار السعادة"(2/ 550) .
من إضافة قَيْد؛ وهو: تكفير السيئات التي لا ينفك عنها العبد. وتكفيرها تفضُّلٌ من الله جل وعلا. قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} التغابن: 9
وينبغي لحْظ أن أهل السنة لا ينكرون أن الجنة تُدخَل بعمل؛ كما نطقت بذلك البراهين الشرعية، وإنما الإنكار لما لم يدلّ عليه الدليل من أن الجنّة تُستَحقّ على الله بالعمل؛ على جهة الثمنية والعوض.
وأَمَّا الجواب عن الشُّبهةِ الثَّانية؛ وهي: دعواهم أنّ نعيم الجنة خالص لا يشوبه كَدَرٌ
…
الخ.
فيقال: إن الامتنان إنما يصحّ أن يكون ذِلّة وكدرًا إذا كان من جهة النظير والمماثِل، أمّا إذا كان من المالك المتفرّد بالعطاء، الذي لا يدانيه مُعْطٍ، ولا يُماثلُه منعم
(1)
؛ فلا مكان للكدر، ولا محلّ للذّلّة. وأمّا المِنّة فليست منتفيةً. فالعبد لا يزال يتقلّب في منن الرب تبارك وتعالى؛ لذا كان من أسمائه تبارك وتعالى (المنّان) ومنّته على عبده ليست تكديرًا؛ بل شرفٌ للعبد بأن أنعم عليه، ووفّقه، وهداه، وقَبِل منه، ثمّ أدْخلَه جنّته.
وبعد انقضاء الحديث عن وجه ما طعنتْ به المعتزلة، وظهور فساد ما ذهبت إليه = لزمت الإبانة عن الأصول التي بنتْ عليها الأشاعرة موقفها في فهم الحديث، والعدول به عن ظاهره. فتفسيرهم للنفي الوارد على العمل في الحديث بنفْي سببيّته، وأثره في دخول الجنة؛ أدّاهم إليه حاصل أصلين:
الأول: اعتقادهم أنه لا يمكن تحقيق توحيد الربوبية إلاّ بإفراد الرَّبِّ بالخَلْقِ والتَّأثير. وهذا لا يتحصّل إلاّ بنفْي أيّ مؤثّرٍ مع الربّ تبارك وتعالى.
(1)
انظر: "الإيضاح"(ص 551) .
وفي تقرير هذا الأصل يقول السنوسي
(1)
(2)
.
الأصل الثاني: أنّ إثبات كمال الملك والاختيار لله عز وجل لا يتحققُّ إلَاّ بتجويزِ فِعلِ كُلِّ ممكنٍ عليه. فجوّزوا بناءً على ذلك: تعذيب أوليائه، وإثابة أعدائه. ولا يكون ذلك ظُلمًا منه؛ لأن حقيقة الظُّلم التصرُّف في ملك الغير، وهذا لا يتصوّر في حق الله؛ لأن كلّ ما في الوجود مُلك له. ويكون الظلم غير مقدور له.
وفي تقرير هذا الأصل يقول الغزالي: «الظلم مَنْفيٌّ عنه بطريق السّلْب المحْض؛ كما تسلب الغفلةُ عن الجدار، والعبث عن الريح؛ فإنّ الظُّلم إنّما يُتصوَّر ممن يمكن أن يصادف فعلُه مُلكَ غيره. ولا يُتصوَّر ذلك في حق الله تعالى. أو يمكن أن يكون عليه أمرٌ فيخالف فعلُه أمرَ غيره. ولا يُتصوَّر من الإنسان أن يكون ظالمًا في ملك نفسه بكل ما يفعله؛ إلاّ إذا خالَف أمرَ الشرع؛ فيكون ظالمًا. فمن لا يتصوَّر منه أن يتصرف في ملك غيره، ولا يتصوَّر منه أن يكون تحت أمر غيره = كان
(1)
السنوسي: هو محمد بن يوسف الحسني. يُعرف بـ"التلمساني"(830 - 895 هـ) فقيه مالكي، متصوف. من مؤلفاته:"مختصر في المنطق" و " مختصر التفتازاني على الكشّاف" و " مختصر إكمال الإكمال للأُبِّي على صحيح مسلم" = انظر: "شجرة النور الزكية في طبقات المالكية"(1/ 266) .
(2)
"شرح أم البراهين "(ص 61 - 62 - مع حاشية الدسوقي) . وانظر كذلك: "شرح الصاوي على جوهرة التوحيد"(ص 245 - 246) .
الظلم مسلوبًا عنه؛ لفَقْدِ شرْطه المُصحِّح له، لا لفقْده في نفسه»
(1)
.
وحقيقة الأمر: أنّ ما ذهب إليه الأشاعرة من نفْي سببيَّة العمل في حصول الثواب؛ بناءً على هذين الأصلين = باطل. فأمّا بطلان الأصل الأول؛ فإنّ حرْف "التأثير" فيه إجمال واشتراك. فالنَّفي والإثبات بإطلاق يستلزم الغلط على الشرع فإنّهم إنْ عَنَوا بـ" التأثير" تأثير السبب في مسببه تأثيرَ اختراعٍ، وإبداع؛ بحيث يستقل السَّببُ بالأَثر من غير مُشَارِكٍ مُعَاوِن، ولا مُعَاوِقٍ مُمَانعٍ = فهذا عينُ الإشراك مع الله؛ الذي ينفي مفهومَه أهلُ السنة والجماعة «بل الله وحده خالق كل شيء، لا شريك له، ولا ندّ له. فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} فاطر: 2 ({قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} سبأ: 22 - 23 {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)} الزمر: 38»
(2)
.
وإنْ عَنَوْا بـ"التأثير" عدم استقلال السبب في حصول المسبّب؛ الذي لا بدّ له من شروط تنضمّ إليه، وموانع تنتفي عنه - وكلّ ذلك مخلوق لله سبحانه وتعالى، خاضع لمشيئته -؛ فهذا إثبات سبب، لا على جهة الاستقلال = ونفْي التأثير بهذا الوجه ركوبٌ للمُحال، ومناقَضة للضرورة النقلية والعقلية. فالباري سبحانه قد أثبت تأثير السبب؛ لطبيعته الشرعية،
(1)
"الاقتصاد في الاعتقاد"(242 - 243) . وانظر: " شرح جوهرة التوحيد"، للصاوي (ص 228) .
(2)
"مجموع الفتاوى"(8/ 134 - 135) .
والجَزَائيَّة. بل قد قال ابن القيم رحمه الله: «ولو تتبّعْنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة؛ لزاد على عشرة آلاف موضع»
(1)
.
كما قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} الأعراف: 57
وقال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} الحاقة: 24
وغيرها من الدلائل.
وإنكار الأشاعرة تأثير الأسباب في مسبباتها؛ راموا به تحقيق الربوبية، في حين أنّه في حقيقة الأمر يعود على ما قصدوه بالإبطال؛ فإنه أقرب إلى نفْي الخالق من أن يدلّ على وجوده وكمال ربوبيّته. وبهذه الثغرة استطالت عليهم الفَلاسِفةُ، فهذا أبو الوليد ابن رُشْد يشغب عليهم بما قرروه بقوله: «وبالجملة؛ فكما أن من أنكر وجود المسبّبات مُرَتَّبةً على الأسبْابِ في الأُمور الصناعية، أو لم يدركها فهْمُه؛ فليس عنده علم بالصناعة، ولا الصانع = كذلك من جحد وجود ترتيب المسببات على الأسباب في هذا العالَم؛ فقد جحد الصانع الحكيم -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا-
…
[و] متى رفعْنا الأسباب والمسببات؛ لم يكن ها هنا شيءٌ يُردّ به على القائلين بالاتفاق - أعني: الذين يقولون: لا صانع ها هنا-، وأن جميع ما حدث في هذا العالَم إنما هو من الأسباب المادية؛ لأن أحد الجائزَيْن هو أحقّ أن يقع عنه الاتفاق منه أن يقع عن فاعلٍ مختار
…
»
(2)
.
وأما بطلان الأصل الثاني: فإنّ ما ذكروه من جواز فعل كلّ مقدور
(1)
"شفاء العليل"(2/ 534) .
(2)
"الكشف عن مناهج الأدلّة"(ص 166 - 167) .
عليه = تعطيل لعدْل الربّ تبارك وتعالى. والأشاعرة جعلوا الظلم من قبيل الممتنع لذاته؛ فلا تتعلّق به القُدْرة، فيبقى أنّ كلّ ممكن إذا قُدِّر وجودُه فهو عدلٌ، وليس ظُلمًا. وفسّروا الظلم بأنه: التصرّف في ملك الغير - وكلّ ما سواه ملكه -؛ في حين أن هذا التفسير مخالف لمقتضى اللسان والشرع؛ فإن الظلم في لسان العرب: وضْع الشيء في غير موضعه. قال الأصمعي: «وأصل الظلم: وضْع الشيء في غير موضعه»
(1)
.
وأمّا دلالة الشرع على هذا المعنى فإن قول الله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)} النحل: 118 وقوله الله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلْتُه بينكم مُحرَّمًا؛ فلا تظالَموا)
(2)
=تمدُّحٌ منه سبحانه بتنزُّهِه عن الظلم؛ بكونه ممكنًا مقدورًا عليه، لكن الربّ تعالى لا يفعله؛ لكمال عدله ورحمته، لا لأنه ممتنع عليه
(3)
؛ إذ التنزُّه مما لا يقع تحت القدرة لا يتضمّن مدْحًا، ولا كمالًا.
ومن عدله وحكمته: ألاّ يعاقِب أولياءه، وألاّ يسوّي بينهم وبين أعدائه، كما قال سبحانه:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} القلم: 35 - 36 وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الجاثية: 21
ثم؛ إنّه لو كان الظلم ممتنعًا على الله تعالى لما أمّن أهلَ الإيمان من وقوع الظلم عليهم؛ فإن التأمين يكون ممن الممكن لا من الممتنع؛
(1)
"تهذيب اللغة"، للأزهري (4/ 383) .
(2)
أخرجه مسلم: كتاب "البر والصلة"، باب "تحريم الظلم"(4/ 1994 رقم [2577]) .
(3)
انظر: "قاعدة في معنى كون الربّ عادلًا"، لابن تيمية (1/ 124 - ضمن جامع الرسائل) .
لذا قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} طه.
وبهذا يتبيّن فساد ما ذهبتْ إليه كلتا الطائفتين: الاعتزالية، والأشعرية. في فهمهما للأحاديث السابقة. وأنّ ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة هو أسعد القولين بالصواب.
الباب الخامس دَفْعُ دَعْوَى المُعَارِضِ العَقْلِيِّ عن الأحاديث المتعلّقةِ بالغيبيّات
وفيه أَربعة فصول:
- الفصل الأول: دَفْعُ دَعْوَى المُعارِض العَقْليِّ عن الأحاديث المتعلّقة بالملائكة والجن والشياطين.
- الفصل الثاني: دَفْعُ دَعْوى المُعَارِض العقلي عن بقيَّة الأحاديث المتعلّقة بالشيطان.
- الفصل الثالث: دَفْعُ دَعْوى المُعَارِض العقلي عن الأحاديث المتعلّقة بالرُّؤيا.
- الفصل الرَّابع: دَفْعُ دَعْوى المُعَارِض العقلي عن الأحاديث المتعلّقة ببقيّة أحاديث الغيبيّات.